يتحدث الجميع الآن عن ضرورة الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية التي اندلعت منذ أكثر من أربعة أعوام بالتزامن مع بدء الربيع العربي، الثورة السورية التي تمت عسكرتها قسرًا أمام نظام بشار الأسد الذي تشبث بخيار المواجهة المسلحة للثورة وسط دعم إيراني روسي لهذا التوجه، في المقابل دخلت أطراف إقليمية أخرى لدعم فصائل مسلحة ضد نظام الأسد، ومع كل ذلك وقف الجميع ليشاهد تدمير الدولة السورية على يد آلة الحرب النظامية التي تواجه الفصائل السورية التي قررت عدم الاستسلام للنظام، إلى أن لحقت بتلك الفصائل معضلة المقاتلين الأجانب والتطورات الدراماتيكية الأخرى كظهور داعش وغيرها.
طوال تلك الفترة وقفت القوى الدولية والإقليمية تتحدث عن ضرورة إنهاء الأزمة السورية، لكن لم يأخذ أي طرف فعل جدي لإنهاء تلك الأزمة، على سبيل المثال لا الحصر الولايات المتحدة الأمريكية تململت ولم تقم بخطوة الحظر الجوي في سوريا منذ البداية على نظام الأسد كما حدث في الثورة الليبية، ولم يتفق الغرب على إلحاق الثورة السورية بالثورة الليبية عن طريق إسقاط الأسد وإلحاقه بمصير القذافي.
وكذلك فضلت القوى الإقليمية وعلى رأسها السعودية مشروع الحرب بالوكالة الذي فشل طوال السنوات الأربع الماضية أمام إيران في سوريا ولم يزد الأمر إلا تعقيدًا، في ظل غياب لأي رؤية واضحة لمرحلة ما بعد بشار الأسد؛ الأمر الذي جعل السعودية ترضخ للأمر الواقع ألا وهو بقاء بشار الأسد في سدة الحكم إلى الآن.
العامل المشترك بين الولايات المتحدة الأمريكية اللاعب الأقوى دوليًا على الساحة، وبين المملكة العربية السعودية وتركيا وحلفائهم في المنطقة كأكثر القوى الإقليمية انغماسًا في الأزمة السورية كان أمر استبعاد بشار الأسد من أي تسويات قادمة للأزمة سواء بحسم عسكري أو بتفاوض سياسي، وفي المقابل كانت وجهة النظر الروسية الإيرانية ترى ضرورة أن يشمل أي حل للأزمة السورية تواجد بشار الأسد كأمر واقع، وظل الأمر هكذا سجال بين الرؤيتين وصراع لإرغام أحد المعسكرين على قبول رؤية الآخر للحل.
ومع مرور الوقت وتتابع التطورات الميدانية شكك البعض في موقف الولايات المتحدة بالتحديد، التي تتحدث كثيرًا عن أنه لا يوجد دور لبشار الأسد في المرحلة المقبلة من الدولة السورية، وبالرغم من ذلك فليس هناك أي بوادر لتنفيذ ذلك الأمر على أرض الواقع، في حين أرجع البعض التناقضات الأمريكية هذه بسبب ظهور داعش كمستجد ميداني؛ وهو ما جعل الولايات المتحدة تتراجع في فكرة سرعة إسقاط الأسد، إذ رأت أنه من الضروري ترتيب البيت السوري الداخلي أولاً قبيل إسقاط الأسد، ورأى آخرون أن الولايات المتحدة رأت في بقاء نظام الأسد – ولو مؤقتًا – مصلحة لمحاربة داعش.
نسترجع هذه المواقف مع تجدد الحديث في الآونة الأخيرة عن محاولات لتسوية الأزمة السورية بدأت بأنباء متدوالة عن لقاء بين مسؤول مكتب الأمن القومي في النظام السوري، اللواء علي مملوك، وبين ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الروايات الثلاث التي أحاطت بهذا اللقاء مختلفة على مكان انعقاده لكنها متفقة في حدوثه، فصحيفة الأخبار اللبنانية المقربة من حزب الله تؤكد أن اللقاء تم بوساطة روسية في الرياض، وجاءت صحيفة اللواء اللبنانية أيضًا لتؤكد أن اللقاء انعقد في جدة بالفعل، لكن المصادر التركية تؤكد انعقاد اللقاء في موسكو بعد وساطة إماراتية مصرية، كل ذلك لن يؤثر على هدف اللقاء الذي أجمعت عليه المصادر الإعلامية ألا وهو محاولة إقناع السعوديين بالتخلي عن فكرة إزاحة بشار الأسد.
الأتراك حلفاء السعودية الآن في الأزمة السورية غير راضيين مطلقًا عن هدف ومضمون اللقاء، محذرين من الرضوخ للضغط الروسي الإماراتي المصري بشأن إبقاء الأسد، مؤكدين أنه يتم ابتزاز السعودية بوجود “داعش” في سوريا لتسويق وجهة النظر القديمة الروسية الإيرانية التي ترى ضرورة وجود بشار الأسد كجزء من الحل في سوريا كأحد عوامل مواجهة داعش.
أما على الصعيد الأمريكي فالموقف باهت حتى الآن ولكن يمكن استطلاعه عبر مؤشرات عدة ربما أهمها حديث أوباما للنيويوركر عن الأزمة السورية، والذي أكد فيه أن النافذة انفتحت قليلاً لحل سياسي للأزمة في سوريا، وأضاف أيضًا أنه لا حل في سوريا بدون مشاركة إيران، ونستطيع أن نقرأ هذه التصريحات في سياق إتمام مستحقات الاتفاق النووي لإيران في المنطقة، لكن هذا الأمر يعني بكل وضوح على الأقل تراجعًا أمريكيًا عن ثابت “إزاحة الأسد” ليتحول الأمر إلى متغير قابل للنقاش.
الإدارة الأمريكية التي تعطي الأولوية لمحاربة داعش تريد أن توظف وتدفع أولويات القوى الإقليمية في هذا الاتجاه وفقط في هذا التوقيت، ولو على حساب التقارب من الموقف الإيراني الروسي بشأن معضلة الأسد، هذا التقارب سيعني بالطبع تباعد عن الموقف السعودي التركي القطري الذي يدفع الولايات المتحدة في اتجاه إسقاط الأسد أولًا، وتلك هي أزمة الولايات المتحدة حاليًا بين هذا وذاك.
فقد أحرزت الولايات المتحدة تقدمًا مع الأتراك بشأن ملف محاربة داعش، ويرى الأتراك أنهم سيستخدمون هذا الأمر في صالحهم، إذ سيكون في مقابل منع تقدم أكراد سوريا على الأرض، ومن ثم التحول لمواجهة الأسد عبر منطقة عازلة وتدريب مقاتلين من المعارضة، ولكن الخطة لم تكتمل حتى الآن ولم تحسم الولايات المتحدة خياراتها تجاه سوريا.
بعض المحللين يرون هذا التباطئ الأمريكي “تكتيكيًا”، حيث الحديث عن دعم الولايات المتحدة لروسيا في محاولات إقناع السعودية بالتخلي عن مطلب إزاحة الأسد حتى إذا ما نجحت روسيا في ذلك فإن الولايات المتحدة ستبادر إلى اتخاذ موقف يناسب التغير في الموقف السعودي، أما إذا تشبثت السعودية برؤيتها للحل في سوريا بدون الأسد بدعم تركي، فإن الولايات المتحدة حينها لن تستطيع ترك الأتراك والسعوديين وحدهم في اتخاذ قرار الحسم العسكري في سوريا.
كل ذلك يتزامن مع محاولات إقليمية لخلخلة الوضع في سوريا، فوليد المعلم وزير خارجية نظام الأسد في سلطنة عُمان في الزيارة الأولى له إلى دولة عربية منذ اندلاع الثورة السورية قبل أربع سنوات، إذ يجري المعلم محادثات مع وزير الخارجية العماني، يوسف بن علوي، في العاصمة مسقط، وهي بالتأكيد محادثات متعلقة بالأطروحات الجديدة لحل الأزمة السورية.
بينما يرى فريق من المتابعين أن دخول السعودية مفاوضات مع روسيا عبر سفر وزير خارجيتها إلى موسكو هو أمر لكسب الوقت ليس إلا لمحاولة إقناع الروس بعدم معارضة إقامة المنطقة العازلة على الحدود التركية ، مع عدم وجود تراجع في السياسة السعودية تجاه الأزمة السورية.
أما الأتراك فواقعهم على الأرض مختلف ويبدو أنهم لا يريدون أي تسوية دبلوماسية في القريب إلا بعد إنهاء مشكلة الأكراد، وهو ما يفهم منه أن الإدارة التركية تميل للتصعيد ضد النظام السوري وداعش في نفس التوقيت، لتقوم بتقليم أظافر الأكراد ضمن هذه الحملة، فربما ينتظر الأتراك ثباتًا في الجبهة الداخلية أولًا بانتخابات مبكرة أو بتحالف لتشكيل حكومة، وذلك لخوض غمار تلك الحرب بشكل أكثر جدية من الوقت الحالي.
وهو ما يعني معارضة تركيا لأي حل دبلوماسي حالي تطرحه روسيا أو إيران لأنها ترى في ذلك محاولات لإنقاذ الأسد من مصير السقوط، بسبب وصوله لذروة الضعف في حين بلغ الدعم الإيراني الروسي أيضًا ذروته لنظامه ولم يعد أمامهم فعل شيء أمام حتمية انهياره إلا عبر إطلاق مبادرات سياسية لحل الأزمة، بذلك ترى تركيا أن الفرصة مواتية لإسقاط الأسد وأن أي مبادرات سياسية تظهر حاليًا ما هي إلا محاولات لوضعه في المشهد عنوة.
فإذا ما تم تغليب وجهة النظر الروسية الإيرانية فإننا من الممكن أن نشهد تسوية سياسية قريبة للأزمة برعاية روسية أمريكية بالتوافق مع السعودية، وأما الخيار الآخر فهو انفجار الحرب في سوريا إذا ما رفض الأتراك والسعوديون الحل السياسي بوجود الأسد، وبين هذا وذاك تبقى سوريا تنتظر حلًا قريبًا أو انفجارًا جديدًا.