“سيدي الرئيس، علينا أن نمرر قوانين بالإعدام،” هكذا تحدث أحد الحاضرين في مؤتمر صحافي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني وغيره من المنظمات الإرهابية كما سُميَّت، وضرورة التعامل بقبضة حديدية معها، وهي كلمات لاقت تصفيقًا من الحضور، ثم تبعتها ابتسامة صامتة من أردوغان، والذي اتخذ مؤخرًا مواقف أكثر حِدة تجاه الحركة الكردية بعد مكاسبها الأخيرة على حساب حزب العدالة والتنمية في جنوب شرق البلاد، وبعد اتساع الهوة بين سياساته في سوريا وتحركات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سوريا، وهو وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني.
لا يملك أحد حتى الآن تفسيرًا لابتسامة أردوغان تلك، ولكن تصفيق الحضور الذي سبقها يشي بوضوح بالتحول الكبير في مواقف الكثير من الأتراك داخل تركيا، والذين اتجه أكثر من مليونَين منهم إلى التصويت لحزب الحركة القومية استياءً مما رأوه تهاونًا من أردوغان مع الأكراد، في مقابل طعنهم إياه في المشهد الأخير بسوريا، وبغض النظر عن صحة تلك الرواية من عدمها، حيث يعتقد الأكراد بدورهم أن أردوغان باعهم في كوباني، يبدو وأن تركيز أردوغان ينصب حاليًا على استعادة تلك الشرائح المحافظة.
لذلك، يمكن فهم التصعيد ضد الحركة الكردية لتحقيق ذلك الهدف، بالإضافة للمشاركة في قصف داعش وحزب العمال في آن، لعل وعسى يستعيد حزب العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية التي فقدها في الانتخابات المبكرة، والقادمة لا محالة، سواء في نوفمبر المقبل إذا ما فشلت جهود إنشاء حكومة ائتلافية، أو خلال الأعوام القليلة المقبلة حال تم تشكيل ائتلاف هش بين العدالة والتنمية والعلمانيين، حيث لا يتسم تاريخ الائتلافات التركية بالاستمرار طويلًا، ناهيك عن أن يكون ائتلافًا بين فصيلين تتباعد الرؤى بينهما بهذا الشكل.
على الرُغم من ذلك، وبغض النظر عما إذا كانت جهود أردوغان تلك ستحقق الأهداف المرجوة منها، فإن ترجيح كفة المعارك السياسية الداخلية على الرؤى الاستراتيجية طويلة المدى سيهدد كثيرًا من مصالح تركيا في المنطقة، لا سيما وأن بعض الآراء التي تمررها الحكومة التركية عن الملف الكردي وإقليم كردستان سوريا، المعروف بروجافا، ليست بالضرورة صحيحة، كما أن الاعتماد على حكومة كردستان العراق فقط لتحقيق “السلام” المأمول لم يكن واقعيًا من البداية.
الأكراد والهشاشة الجيوسياسية التركية
تدرك أنقرة أن تركيا منذ نشأتها تتسم بالهشاشة الجيوسياسية، ليس فقط لأن جنوب شرقها يعج بالأكراد المختلفين ثقافيًا عن الأتراك، ولكن لأن قواعد الجغرافيا نفسها قلما وضعت آسيا الصغرى المتاخمة لأوروبا واليونان والقسطنطينية في إطار سياسي واحد مع منطقة كردستان، ناهيك عن أن تلك الحالات القليلة غالبًا ما كانت فضفاضة بما يكفي لاستيعاب الاختلافات بين المنطقتين، كما كانت الحالة العثمانية، وهي سمة غابت تمامًا عن الجمهورية التركية الحديثة التي سلكت نهج الإنكار التام لوجود مسألة كردية، وأدت بالتالي لظهور حركات متطرفة مثل حزب العمال الكردستاني، في مقابل تراجع الشرعية الاجتماعية للدولة التركية والتي استمرت نتيجة قوتها والاعتراف الدولي بها ليس إلا، دون عقد اجتماعي حقيقي مع الأكراد على الأرض.
تغير الحال بعد دخول حزب العدالة والتنمية للسلطة، والذي اهتم بتنمية المناطق الكردية وتحقيق التقارب بينها وبين الأناضول، وتجاوب مع مطالب الأكراد الثقافية بعيدًا عن أيديولوجية الجمهورية المتطرفة، ليفتح الباب أمام الثقافة واللغة الكرديتين في المجال العام، ويجذب شرائح واسعة من الأكراد تجاه سياسات حزبه، لا سيما الشباب، وبعيدًا عن الحركات الكردية المتطرفة، والتي استمرت في الحصول على دعم الأجيال الأكبر والأكثر تمسكًا بالرؤى القومية، لتهدأ نيران الحرب بين الجيش التركي وحزب العمال، وتبدأ مسيرة “عملية السلام” التي دشنتها الحكومة مع حكومة كردستان العراق الناشئة آنذاك، وتترسخ شرعية الدولة التركية في الجنوب الشرقي بشكل غير مسبوق منذ العهد العثماني، وكانت تلك أول مرة بالطبع تصارح تركيا نفسها بخصوص الملف الكردي.
القاعدة الجيوسياسية للجنوب الشرقي إذن هي أن ضغط أنقرة على الأكراد يدفعهم بعيدًا عن شرعية الدولة التركية، ونحو التحالف مع قوى إقليمية أخرى، مثل سوريا في السابق، أو غيرها من قوى دولية تقدم الدعم مثل الولايات المتحدة وفق الظروف الإقليمية الأوسع، في حين يدفعهم استيعابها لهم وتقديمها للتنمية وتعزيز حقوقهم الثقافية للابتعاد عن الحلول الراديكالية والانسجام أكثر مع الإدارة التركية، لا سيما وأن أكراد تركيا أولًا يختلفون عن نظرائهم في العراق ثقافيًا ولغويًا في جوانب عدة، وثانيًا يدركون أنه ليس في صالحهم الانسلاخ بالكامل عن تركيا نظرًا للكثير من المزايا التي يتمتعون بها في ظل الدولة التركية الأكثر تقدمًا ورفاهة من سواها في المنطقة.
أربيل وحدها لا تكفي
تباعًا، كانت سياسات العدالة والتنمية على مدار العقد الماضي انصياعًا كاملًا لهذه القاعدة، وإدراكًا للحقائق الجيوسياسية على الأرض، بيد أن ذلك المنظور الجديد شابته مشكلة واحدة فقط ورثها حزب العدالة عن الجمهورية الأولى، وهي استمرار الاعتقاد بأن منطقة الجنوب الشرقي، أو شمال كردستان التاريخية بشكل عام، يجب أن تظل بمنأى عن تشكيل ثقل خاص بها، وهو اعتقاد أدى في السابق بالطبع لقمع كل القوى السياسية فيها، في حين أدى في عهد أردوغان إلى تعزيز الروابط مع حكومة كردستان العراق لتكون أربيل، والواقعة خارج تركيا، المعقل الرئيسي للثقل الكردي ثقافيًا وسياسيًا.
كان تلك الرؤية ذكية على أي حال وربما قادرة على تحقيق سلام نسبي على الأرض، إلا أنها ظلت قاصرة وواقعة جزئيًا في حالة الإنكار التركية السابقة نظرًا للفروق الكبيرة بين أكراد العراق وأكراد تركيا، وهي فروق تبدأ من اللهجة الكردية المستخدمة وحتى الأحرف التي تُكتَب بها اللغة، فأكراد العراق المرتبطون أكثر بالثقافة العربية يكتبون الكردية بالأحرف العربية، ويستخدمون بالأساس لهجة السوراني، في حين يكتب أكراد تركيا المرتبطون بالثقافة التركية بالأحرف اللاتينية، والسواد الأعظم منهم يتحدث بلهجة الكورمانجي.
علاوة على ذلك، ارتكزت الحسابات التركية إلى أوضاع ما قبل الربيع العربي بشكل كامل، وهي أوضاع تغيّرت بعد وصول الربيع لسوريا وتفكك النظام السوري وانحصاره في الجنوب، مما فتح الباب أمام الواقع الذي تجاهلته أنقرة، وهو قدرة أكراد شمال كردستان التاريخية على تشكيل حضور خاص بهم، وهو ما تجلى في ما يُعرَف اليوم بمنطقة روجافا التي انطلق منها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وثيق الصلة بحزب العمال، ليُربك الحسابات التركية تمامًا.
يذهب كثيرون إلى أن صعود روجافا يهدد بشكل صريح المصالح التركية، بيد أن هذا الافتراض مبالغ فيه في الحقيقة لأسباب كثيرة، أولها أن روجافا ليست عدوًا يمكن دحره بقدر ما هي واقع ذو جذور جغرافية وإثنية واضحة، كما أن شعبية التنظيمات الكردية السورية في تركيا أمر أيضًا له جذور نظرًا للتقارب الثقافي واللغوي بينهما أكثر من أكراد العراق، مما يعني أن بروز نجم روجافا أمر طبيعي كبحته فقط الخريطة القديمة للشرق الأوسط، وهو أمر يجب أن تتعامل معه تركيا بهدوء وواقعية تمامًا كما فعلت مع بزوغ كردستان العراق، وهو الأمر الذي كانت ترفضه بشدة في التسعينيات تمامًا كما ترفض روجافا اليوم.
أضرار العودة لزمن القبضة الحديدية التركية
التفاوض أو الحرب: لافتة في إحدى التظاهرات الكردية بجنوب شرق تركيا
لا يمكن إنكار الفجوة الكبيرة التي تفصل مصالح تركيا عن مصالح روجافا حاليًا، وهي فجوة يؤججها في الحقيقة الخطاب الكردي الذي يرى فيه الكثير من الأتراك المحافظين طعنًا في الظهر بعد سنوات من بدء عملية السلام، وإن كانت هناك مبررات لتلك الرؤية، إلا أنها تستند بالأساس إلى افتراض أن الانفتاح على أربيل كان كافيًا، في حين أن اختيار أربيل كان بالأساس من جانب تركيا وبالاتفاق مع مصالحها، دون وضع قابلية نشوء قوى كردية أخرى في المنطقة في الاعتبار، وهو ما حدث بالفعل.
المرارة السياسية بالطبع هي الأخرى تسم العلاقة بين الطرفين الآن، لا سيما بعد خسارة حزب العدالة والتنمية لحوالي مليون صوت كردي في الجنوب الشرقي لصالح حزب الشعوب، والذي دخل البرلمان بقدرته على تحريك شرائح واسعة من الأكراد بعد معركة كوباني، والتي شكلت لحظة فارقة رأي الكثير من الأكراد فيها أن أردوغان قد باعهم بشكل أو آخر لصالح المصلحة التركية المحضة في احتواء حزب العمال الكردستاني، متجاهلًا الخطر الذي تمثله داعش.
نتيجة لذلك، انفرط عقد مفاوضات السلام الجارية، ومع أول ذريعة للهجوم على قواعد حزب العمال، اتجهت تركيا بالفعل إلى الخيار العسكري تحت مظلة المشاركة في الحرب على داعش، وهو قرار تحاول به حجز روجافا عن التمدد أكثر على حدودها الجنوبية بعد أن حققت مكاسبًا كبيرة، وحماية ممر حلب الاستراتيجي بالنسبة لها، بيد أن الخيار العسكري بالطبع له تكلفته، فهو يعود بأنقرة لحالة الضغط السابقة على الأكراد، ويدفعهم للبحث عن شريك إقليمي، وهو أمر سيجدونه بسهولة في طهران، ولم يكن غريبًا أن يعبّر جمال بايق أحد قيادات حزب العمال عن ميله لطهران كحليف، وأن يمارس الحزب ضغوطًا على نظيره الإيراني، حزب الحياة الحرة لكردستان، للتهدئة مع الحكومة الإيرانية والتركيز في الحرب على داعش.
في ظل معاناة تركيا من تمدد النفوذ الإيراني أصلًا، وفي ظل غياب قدرتها على تشكيل ميليشيات مثلها، ومع محدودية قوتها العسكرية النظامية في خوض معارك بهذا الشكل، لا يبدو وأن خيار “القبضة الحديدية” مع الأكراد سيحقق لها مرادها، تمامًا كما لم يفعل في على مدار العقود السابقة، أضف لذلك أن الخيار العسكري لا يخدم النفوذ التركي، فإن كان النفوذ الإيراني بالأساس نفوذًا صلبًا يتطلب الاستمرار في خوض الحرب الجارية لحماية الممر الجنوبي الشيعي إن جاز القول، الممتد من جنوب العراق لجنوب لبنان، فإن النفوذ التركي ناعمًا بالأساس ويستند للجوار الجغرافي المباشر، ومع استضافة حوالي مليونين من اللاجئين، والقدرة على لعب دور اقتصادي في المستقبل، يجب أن ترتكز مصالح أنقرة لتوسيع نطاق أصدقائها في سوريا، وعدم الانحصار في دائرة المعارضة السورية المتشرذمة أساسًا.
***
مع حتمية ظهور كيان روجافا، بالإضافة إلى محدوديته نظرًا لارتكازه ديمغرافيًا للأكراد، مما يعني صعوبة انتشاره بشكل موسّع في مناطق عربية، يبدو وأن المصالح الاستراتيجية بعيدة المدى تملي نوعًا من التعامل بهدوء وحذر ودبلوماسية مع هذا الكيان، مهما كانت الحجج العسكرية الصرفة بتهديده لتركيا، وهي حجج كلاسيكية بالطبع في دوائر السلطة التركية التي طالما عادت حزب العمال، بيد أنها مبالغ فيها لأسباب كثيرة، فعلاوة على محدودية تمدد روجافا، لا يبدو أنها ستضاهي في أي وقت ثِقَل كردستان العراق، كما أن ظهور كيان كردي ثانٍ في الحقيقة قد يخدم أنقرة مستقبلًا نظرًا لكونه يقتل تمامًا فكرة الدولة الكردية، على العكس مما قد يعتقد البعض، لا سيما وأن هذين الكيانين بعيدان عن بعضهما نسبيًا نظرًا للعداوات القديمة بين أوجلان والبرزاني.
تباعًا، لا يمكن فهم التحول الشديد في مواقف أنقرة من الملف الكردي مؤخرًا بالنظر للمصالح الاستراتيجية فقط، والتي لا تملي بالضرورة الخيار العسكري، حيث ينقصنا بالأساس هنا وضع الحسابات السياسية الداخلية في الاعتبار، والتي تدفع العدالة والتنمية بشكل ما ناحية سياسيات أكثر تحفظًا تجاه الأكراد لاكتساب الشرائح القومية المحافظة من جديد، واستخدام التحركات العسكرية الأخيرة بشكل يرفع من أرصدة أردوغان لدى من اعتبروا أنه تهاون مع الأكراد أكثر من اللازم، وكذلك من اعتبر أنه سكت عن داعش طويلًا، وهي تحركات يأمل الكثيرون أن تؤتي أُكلها بالفعل في الانتخابات المبكرة أيًا كان موعدها.
بغض النظر عما إذا كان أردوغان سيحقق مراده من التحولات الأخيرة أم لا، فإن تغليب الحسابات السياسية على الرؤى الاستراتيجية سيضر تركيا بشكل واضح فيما يخص الملف الكردي ومسألة المشرق عامة، كما أن اكتساب الشرائح المحافظة انتخابيًا لا يجب أن يحظى بالأولوية بأي شكل من الأشكال على حساب ترسيخ شرعية الجمهورية التركية في الجنوب الشرقي، فالأولى مسألة تتعلق بالانتخابات المقبلة ليس إلا، في حين تتعلق الأخيرة بمستقبل الجمهورية نفسها، والتي يُعَد تراجعها في هذه اللحظة بالذات خطرًا كبيرًا يهدد بتقوقع النظام التركي في الأناضول في ظل وضع غير مسبوق، وهو وجودين كيانَين كرديّين متاخمين لحدوده في حالة تفكك شبه كاملة يمر بها المشرق بأسره.