“كيف تصبح قائدًا في 3 أيام” .. “المهارات القيادية في عصر العولمة” .. “كيف تجذب الآخرين” .. “القراءة السريعة” .. “دبلوم صناعة القادة” .. “الذاكرة الخارقة” … “صناعة التفوق وبرمجة العقول الباطنة”.. “كن مدربًا ومحاضرًا محترفًا في سبعة أيام”، هي مجموعة من العناوين ما فتئت تعترضنا أينما حللنا في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.
“مراكز معتمدة” يتم تفريخها بمعدل قياسي كل يوم، ولا تسل عن عدد المُدربين الذي يضيئون الدّروب ويعلمونك كل شيء، تعاني من ضعف في الشخصية؟ لم يهبك الله ملكة الخطابة؟ تعاني من مشاكل النوم؟ أمورك العائلية ليست عال العال؟ تريد تعلم التنويم المغناطيسي؟ لا تقصد طبيبًا ولا أخصائيًا، التنمية البشرية تقدم لك حلاً لجميع مشاكلك التي تعترضك يوميًا وتقترح عليك حلولاً أخرى لمشاكل قد تعترضك مُستقبلاً.
التنمية البشرية كما يُقدّمها أهلها
بالنظر إلى اعتمادها كثيرًا على النثر والكلام، لا غرابة في أن تجد ألف تعريف وتعريف للتنمية البشرية، ولا غرابة أيضًا ألا تجد بيُسر مادة أكاديمية مُتخفّفة من جرعات “الماركتينغ” الفجة التي لا تتعامل إلا بمنطق الخوارق أثناء تقديمها لها.
تقول بعض التعريفات إن وظيفة علوم التنمية البشرية هي وضع قواعد ومحاكاة التفوق البشري بحيث نرى أمامنا قواعد واضحة لكيفية الحصول على نفس النتائج أو نتائج مقاربة كالتي حصل عليها الناجحون في حياتهم. فكما نحتاج إلى علم النحو لنعرف أن هذا مرفوع وهذا منصوب وهذا مجرور وبالتالي ننطقه النطق الصحيح ، فإننا كذلك نحتاج إلى علوم التنمية البشرية لنعرف كيف فكر فلان وخطط فلان وتصرف فلان وغيره من الناجحين، وبالتالي نتمكن من الوصول للنتائج الإيجابية التي وصلوا إليها.
وينقسم علم التنمية البشرية إلى قسمين رئيسيين:
الأول: معرفة سلبيات الإنسان وما يعوقه عن الإنتاج ( نقاط الضعف أو الخلل) ومحاولة إصلاحها، وذلك بالتخلص من المشاعر السلبية؛ الخوف، القلق، الغضب، عدم الثقة بالنفس، الأفكار السلبية، وعدم وضوح الرسالة والرؤية.
الثاني: معرفة إيجابيات الإنسان وما يساعده على زيادة إنتاجه (نقاط القوة أو المميزات) ومحاولة تقويتها وتعزيزها، وذلك بمعرفة التخطيط الجيد وإدارة الوقت والتحكم بالذات والتفكير الإيجابي وزيادة الثقة بالنفس.
وتحرص هذه التعريفات على بيان الفرق بين البرمجة اللغوية العصبية NLP التي هي علم من ضمن علوم التنمية البشرية Human Development وبين التنمية البشرية، باعتبار أن الأولى تعتمد على فرضيات ونظريات وبطبيعة الحال تقنيات أما التنمية البشرية ما هي إلا تسمية من أجل تعميم العلوم التي تهتم بتطوير وتأهيل وإعادة تأهيل الأفراد ومن هذه العلوم علم البرمجة اللغوية.
وهم أم حقيقة .. أم مزيج بينهما؟
يرى عديدون أن رواج التنمية البشرية شهد أوجه خاصة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية التى دمرت دولاً عديدة وحولتها إلى ركام، وحين أرادت أن تُعيد بناء نفسها، وأن تنحو نحو نهضة جديدة أدركت أن البشر هم الثروة الحقيقية، وأن قوة الأمم تكمن فيما تمتلكه من طاقات بشرية محفزة، ومدربة، ومؤهلة، وقادرة على خلق فرص للنمو والتطور والتعامل بكفاءة مع الاخطار المحدقة وابتكار الحلول لما يستعصي من أزمات.
ومع بداية التسعينات أعطت الأمم المتحدة لمفهوم تنمية البشر زخمًا هائلاً حين وسعت هذا المفهوم، فلم يعد قاصرًا على التفهم والسعي لتوفير احتياجات البشر من تحسين للصحة وظروف السكن والمعيشة وجودة التعليم، بل تجاوزه إلى تطوير المعارف واكتساب المهارات وخلق فرص الإبداع والاستمتاع بالحياة والتمتع بالحرية والكرامة وتقدير الذات.
وحتى نكون موضوعيين، من المهم أن نُفرّق فيما يُقدّم على أنه علم تنمية بشرية بين صنفين (بحسب ما حضرته بدافع الفضول)، فأما الأول فيتعلّق بمجموعة من المهارات التطبيقية التي قد تُساعدك في إدارة شؤونك اليومية وأما الثاني وهو المُتعلٌّق بدغدغة المشاعر والنفخ في الذهنيات المهزومة.
بالنسبة للمهارات، من نوع كيف تدير وقتك وكيف تدير مشروعك وكيف تعالج بعض المشاكل النفسية والسلوكية من جنس الخجل المفرط أو ضعف الشخصية أو حتى الأرق وكل ما يُلامس الواقع لا يُمكن أن نُكابر ونقول إن الإنسان لا يحتاجه، فحتى أشد الناس موهبة وتميزًا تجده دائمًا مُطالبًا بصقل مهاراته وتطويرها، المشكلة في هذا المجال لا تكمن في التقنية في حد ذاتها وإنما فيمن يُقدّمها، فمثل هذه العلوم هي علوم مختصة يديرها مُختصون إما في الإدارة أو في علم الاجتماع/ النفس السلوكي أو مختصون في باقي العلوم الإنسانية ممن يمضون سنوات في التحصيل العلمي الأكاديمي والبحثي التطبيقي المُكثف، إلا أنك عند البحث قليلاً في السير الذاتية للشباب (وحتى الكهول بالمناسبة) الذين يُنصّبون أنفسهم مُعلّمين لهذه المهارات، لا تجد سوى عشرات “الدبلومات” الموزعة بين كندا وأمريكا وحتى أوروبا (والتي يثير عددها العجب بالنظر إلى سن مُدّعيها) ولا تجد فيها اختصاصًا حقيقيًا من المُتعارف عليه في دنيا العلوم الإنسانية، وهو ما يُؤكّد أنه وفي حال اتفقنا على أن بعض ما يُقدّم في بوتقة التنمية البشرية هو من نوع المهارات التي يحتاجها الإنسان، سنتفق أيضًا على أن من يُقدّمها هم متطفلون على مجالات عدة من بينها الإدارة وعلم الاجتماع والطب النفسي، اختزلوا سنوات عديدة ضرورية للتحصيل العلمي من خلال قراءة بعض الكتب المُترجمة، ادّعوا فهمها وصاغوا ما فيها خطابًا يرتقي بشرف ليصبح “ماعون خدمة” (أداة استرزاق).
وحتى لا أطيل، الصورة شبيهة جدًا بمن قرأ كتابًا للتداوي بالأعشاب الصينية، فتأمل ما حوله من أعشاب تشبه تلك الموجودة في الكتاب (لأنه ليس في الصين)، ثم أعلن نفسها طبيبًا يداوي جميع الأمراض المستعصية والأقل استعصاءً.
بخصوص باقي العناوين المُثرثرة من نوع “الربح السريع” وحتى “التميز” وما إلى ذلك، فهي للأسف من بين أبرز أسباب خنوع هذه الأمة، ولا تختلف عن حبات الأسبرين التي تُسكّن الآلام، أذكر في سن الطفولة، كنت بعد مشاهدة كل حلقة من كارتون “الكابتن ماجد” أو “داي الشجاع” أو حتى “النمر المُقنع” أشعر بطاقة هائلة يُغذيها قدرة الطفل على الخيال والتحليق بعيدًا عن واقعه البسيط، كذا الأمر بالنسبة لهذا النوع من المحاضرات، فحتى وإن سنحت لك الظروف لتحضر ورشة يؤثثها أحد من يتقنون الكلام (لأن بعض من يقدمون أنفسهم كمدربين للناس يحتاجون تدريبًا كثيرًا) قد يفلح في دغدغة مشاعرك وبث بعض الإيجابية فيها، إلا أن تأثيرها موضعي جدًا، فما إن تغادر غرفة بيع الكلام حتى تعود لما أنت عليه من قبل مع فرق بسيط وهو سحب ثمن المحاضرة من رصيدك إن كان لك رصيد، وحتى لا أطيل، الصورة شبيهة جدًا بمن يذهب لعجوز لتقرأ له الفنجان، يعلم أنها تدجل عليه، لكنه فقط يبحث عن بعض الطمأنينة الكاذبة.
“تنمية الموارد المالية” (كسخرية من التنمية البشرية كما تعترضنا في أيامنا هذه) كما يُطلق عليها البعض تحتوي بالفعل ما قد نحتاجه في حياتنا العامة، خاصة إذا ما بحثنا عنه في دكاكين المُختصين لا العاملين فوضويًا ممن باعهم مدرب غيرهم شهادة بآلاف الدولارات، فعملوا لحسابهم يريدون بيع شهاداتهم أيضًا.
تبحث عن القيادة؟ القيادة لا تأتي في يوم وليلة بل هي مراكمة لنشاط سنوات تُساهم في نحته ظروف التنشئة والموهبة والرغبة الذاتية، وعوض أن تبحث عمن يُلقنك كيف تكون قائدًا “زاحم فإن ميدان الدنيا زحام” وشارك في الأنشطة الكشفية وفي العمل المدني والنشاط السياسي وستنحت لنفسك طريقًا.
تُعاني من بعض المشاكل النفسية؟ أقصر الحلول أن تُراجع مُختصًا في ذلك لا من يدعي “النبوة”.
تنويه: هذا المقال يندرج في حملة مقاومة تزييف الوعي والمعنى.