ترجمة وتحرير نون بوست
في 9 أغسطس من عام 1945، أسقطت الولايات المتحدة قنبلة نووية على ناغازاكي، المدينة التي تقع على خليج طويل وضيق في أقصى جنوب جزيرة كيوشو في اليابان.
منذ البداية، كان هذا الهجوم مختلفًا عن القنبلة الذرية التي تم إسقاطها على هيروشيما قبل ثلاثة أيام، ولكن حادثة تفجير المدينتين انصهرتا معًا في الذاكرة الجمعية البشرية، لدرجة أننا أصبحنا نستخدم مصطلح “القنبلة” للإشارة إلى كلا الحدثين، وبالمحصلة تم دفع حادثة ناغازاكي إلى حافة النسيان.
العديد من الأمريكيين يصدقون الرواية الرسمية التي تسردها حكومتهم والتي تقول بأن القنبلتين اللتان تم إسقاطهما على التوالي ضمن فترات متقاربة، أديتا إلى استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية، ولكن أصبح من المعروف الآن على نطاق واسع بأن استسلام اليابان استثاره إلى حد كبير قرار الاتحاد السوفياتي بالانضمام إلى الحلفاء في الحرب ضد اليابان؛ فقبل 11 ساعة من تفجير ناغازاكي، عبر 1.500.000 جندي من القوات السوفيتية إلى منطقة منشوريا الواقعة في شمال الصين، والتي كانت تسيطر عليها القوات اليابانية، وهاجمت الجيش الياباني هناك على ثلاث جبهات.
الولايات المتحدة كانت تتوقع هذا الهجوم السوفييتي، ولكن إسقاط القنبلة الذرية الثانية لم يكن متزامنًا مع حدث معين، فلم يكن متزامنًا مع الغزو السوفياتي، أو مع استجابة طوكيو لشروط الاستسلام، أو حتى استجابة للأوامر التي يعطيها الرئيس الأمريكي حينها هاري ترومان، والتوجيه الوحيد المتعلق بالقنبلة الذرية كان يتمثل باستخدامها ضد اليابان بمجرد جاهزيتها، وفعلًا وفي يوم 8 أغسطس، انتهت عملية تجميع القنبلة الثانية.
في صبيحة اليوم التالي، وقبل تفجير ناغازاكي بـ30 دقيقة، تم عقد اجتماع للمجلس الأعلى للحرب في اليابان في محاولة أخرى للتوصل إلى اتفاق على شروط الاستسلام، حيث أنهى إعلان ستالين للحرب أي أمل للمساعدة السوفيتية في الوصول إلى شروط استسلام أكثر ملائمة.
كان أعضاء المجلس الذين يلحّون على إعلان الاستسلام فورًا، يشعرون بقلق بالغ إزاء نقص الغذاء والإمدادات الذي تعاني منه القوات اليابانية، الوضع الداخلي المتردي في اليابان، وقصف هيروشيما بالقنبلة النووية، أما العسكريون اليابانيون فكانوا على استعداد للقتال حتى الموت بغية ضمان الحفاظ على سيادة الإمبراطور هيروهيتو في حقبة ما بعد الحرب، وعندما وردت أنباء عن هجوم ناغازاكي، استمرت المداولات دونما ذكر مطول لهذه الحادثة، وفي تلك الليلة، كسر هيروهيتو الجمود وأعلن استسلامه.
من وجهة النظر الأمريكية، طغت هيروشيما على ناغازاكي منذ البداية، ففي الوقت الذي اجتاحت فيه القنبلة النووية الأولى عناوين الصحف، لم تحصل ناغازاكي على حصتها الكاملة من الشهرة الإعلامية، حيث تقاسمت الصفحات الرئيسية مع حدث التقدم السوفييتي، وفي خطاب إذاعي بُث مساء يوم 9 أغسطس، أوجز ترومان الإطار السياسي والاقتصادي لأوروبا في حقبة ما بعد الحرب، وجاء على ذكر إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما لمرة واحدة فقط، ولكنه لم يذكر ناغازاكي.
على الأرض، تسببت القنبلة بمقتل 74.000 شخص في ناغازاكي فورًا أو خلال خمسة أشهر من القصف، ومن بين هذا العدد الهائل لم يكن هناك سوى 150 فردًا عسكريًا، ونجم عن التفجير أيضًا إصابة 75.000 شخص آخر، علمًا أن هذه الأرقام لا يدخل ضمنها أولئك الذين مرضوا وقضوا نتيجة للآثار الإشعاعية للقنبلة النووية في العقود القادمة.
في البداية، ظهرت على أجساد هؤلاء بقع أرجوانية اللون، تساقط شعرهم، وارتفعت درجة حرارتهم، عانوا من التهابات، وتورم ونزيف باللثة، وفي وقت لاحق، ارتفعت معدلات الإصابة بالسرطان بشكل كبير في المنطقة، وعاش الناجون من هذه المآساة، والذين يعروفون باسم هيباكوشا، في خوف دائم من المرض والموت.
من جهتها فإن الولايات المتحدة أنكرت وقمعت هذا الجزء من القصة؛ ففي خريف عام 1945، دحض مسؤولون أمريكيون رفيعو المستوى التقارير الإخبارية التي تتحدث عن وقوع وفيات ناجمة عن التعرض للإشعاع النووي، ولسنوات قادمة، فرضت سلطات الاحتلال رقابة صارمة على التقارير الإخبارية، الصور، البحوث العلمية، والشهادات الشخصية حول آثار هذه الهجمات.
وبغية مواجهة الانتقادات المتزايدة حول حادثة استخدام القنبلة النووية على المدينتين، ألّف القادة الأمريكيون طروحات تزعم بأن هذه التفجيرات أدت إلى إنهاء الحرب، وإنقاذ حياة حوالي مليون أمريكي، كانت ستُزهق أرواحهم لولا منع اليابان من غزو أمريكا عن طريق القنبلة النووية، علمًا أن هذه التقديرات حول الخسائر التي جاءت ما بعد الحرب هي أعلى بكثير من التقديرات التي كانت مطروحة قبل إلقاء القنبلة النووية، ولكن بالمحصلة صدّق معظم الأمريكيين هذه الرواية.
قلة فقط من الأمريكيين يعرفون الكثير عن ناغازاكي، المدينة التي كانت تشكل مركزًا للتجارة في نهاية حقبة الـ1500، وكانت في طليعة مراكز الحضارة والحداثة في وقت مبكر من عمر البلاد، والمركز التبشيري الكاثوليكي الكبير، وعندما حظرت اليابان الدين المسيحي رسميًا في 1614، ومن ثم أغلقت حدودها مع الاتصال الخارجي من حوالي عام 1630 وحتى أوخر 1850، سُمح لناغازاكي وحدها بمواصلة التجارة الدولية المحدودة، حيث كانت تعرّف سكان المدينة المتزايدين على الفنون والعلوم والآداب الأسيوية والأوروبية، وواصلت ناغازاكي ازدهارها بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية بين اليابان والغرب، لتصبح ثالث أكبر مدينة لبناء السفن في العالم، والمسيحيون الذين أخفوا إيمانهم لفترة طويلة، عادوا للظهور من جديد، حيث أصبحت ناغازاكي موطنًا لأكبر كنيسة كاثوليكية في شرق أسيا، وإلقاء القنبلة النووية على المدينة أسفر عن مقتل ما يزيد عن 10.000 مسيحي كاثوليكي.
سوميتيرو تانيغوشي، 16 عامًا، كان يقوم بتسليم البريد على دراجته في الزاوية الشمالية الغربية من المدينة عندما قذفت به قوة الانفجار بالهواء، وحتى من على بعد ميل كامل، استطاعت الحرارة الحارقة اختراق قميصه القطني على الفور، وحرق جلد جسده من منطقة الظهر بالكامل وحرق ذراع واحدة، وبعد ثلاثة أشهر، تم نقله أخيرًا إلى مستشفى تابع للبحرية يبعد 22 ميلًا شمالي المدينة، حيث رقد على بطنه لأكثر من ثلاث سنوات، وترجى الممرضات ليسمحن له بأن يموت ليتخلص من عذابه اليومي، وفي وقت لاحق، وبعد أن تعلم الجلوس والوقوف والمشي في نهاية المطاف مرة أخرى، اشتعل غضب تانيغوشي احتجاجًا على الدمار النووي الذي لم يكن لازمًا والذي أحدثته أمريكا لمدينته وشعبه.
على مدى السنوات الـ70 الماضية، عانى السيد تانيغوشي وعشرات الآلاف من الهيباكوشا الآخرين من الإصابات العقابية، الأمراض التي ظهرت بشكل متأخر الناجمة عن التعرض للإشعاعات الذرية، والمخاوف المؤرقة المتمثلة بتمرير الاختلالات الوراثية لأبنائهم وأحفادهم، والكثير من هؤلاء اختاروا عدم التحدث عن تجارب القنبلة الذرية، حتى داخل أسرهم، ولكن في خطوة مرنة، اختار السيد تانيغوشي وعدد قليل من الهيباكوشا منحى شخصيًا للغاية، يتمثل بتحدثهم علنًا عن تجربة بقائهم على قيد الحياة في ظل الكارثة النووية.
هؤلاء لا يروون قصصهم لتعزيز ظهور اليابان بمظهر الضحية، أو للحد من آثار الهجوم على ميناء بيرل هاربور، أو لتقليص حجم معاناة المدنيين الأسيويين والعسكريين الحلفاء الذين قضوا على أيدي الجنود اليابانيين، بل إنهم يروون قصصهم للقضاء على الجهل المستشري حول واقع الحرب النووية، وللقضاء على مخزونات الأسلحة النووية في جميع أنحاء العالم.
أخيرًا، لا تزال الرواية الرسمية تسيطر على الرأي السائد لدى معظم الأمريكيين، وضمن هذه القصة الرسمية، تتلاشى ناغازاكي من الذاكرة البشرية الجمعية، ولكن لا ينبغي علينا أن نسمح لها بالاضمحلال من رؤيتنا، والوقت المتاح أمامنا لفهم واستيعاب وتقدير تجربة الناجين من الحرب النووية ينفد بشكل متسارع، فهم وحدهم من يستطيعون أن يخبرونا عن هذه التجربة التي عاشوا في حقبتها، والمشكلة أن حياتهم تقارب من نهايتها عمّا قريب.
المصدر: نيويورك تايمز