تتفق قصص النجاح على قيم وسِمات عامة اتصف بها معظم الناجحين، ومن هذه القيم الحماسة المفرطة، والتفوق الباهر في مجال معين، واتباع طرق وأساليب غير متوقعة، وحب التهور والمغامرة، وفي الحقيقة هذه السمات ما هي إلا مُرادفات لكلمة “Crazy” أو “مجنون” باللغة الإنجليزية، وكما يُقال “بين الجنون والذكاء شعرة”، وفي هذا الموضوع أتناول شخصيةً وصِفت بالجنون كما وصِفت بالذكاء وهو المُرشح لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية “دونالد ترامب”.
لم يكن ترامب فاشلًا في الدراسة مثل بقية المنتمين للقائمة التقليدية للمبدعين، إلا أنه طُرِد من المدرسة بسبب سلوكياته الإشكالية وهو في سن الثالثة عشرة، ليلتحق بالأكاديمية العسكرية في نيويورك، رغبةً من أهله في توجيه طاقته المفرطة إلى منحى إيجابي، ليُكمل دراسته ويلتحق بكلية وارتون في جامعة بنسلفانيا التي كانت تدرس إحدى مناهج دراسة العقارات القليلة في تلك الفترة، بالنظر إلى أن والده كان يعمل في هذا المجال.
من هو دونالد ترامب؟
دونالد جون ترامب بليونير أمريكي من نيويورك، وهو شخصية اجتماعية وتلفزيونية مشهورة، كانت باكرة مشاريعه الناجحة تحويل فندق “كومودور” المفلس في نيويورك إلى فندق “غراند حياة”، ليؤسس مؤسسة ترامب العقارية ويكون الرئيس والمدير التنفيذي لها، يقول والده فريد ترامب: “إحدى أفضل الصفقات التي عقدتُها في حياتي كانت مع ابني دونالد، يبدو أن كل ما يلمسُه يتحول ذهبًا”.
تقدر مؤسسة فوربس ثروة ترامب بأربعة مليارات دولار، وتعمل مؤسسة ترامب في مجال العقارات والاستثمار، وتملك فنادق ومنتجعات وأبراج وملاعب غولف في عدد من الدول، كما تملك بضع مئات المترات من العقارات الرئيسية بمنطقة مانهاتن في مدينة نيويورك، وتملك المؤسسة بالشراكة مع تلفزيون “إن بي سي” حقوق ثلاث برامج مسابقات للجمال، إضافة إلى عدد كبير من الأعمال في مجالات الأزياء والمجوهرات والكتب وغير ذلك.
يقدم ترامب برنامج تلفزيون الواقع الأمريكي الشهير “ذي آبرينتيس” الذي يوصف بأنه :مقابلة العمل الأعظم”، يستضيف البرنامج 16 – 18 رجل أعمال يتنافسون للفوز بعقد عمل مبدئي لسنة واحدة براتب 250 ألف دولار لإدارة إحدى شركات ترامب، تنتهي كل حلقة من حلقاته بالعبارة الشهيرة التي يقولها ترامب “أنت مطرود”. (You’re fired)
بعد ذكر بعض الحقائق عن ثروة ترامب وأعماله التي تبدو ناجحة في غالبيتها يبدو من الصعوبة بمكان أن يختلف اثنان على ذكاء الرجل في مجال الاقتصاد والأعمال، ولا على شهرته الواسعة في الولايات المتحدة، إلا أن ذلك لم يُسعِف أفكاره السياسية، في لقاء مع المذيع الشهير ديفيد ليترمان إبان انتخابات الرئاسة لعام 2012، حذر ترامب من أن الصين قد تقود العالم اقتصاديًا في عام 2016، داعيًا قيادة الولايات المتحدة للتصدي لذلك، وأثناء الحديث كان ليترمان يستعرض ماركة الألبسة الفاخرة الخاصة بترامب، ليُباغته بسؤال: أين تُصنع أربطة العنق التي تحمل ماركة ترامب؟ رد ترامب بأنه لا يعرف، ليرُد ليترمان مستهزئًا: إنها تُصنع في الصين!، ويقترح أن يُغلق ترامب مصنعه في بكين ويفتح مصنعًا في جمايكا.
رجل أعمال.. وناشط سياسي كذلك
لم يكن البليونير من نيويورك بعيدًا عن عالم السياسة في ظل أحد أكثر النظم السياسية ديناميكية في العالم، فقد تبرع خلال العقدين الماضيين لمرشحين لرئاسة الولايات المتحدة من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري، كان ترامب من أوائل داعمي ترشح رونالد ريغان لرئاسة الولايات المتحدة عن الحزب الجمهوري، وقد دعم في الانتخابات الأخيرة في عام 2012 المرشح الجمهوري ميت رومني.
يُمكن تصنيف ترامب وفقًا لأفكاره السياسية ضمن محافظي الحزب الجمهوري؛ فقد صرح مرارًا عن أفكار تُناهض برامج سياسية مدعومة بأفكار علمية يحملها في الغالب الديمقراطيون، مثل نفيه لفكرة التغير المناخي والحاجة إلى تحرك سياسي حيالها، وقناعته بأن لقاحات الأطفال قد تسبب التوحد وأنه لا حاجة للبرامج الحكومية التي تدعو لإلزام العوائل بها.
كما أنه شكك في أبريل 2011 بصحة تمتع الرئيس باراك أوباما بالجنسية الأمريكية، مطالبًا إياه بالإفصاح عن شهادة ميلاده، وشكك بحصول أوباما على درجات كافية تؤهله للالتحاق بكلية القانون في جامعة هارفارد؛ الأمر الذي دفع أوباما إلى الخروج بتصريح رسمي يفيد بأن البيت الأبيض يعمل على نشر شهادة ميلاد أوباما، ليُعبر ترامب بعد ذلك عن اعتزازه بدوره في إشهار شهادة الرئيس الأمريكي.
وعلى الرغم من ذلك، حافظ ترامب على موقع وسط يمكّنه من خلال تبرعاته لكلا الحزبين من إعادة التموضع السياسي لخدمة أعماله والإبقاء على حالة الاستقلالية التي يتمتع بها. فقد كان على سبيل المثال من أوائل داعمي حزمة الإنقاذ التي طرحتها إدارة أوباما لصانعي السيارات الأمريكية في عام 2009.
من كواليس السياسة إلى صدارة المشهد
كان البليونير الأمريكي قد افصح عن رغبته في الترشح لرئاسة الولايات المتحدة في الأعوام 1988 و2004 و2012، وفي الترشح لمنصب عمدة نيويورك في عامي 2006 و2014، إلا أنه لم يترشح لأي منها، وقد فاز في عام 2000 عن ولاية كاليفورنيا في سباق الترشح للرئاسة الأمريكية عن الحزب الإصلاحي الذي يدعو إلى إيجاد بديل عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إلا أنه انسحب من السباق بسبب الصراع الداخلي في الحزب.
في السادس عشر من يونيو 2015 أعلن ترامب من مقر مؤسسته في برج ترامب بنيويورك ترشحه لمنصب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عن الحزب الجمهوري تحت شعار “سنُعيد الولايات المتحدة الأمريكية عظيمة مرة أخرى”، ملتزمًا بأن يكون “أعظم رئيس لفرص العمل خلقه الله على الإطلاق”، لم يمضِ شهر على هذا الإعلان حتى أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة واشنطن بوست وإي بي سي نيوز تصدر ترامب لقائمة المرشحين الجمهوريين بنسبة 24 بالمئة من الأصوات.
ترامب يُشعل السباق قبل بدايته
بدأ ترامب حملته الانتخابية وبدأ بحشد الجموع وإطلاق الخطابات النارية، لكنه كان يُخبئ ما هو أكثر من ذلك بكثير؛ قام السيناتور الجمهوري المُخضرم جون ماكين الذي كان قد تعرض للأسر في حرب فيتنام ووُصِف بأنه “بطل حرب”، بوصف المجتمعين في أحد حشود ترامب بـ “حفنة من المجانين”، ليرُد عليه ترامب في تغريدة وصفه بها بـ “الغبي الذي كان الأخير في صفه”.
.@SenJohnMcCain should be defeated in the primaries. Graduated last in his class at Annapolis–dummy!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) July 16, 2015
ولدى سؤال ترامب عما إذا كان يليق بمرشح رئاسي أن يصف بطل حرب مثل ماكين بالغبي، رد ترامب: “إنه ليس بطل حرب لأنه تعرض للأسر، أنا أُحب الذين لم يتعرضوا للأسر”، ليُطالب كل من البيت الأبيض وماكين باعتذار رسمي من ترامب، الذي رد في تغريدة قال فيها: “سواء تعرضوا للأسر أم لم يتعرضوا له، كل جنودنا أبطال”.
Captured or not, all our soldiers are heroes!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) July 18, 2015
الضجة الإعلامية الأكبر التي أحدثها ترامب قبل بدء المناظرات بين مرشحي الحزب الجمهوري كانت بإطلاقه تصريحات تتعلق بالمهاجرين غير الشرعيين، حيث قال إن المكسيك لا تُرسل أفضل ما عندها من المُهاجرين إلى الولايات المتحدة، فهي ترسل “مجرمين بينهم مغتصبين، وأفترض أن بعض هؤلاء جيدين”، محملًا إياهم المسؤولية كذلك عن جزء من البطالة التي تعاني منها الولايات المتحدة؛ الأمر الذي دفع 80% من الرأي العام اللاتيني الأمريكي إلى وصف هذه التصريحات بالعدوانية، وفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة يونيفيجين، التي أعلن لاحقًا أنه يُقاضيها للتعويض بمبلغ 500 مليون دولار!
ولدى سؤاله عما إذا كان مخطئًا بتصريحاته، رد ترامب بأنه على حق وأن تصريحاته قد ساهمت في إثارة الحديث عن الهجرة غير الشرعية في الرأي العام الأمريكي، اللافت للنظر هو أنه على الرغم من السخط تجاه تصريحات ترامب، إلا أن قليلًا من الناخبين الأمريكيين اللاتينيين رأوا أنه كان محقًا! وأنه يقول “الحقيقة التي يخشى الكثيرون طرحها”، كما ذكر أحدهم في مقابلة مع صحيفة لوس أنجليس تايمز.
في خضم الضجة التي أثارها، حط ترامب بطائرته مُرتديًا قُبعة بيسبول في ولاية تكساس التي يُشكل الأمريكان من أصل لاتيني 37.6% من سكانها، ليقول في أول خطاب له إنه قوبل بالكثير من مُشجعيه الذين كانوا يلوحون له في المطار ويُعبرون عن دعمهم له، مضيفًا أن الآلاف من اللاتينيين يعملون لديه “وهم أناس عُظماء”، يقول أمريكي لاتيني من تكساس: “إننا غاضبون من جرأته في أن يأتي إلى هذه الولاية الحدودية”، واصفًا إياه بـ “النُكتة”، لتكون زيارات ترامب مادة دسمة للإعلام الليبرالي الديمقراطي الذي أخذ وقته في السخرية.
لكن توجه وسائل الإعلام الليبرالية ما لبث أن أخذ منحى آخر تمامًا، فقد انقلبت الطاولة وبات ترامب رأس حربة في مواجهة الحزب الجمهوري!
ترامب يكتسح المنصة
لا بُد من الانتباه بعد كل ما ذكرنا إلى أن دونالد ترامب ليس سياسيًا تقليديًا من منظومة الحزب الجمهوري، مما يعني أن دخوله السباق الانتخابي لم يكن جديدًا على الناخب الأمريكي وعلى الحزب الديمقراطي وحسب بل كان مفاجأة غير متوقعة لمنظومة الحزب الجمهوري نفسه، كان أول من اصطدم بهذه المفاجأة مذيعي قناة فوكس نيوز الذين أداروا المناظرة الأولى لمرشحي الحزب الجمهوري، والتي نال ترامب فيها أكبر فرصة للحديث من بين بقية المرشحين بواقع 10 دقائق و32 ثانية لتنتهي المناظرة بصيحات الجمهور “ترامب .. ترامب .. ترامب”!
أظهر ترامب ثقة عالية بنفسه وهو يقدم أجوبة غير متوقعة للأسئلة الهجومية التي أمطره بها مديرو المناظرة والتعليقات اللاذعة التي مررها المرشحون الآخرون، كانت البداية مع المذيعة ميغان كيلي التي قالت: “وصفت السيدات اللاتي لم يُعجِبنك بالخنازير السمان، والكلاب، والقذرين والحيوانات المُقرفة”!، ليرُد ترامب: “فقط روزي أودونل”، لترُد كيلي: “لا هذا غير صحيح”، إلا أن تصفيق الجمهور غطى على كلامها، كانت الممثلة والكاتبة الأمريكية روزي أودونل قد انتقدت ترامب في مؤتمر صحفي في عام 2006 على إعادته متسابقة إلى مسابقة ملكة جمال أمريكا لم تكُن قد استوفت المعايير المطلوبة، قالت أودونل إن ترامب لم يكُن قُدوة أخلاقية للشباب في أمريكا بسبب ظروفه المالية والعائلية، ليبدأ ترامب حملة إعلامية ضدها، ويبدو أنه لم ينس ذلك الموقف حتى صار مرشحًا للرئاسة.
ردت السيدة أودونل بتغريدة عبر تويتر قالت فيها: “حاول شرح ذلك لأطفالك”!
try explaining that 2 ur kids
— ROSIE (@Rosie) August 7, 2015
“تدعي أنك الشخص الأقدر على المنصة على النهوض بالاقتصاد، أود أن أسألك عن سجلك في الأعمال، كُنت قد ذكرت سابقًا أنك قمت باستغلال قوانين البلاد لمصلحتلك، ولكن خبراء اقتصاديين ذكروا أن دائني شركتك خسروا مليارات الدولارات، بوجود هذا السجل في الأعمال كيف يمكننا الوثوق بإدارتك لأعمال البلاد؟”، كان هذا سؤال الإعلامي المخضرم كريس والاس لترامب الذي رد بقوله إنه يستحق هذه الثقة لأنه استغل قوانين البلاد كما يفعل كل رجال الأعمال الذين تكتب عنهم مجلات الأعمال في كل يوم، “لقد قُمت بعمل رائع لبلادي وشركتي،عندما يقوم شخص آخر باستغلال هذه القوانين لا أحد يتحدث عنه، الحقيقة هي أنني قمت باستخدام هذه القوانين لبناء شركة عظيمة تقدر بعشرة مليارات دولار وأنا أوظف الآلاف وأنا فخور بذلك”.
رد والاس بإصرار مشيرًا إلى حادثة بعينها خسر فيها دائنو ترامب مليار دولار وخسر 11 ألف شخص وظائفهم متسائلًا :”هل تخطط لإدارة الدولة بهذا الأسلوب؟”، بكل ثقة أجاب ترامب بوصفه الدائنين بأنهم “ليسوا أطفالًا، بل هم مجموعة من القتَلَة، وليسوا أشخاصًا طيبين كما تظُن/ أنت تعيش في عالم من الوهم كريس عليك أن تعلم الحقيقة”، تابع ترامب بأنه كان مُحقا في قراره الذي تحدث عنه والاس بترك مدينة أتلانتا التي أفلست فيها عدة شركات لاحقًا، وقال: “حظيت بتقدير كبير في قطاع التمويل بتركي هذه المدينة التي جنيت فيها الكثير من الأموال وأنا فخور بذلك”، انتهى الوقت المخصص له لكنه قاطع قائلًا: “هذه البلاد مدينة بتسعة عشر تريليون دولار وهي بحاجة لشخص مثلي يُصحح هذا الوضع”.
“قُمتَ بالتبرع لعدد من المرشحين الديمقراطيين مثل هيلاري كلينتون ونانسي بيلوسي، وبررتَ ذلك بأن هذه التبرعات كانت لتحصيل مصالح متعلقة بالأعمال وقُلت إنهم يفعلون مقابل ذلك أي شيء تطلبه منهم، فما الذي فعلوه لأجلك؟”، يقول ترامب: “عليك أن تُصدق ذلك، إذا احتجت إليهم فإنهم سيلبون طلبي، عليك أن تُدرك أنني تبرعت لمعظم المرشحين الموجودين على المنصة”، وأضاف: “ما أود قوله هو أن نظامنا مُتصدع، أنا لا أرُد طلب أي من السياسيين، لكنني عندما أحتاج أي شيء منهم بعد سنتين أو ثلاثة فإنهم يُلبونني وهذا يدل على أن النظام مُتصدع”، تساءل المذيع بريت باير عما فعلته هيلاري كلينتون لأجل ترامب، فجاء الرد: “طلبت منها أن تحضر حفل زفافي! وقد جاءت ولم يكن لديها خيار آخر لأنني تبرعت لمؤسسة ظننت أنها تقوم بأعمال خيرية ولم أكن أعرف أن الأموال ستُصرف على رحلات بطائرات خاصة حول العالم”.
كان ترامب المُرشح الوحيد الذي رفض أن يتعهد في المناظرة بدعم أي مرشح يفوز ببطاقة الترشح للرئاسة عن الحزب الجمهوري وبعدم الترشح ضده كمرشح مستقل، ليُصدم المذيع ويسأل مستنكرًا: “هل تُدرك أنك تقف في منصة مناظرة الحزب الجمهوري؟! وأن خبراء ذكروا أن أي مرشح مستقل من الحزب سيؤدي إلى فوز مُحقق للحزب الديمقراطي؟”، ليرُد ترامب بكل ثقة: “أُدرك ذلك تمامًا، إذا فُزت ببطاقة الترشح وأنا الأكثر أهلية لذلك وفق استطلاعات الرأي أتعهد بعدم الترشح بشكل مستقل، نريد الفوز وسوف نفوز، لكنني أود أن أكون أنا المرشح عن الحزب الجمهوري”.
في هذه الأثناء تدخل المرشح راند بول مقاطعًا: “هذه هي مشكلته! فهو يشتري السياسيين من كل الأطياف، وهو يحتاطُ مُسبقًا، حتى إذا فشل في الترشح عن الحزب الجمهوري ربما يدعم كلينتون ورُبما يدخل السباق كمرشح مستقل، إنه يحتاط مُسبقًا لأنه مُعتاد على شراء السياسيين”، لم يُضِع ترامب لحظةً قبل أن يقول مشيرًا بيده إلى راند بول: “لقد أعطيته الكثير من المال”.
أداء محسوب بدقة!
لا يُمكن التنبؤ بمدى استعداد البليونير الأمريكي لخوض هذه المناظرة، إلا أنه وحسب اللعبة التي أطلقها الكاتب الأمريكي في واشنطن بوست فيليب بامب “ترامب: اللُعبة” كان أداؤه محسوبًا بدقة، أو أن الصدفة ساعدته للخروج بأداء مُتقَن، اعتاد ترامب في ظهوره الإعلامي على تكرار كلمة “Terrible” بمعنى مُريع، وتذكير الجمهور بأنه غني بتكرار كلمة “rich”، وذكر تقدمه في استطلاعات الرأي بتكراره كلمة “Polls”بمعنى استطلاعات الرأي، إلا أنه لم يذكر أيًا منها على الإطلاق، وقد حزر الفائز في لُعبة ترامب أنه سيُكرر كلمة “great” بمعنى عظيم تسع مرات! رُبما يدل ذلك على تفاؤل لدى ترامب وصورة يرغب بإيصالها إلى الجُمهور.
تقييم أداء ترامب
راق أداء البليونير الأمريكي للكثير من الناخبين الأمريكيين الذين أشادوا باستعداده لقول ما يُفكر فيه بغض النظر عن رأي السياسيين، كما رأى آخرون فيه بطلًا اقتصاديًا مستعدًا للتضحية بصفقات أعمال كبيرة لمجرد التصريح بأفكاره عما يجري في الولايات المتحدة، واعتقد البعض أنه خاض تدريبًا على المناظرة استعدادًا للمناظرة الحقيقية.
اقتحم ترامب الصحف وأعمدة الكُتاب الليبرالية الأقرب إلى الديمقراطيين التي تنوعت قراءاتها لأدائه، إلا أنه ولا شك بات من الشخصيات الأساسية التي تتناولها هذه الصحف، كما شق ترامب الصف الجمهوري الذي انصدم جزء منه بفظاظته وغروره على المنصة، ولم يُخفِ البعضُ خوفهم من صعود ترامب الذي قد يكون في جوهره خدمة للديمقراطيين، حيث وصف بعضهم احتمال ترشح ترامب كمستقل بـ “الكارثة”.
أثار استخدامه لكلمات مثل “غبي”” و”اصمت” سخط عدد من المُتابِعات، خاصة في حديثه مع ميغان كيلي، لتصف إحدى المُتابعات أداءه بـ “غير الرئاسي”، إلا أن الإعجاب به ازداد ولم ينقُص في الصف الجمهوري، الذي رأى كثير من ناخبيه أن ترامب يملك الأهلية للنهضة بالاقتصاد الأمريكي وأشادوا بعدم خشيته من أن يكون على خطأ “سياسيًا”.
يقول الكاتب الأمريكي في واشنطن بوست كريس سيليزا إن هُناك فرقًا بين أن يقف الشخص موقفًا سياسيًا صحيحًا وبين أن يُوجه لكمات صبيانية لخصمه، مشيرًا إلى أن مشكلة ترامب تكمن في عدم إدراكه لذلك، ويوضح سيليزا أنه على الرغم من وجود قاعدة انتخابية لمطلب ترامب في مراجعة وضع المهاجرين غير الشرعيين، إلا أنه ليست هناك قاعدة شبيهة لقوله في المناظرة: “أرى أن أكبر مشاكلنا في هذه البلاد هو أننا نسعى وراء الموقف السياسي الصحيح”، ولا مُبرر لقوله الموجه للمذيعة ميغان كيلي: “لقد كُنت لطيفًا في حديثي معكِ، على الرغم من أنني لم أكن مضطرًا لذلك، بالنظر إلى الكيفية التي تعاملتِ بها معي، لكنني لن أفعل ذلك”.
يُظهر جواب ترامب حسب سيليزا أنه على استعداد للتخلي عن الموقف السياسي الصحيح مقابل الإطاحة بكل ما يقف في وجهه، وهذا الأسلوب لا يتبعُه السياسيون بسبب “اللباقة الإنسانية”، حسب الكاتب، أكبر سقطة لترامب كانت وصفه لكيلي بأنها “كانت تنزف” كناية عن أنها كانت تتلقى اللكمات منه، لكنه استطرد مخطئًا ببقية العبارة “كانت تنزف من كل مكان”، تجاوز ترامب اللياقة الإنسانية ليتصرف تصرفًا صبيانيًا بإطلاقه هذه العبارة.
لا شك، أن دونالد ترامب أصاب مقتلًا في الوعي الأمريكي، إلا أنه لا يعرِف السبب الحقيقي وراء تجاوب الجمهور معه، هذا السبب ببساطة هو استعداده لكسر البروتوكول السياسي حول قضايا تهم الناس، وليس بسبب استعداده للدخول في معارك مع كل من يعترض طريقه، كما يرى الكاتب كريس سيليزا.
يقول الشاعر الأمريكي تشارلز بوكوسكي: “يعيش البعض دون أن يمروا بلحظات من الجنون، كم هي بائسة الحياة التي يعيشونها”.