البداية كانت تظاهرات لعشرات الآلاف من العراقيين الغاضبين بالعاصمة بغداد ومحافظات عدة جنوبي البلاد، احتجاجًا على انقطاع الكهرباء والفساد الإداري في أجهزة الدولة وتردي الأحوال المعيشية عامة، تزايد أعداد المتظاهرين مع دعوات لنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي رغم الإجراءات الأمنية المشددة التي فرضتها الأجهزة الأمنية في العراق.
هذه الدعوات الشعبية خرجت لأول مرة موحدة في العراق منذ زمن بعيد، حيث كانت هتافاتها موجهة لرئيس الحكومة حيدر العبادي، مطالبينه بالاستجابة الفورية لمطالبهم، والتي كان أبرزها مكافحة الفساد المتفشي في العراق بإقالة ومحاسبة كافة المسؤولين عنه، فلم تنطلق الدعوات على خلفية طائفية أو مكايدات سياسية وإنما حظت بقبول مجتمعي واسع، ما جعل بعض الرموز الدينية في العراق أن تنضم لهذه المطالبات في مقدمتهم المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني الذي دعا العبادي إلى أن يكون أكثر جرأة وشجاعة في حربه ضد الفساد داخل النظام.
من جانبه تلقى العبادي هذه الدعوات المجمع عليها شعبيًا بنوع من الحذر حتى أعلن عن خطة إصلاحية شاملة تلبية لمطالب هذه الجموع الغاضبة. حزمة الإصلاحات التي أعلنها العبادي تضمنت قرارات إلغاء مناصب نواب رئيسي الجمهورية والحكومة، كما ألغى المخصصات الاستثنائية للرئاسات والهيئات والمؤسسات، وكذا قضت القرارات بتقليص شامل وفوري في أعداد الحمايات لكل المسؤولين في الدولة، ومن بينها الرئاسات الثلاث والوزراء والنواب، مع إعادة فتح جميع ملفات الفساد السابقة والحالية ووضعها تحت إشراف لجنة عليا لمكافحة الفساد، وذلك عن طريق اعتماد عدد من القضاة المختصين للتحقيق في هذه القضايا وتقديم المتهمين فيها للحساب.
العبادي حاول التنصل من مسؤولية حكومته عن الفساد المتفشي في البلاد وسوء الخدمات التي كانت المحرك الرئيسي للتظاهرات، حيث أكد العبادي أن أخطاء النظم السياسية المتراكمة في العراق منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، لا يمكن أن تتحملها حكومته الحالية، ولكن ما على الحكومة الحالية مسؤولية الإصلاح.
الحراك الشعبي الدائر في العراق ضد الفساد لم يقتنع تمامًا بما أعلنه العبادي، حيث اعتبره البعض محاولات لتسكين الغضب الجماهيري، فعقب الإعلان عن حزمة الإصلاحات هذه من قبل العبادي طالب المتظاهرون رئيس الوزراء العراقي بمزيد من الإجراءات الصارمة لشن حرب على الفساد ورجاله في الدولة من أجل محاسبتهم، إذ يرى العراقيون أن الفساد استشرى خلال 12 عامًا دون أي مواجهة، مما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصاد الحالي وتردي كافة الخدمات العامة في الدولة.
بين من يرون أن هذه القرارات لم تُلبي طموحاتهم في الإصلاح، رحب آخرون بتلك القرارات معلنين عن تخوفهم من عدم مقدرة العبادي على تنفيذها أمام عمق الفساد الذي ضرب بجذور العراق، فقد اعتبرها البعض تحديًا كبيرًا أمام حكومة العبادي، فيما شككوا في قدرته على تنفيذها.
في حين يرى محللون أن العبادي نجح بتلك التصريحات التي أعلن فيها عن تلك الإصلاحات من شق صف المطالبين بالإصلاح بين مجموعة تراها خطوة أولية في مجال الإصلاح ومحاربة الفساد داخل أجهزة الدولة بالعراق، وبين آخرين يرون أن مثل هذه القرارات تندرج تحت بند الإصلاح الشكلي الذي يُرقع المظهر العام الفاسد بمحاولات إصلاحية.
فقد نقلت وسائل إعلامية أن العاصمة العراقية بغداد ستشهد تظاهرات مؤيدة لقرارات العبادي ومطالبات بتفعيلها فورًا بالإضافة للمزيد، وهو ما يعتبر نجاح للعبادي في احتواء الشارع وتطويعه لصالحه، ما سيعطيه نقاط قوة إضافية في مواجهة خصومه داخل النظام السياسي.
رهن البعض الأمر بموافقة كل المكونات العراقية على تلك الخطوات ممثلة تلك المكونات في مجلس النواب، لكن يرى بعض العراقيين في هذا المجلس أنه مجرد مؤسسة عراقية لتقسيم السلطة والأموال أيضًا وأنه من الضعف بمكان أن يُقر مثل هذه الإصلاحات أو غيرها، لكن مجلس النواب العراقي اتخذ هذه الخطوة بالفعل رغم التشكيك في قدراته بسبب نظام المحاصصة الإجبارية بداخله، إذ وافق مجلس النواب العراقي في جلسة استثنائية عقدها أمس الثلاثاء على وثيقة الإصلاح التي اقترحها رئيس الوزراء حيدر العبادي وأقرها مجلس وزرائه في السابق، وكذلك أضاف إليها وثيقة إصلاحات تكميلية شاملة دعا الحكومة العراقية للبدء في تنفيذها.
موقف مجلس النواب رغم أنه بدا مفاجئًا للبعض إلا أن ذلك يمكت إرجاعه إلى أن كافة القوى السياسية بمختلف ألوانها الآن في العراق تخشى موجة الاحتجاج في الشارع، خاصة مع حالة الانفلات الأمني التي تشهدها العراق في ظل ضعف قدرات قوات الأمن، دفع ذلك غالبية القوى السياسية الرئيسية في العراق إلى تأييد خطوات العبادي مُكرهين، حتى لا يستهدفهم الشارع باحتجاجه.
حتى أن نوري المالكي أيد علنًا إصلاحات العبادي، رغم أنها تضمنت إلغاء منصبه كنائب للرئيس العراقي، كما أيدتها كتلة الأحرار التابعة للتيار الصدري، والمنضوية في التحالف الوطني الشيعي، كذلك حظيت بتأييد مشروط من ائتلاف الوطنية بزعامة إياد علاوي الذي حذر من نشوء دكتاتورية جديدة مشيرًا بذلك إلى العبادي، حيث لا يريد علاوي أن يحظى العبادي بالشعبية الكافية التي تمكنه من الاستقلال بقرار حكومته بعيدًا عن الذرائع الطائفية والتي غالبًا ما تتخذ من شعارات التوافق السياسي ستارًا، كما أعلنت القوى السنية التي يتزعمها أسامة النجيفي نائب رئيس الجمهورية، ورئيس البرلمان سليم الجبوري تأييدها لهذه الخطوات.
فسر المتابعون هذا الإجماع المستغرب من تلك القوى التي لم تتفق على شئ كهذا منذ أمد بعيد بالخوف من الانتحار السياسي، وذلك بسبب الوضع الراهن في العراق الذي لا يسمح لأي جهة برفض تلك الإصلاحات أو عرقلتها في ظل ضغط شعبي غير طائفي بشكل غير مسبوق، وقد نجح العبادي في اتخاذ قرارات من يُعارضها سيحكم على نفسه بهذا الانتحار السياسي بيده.
إصلاحات العبادي استهدفت بشكل أساسي نفوذ خصومه السياسيين في مقدمتهم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي تولى رئاسة الوزراء منذ عام 2006 حتى ترك منصبه عنوة في 2014 للعبادي، وهو متهم من قبل أنصار العبادي بمحاولة إفشال حكومتهم، ومن جانب آخر يتهمه العراقيون السنة بجر البلاد إلى مربع الصراع الطائفي عبر تحويل المؤسسات الأمنية إلى ما يشبه مليشيات طائفية.
المالكي فطن لهذا الأمر مبكرًا وأراد تفادي الوقوع تحت طائلة الحساب أمام خصمه العبادي، فحاول مغادرة العراق على متن طائرة خاصة به سرًا إلى سوريا، لكن السلطات الأمنية في مطار بغداد الدولي منعته من ذلك حسبما أفادت مصادر بالمطار لموقع “الخليج أونلاين”.
كذلك بدأت عمليات القفز من مركب الفساد داخل النظام بعد معرفة نية العبادي بالتضحية برؤوس داخل النظام لأجل تهدئة الشارع، إذ قدم بهاء الأعرجي، نائب رئيس الوزراء العراقي، استقالته، الاثنين، إلى رئيس الحكومة، حيدر العبادي؛ عقب فتح تحقيق قضائي في اتهامات فساد منسوبة إليه، وهو الأمر الذي لم يعترض عليه التيار الصدري الذي ينتمي إليه الأعرجي.
هذه التظاهرات التي أنتجت هذه القرارات وصفت بأنها نجاح للتيار المدني داخل العراق بعيدًا عن الكتل الدينية الطائفية المذهبية، حيث أثبت هذا الحراك مجموعة من الحقائق من بينها خشية الحكومة المكونة من القوى الدينية من الحراك المدني، لذلك أغلقت السلطات الأمنية نصف بغداد لمنع المتظاهرين من الوصول إلى ساحات التظاهر، بينما يرى الجميع تنيظم قوى دينية تظاهراتها ومهرجاناتها في أي مكان ترغب فيه برعاية حكومية من ممثليها بالسلطة.
كما قدمت تظاهرات بغداد ومعظم المدن العراقية درسًا واضحًا يؤكد أن الالتفاف حول المطالب المشروعة هي الطريقة الأقدرعلى حشد الشارع العراقي بدون مذهبية أو طائفية، وأن التأثير في الخيارات المستقبلية سيكون لمن يعتمد هذه الاستراتيجية، ولا يعتمد هذا الأمر حتى الآن إلى بعض النشطاء المدنيين الذين لطالما اتهموا بأنهم شرذمة أو أقلية غير مؤثرة في الشارع العراقي.
فالعراق ثاني أكبر مصدر للبترول بمنظمة أوبك يعجز حاليًا عن توفير الكهرباء والمشتقات النفطية لأبنائه ويشهد ترديًا في كافة القطاعات الخدمية الأساسية بسبب الفساد المستفحل في مؤسسات الدولة، حيث يأتي العراق في ذيل لائحة منظمة الشفافية الدولية من حيث الدول الأكثر فسادًا في العالم ويحتل بذلك المرتبة الـ170 من بين 175 بلدا، وهو الأمر الذي اعتمد عليه نشطاء التيار المدني في حشدهم للشارع العراقي.
ويمكن أن نفهم هذه الإصلاحات التي أنتجها ضغط الحراك المدني، والتي قام بها العبادي أنها استغلال بهدف تثبيت أركان حكمه ومواجهة لخصومه السياسيين، وتظل قدرة العبادي على المضي في هذا النهج محل شك بسبب عدة مواقف سابقة اختبر بها الرجل، أبرزها تصريحاته عقب سقوط مدينة الرمادي في يد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بأن الهجوم لاستعادة المدينة سيبدأ خلال أيام، و قد مرت أكثر من ثلاثة أشهر ولا تزال المدينة بقبضة التنظيم بعكس ترويج العبادي.
هذا بجانب فشله حتى الآن في استعادة مدينة الموصل من قبضة تنظيم الدولة بعد عدة إعلانات من قبل العبادي عن قرب خوض معركة لاستعادتها وهو ما حظى بتأييد كافة الفصائل العراقية وزاد من شعبية العبادي، إلا أنه إلى الآن لم يتم أي شئ مما أعلن عنه، لذلك يتخوف البعض من تحول هذه الإجراءات الإصلاحية مع الوقت لمواقف إعلامية فقط كسابقتها لا أكثر ولا أقل.