تتبنى أنظمة الاستبداد العربي العسكرية سياسات القتل والإعدام لتضمن قدرتها على الاستمرار رغم أنف الشعوب ورغمًا عن كل ضمير وعقل وخلق ومبدأ ديني وأخلاقي وإنساني وقانوني، ولا تصل الأنظمة لمصادرة الحق في الحياة بالقتل والإعدام إلا بعد أن تصادر كافة الحقوق الأساسية وتنتزع من الناس حق الاختيار بالانقلابات العسكرية والأنظمة السلطوية المفروضة قسرًا، وتنتزع حق العيش الكريم بالنهب والسرقة والفساد والتجويع؛ فتكون بعد ذلك قادرة على مصادرة الحق في الحياة نفسه بالقتل في الشوارع والساحات والميادين كما يحدث في مصر طوال خمس سنوات دامية، أو بالإعدام المقنن كما يريد السيسي أن يفعل، أو بإعدام الإنسان بالتجويع والإحراق والإغراق وسد أبواب الأمل دفعًا له للنجاة بالهرب أو الانتحار، ما نقوله في مصر منذ اللحظة الأولى أننا لم نكن وحدنا المقتولين والمظلومين في مصر، وأن الإعدامات لو نفذت فستطال مستقبل الوطن ومستقبل الناس قبل أن تطال أجساد المشنوقين ظلمًا بغير حق.
ذلك لأن هذه الأنظمة العسكرية المستبدة هي نقيض للكرامة ونقيض للحرية وضد لكل معاني الحق والخير والجمال، وهي تعادي بالذات كرامة الإنسان باعتبارها خطرًا على الأمن الفرعوني ومساسًا بسيادة الحاكم المتأله.
هذه الكرامة الإنسانية التي اختص الله بها الإنسان فجعله موضع حكمته ومثوبته وعقوبته وامتحانه وأحسن تصويره واستخلافه واستعماره في الأرض جامعًا له من فضائل الخير والشرف بعد أن أوجده ولم يكن شيئًا مذكورًا وخلقه على الفطرة وهداه السبل ووهبه الحرية والاختيار وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض وعلمه الأسماء واللسان والمعنى وآتاه مفاتيح المعرفة والفكر والنظر والبصر والقلب والبصيرة وجعل الدعاء صلة ووسيلة وحرم المساس بكرامته وعرضه وماله وبدنه وأهله، وهي كذلك (أي الكرامة الإنسانية) في صلب مشروع الحداثة والاستنارة الحقيقية على الأقل في صورتها النظرية وبنيتها القانونية التي تجعل حقوق الإنسان وأهمها الكرامة أساسًا للتشريع والحكم والإدارة؛ بما يجعل المعركة الحقيقية ليست بين التراث والحداثة كما يزعم بعضهم، وإنما بين الحرية وقوة الحق وبين العبودية وحق القوة، فكلا المنظورين التراثي والحداثي يجعلان كرامة الإنسان وحقوقه أصلاً ومبدئًا ومنطقًا ومنطلقًا وغاية.
ويستحق الحفاظ على معنويات الأحرار البذل والعناية، ويليق بالتضحيات أن تبذل لقاء حماية الكرامة العامة والخاصة جزاءً لائقًا بتكريم الله للإنسان، بما يتجاوز الوجود المادي للحضور المعنوي والروحي في عالمي الغيب والشهادة بما آتاه الله من طاقة فكرية وروحية ووجدانية تتجاوز الوجود المادي الإنساني المجرد، وتتجاوز حتى الأفكار والأيديولوجيات والانتماءات المختلفة.
يتخيل بعض المحسوبين على الثورة أن الإعدامات ستكون وقودًا للثورة تشعلها وتغذيها (!) في فكر براجماتي غير مبدئي لا يتناسب مع مبادئ الثورة ولا قيمها الحاكمة ولا سقفها الأخلاقي المرتفع ولا عنايتها ورعايتها بأبنائها وأبطالها ورموزها، وإذ يظن بعضهم أن فكرته من الناحية العملية (دون غيرها!) يمكن أن تكون ذات جدوى؛ يذهل المتأمل في مسيرة حركات الثورة والتحرر عبر العالم والتاريخ أن أولوية تحرير الأسرى كانت في قلب التراثين الثوري والإسلامي وكانت من الأهمية بمكان حتى لترتفع فوق تلك المكاسب السياسية والجزئية الرخيصة؛ لأنها تتعلق بأصل الحصانة والمكانة الروحية للأمة وحق الإنسان على المجموع وقيمته لديهم ومكانته عندهم، وهذا الاعتزاز بالمجموع والاحتفاء بالفرد هو ما يجعل الإنسان يقبل التضحية طوعًا واختيارًا ويقبل أن ينوب عن الجميع في دفع تكاليف التغيير وأثمانه الباهظة ويضفي على استمرار المسيرة والتضحية المعنى والقيمة؛ ولأن حركة الجهاد في التاريخ الإسلامي لم تتوقف دفعًا وفتحًا فإن وقوع الأسرى المسلمين في يد الأعداء استمر بلا توقف لكن بقائهم في قبضة العدو لم يطل لأن الأمة عرفت كيف تفتديهم وتحررهم وتسترخص البذل لإنقاذهم حقًا وواجبًا، ومكرمة لعموم الأمة لا خصوص المحبوسين فقط.
فاتفق الفقهاء أن تخليص الأسرى واجب ولو تطلب فدائهم الغالي والعسير وإلا أثمت الأمة، وسجلت جهود تحرير الأسرى أنصع الصفحات في التاريخ الإسلامي حماية لعرض الأمة وصونًا لكرامتها من الرق والهوان والاستباحة!
هذه تذكرة واجبة لرفقاء الثورة والميادين والساحات، أما سواهم من المتخاذلين المتفلتين من كل مبدأ أخلاقي وضميري وإنساني الذين يصرحون أو يضمرون رغبة الخلاص من المعتقلين ولو بالإعدام حتى يستريحوا من القلق والأعباء، فليعلموا أن البر لا يبلى والإثم لا يُنسى والديان لا يموت، والظلم ظلمات على الظالمين لا المظلومين.
وهي في المقام الأول تضامن مفتوح وكامل وغير مشروط مع كل أسرى الحرية والتحرير في سجون مصر وسوريا وفلسطين، اعتزازًا واعتذارًا، نحن على الدرب والعهد، وتحريركم واجبنا ولو قصرنا، حتى يجمع الله بيننا بالحق ويضم شتاتنا وهو خير الفاتحين.
نُشر لأول مرة في عربي 21