لقد كتب كثيرون حول عدم قدرة إسرائيل على التنبؤ بحدوث الانتفاضة الثانية أو الربيع العربي أو عدد من الأحداث المهمة التي جرت في المنطقة، لكن من زاوية أخرى فإن الإسرائيليين يستطيعون بشكل عام قراءة الفرص التي يجتمع فيها الحد الأعلى من المكاسب مع الحد الأدنى من الخسائر ويتخذون قرارات التعامل معها مع التخلي عن غرورهم المعهود وصلفهم ومماطلتهم المعروفة، وإذا كان الأمر خطيرًا فإن دفع الخطر يحث الجميع من أجل دفعه ولو تم تقديم تنازلات مؤلمة عبر مرحلة مخاض عسيرة، وذلك خشية دفع ثمن أكبر بعد أن تنقضي المدة الزمنية للفرصة.
ولعل النظر إلى عدة أحداث تمت في الشرق الأوسط خلال الفترة السابقة توضح لنا بعض هذه النقاط ومنها عقد صفقة وفاء الأحرار من أجل استعادة الجندي جلعاد شاليط الذي تم أسره من قِبل حركة حماس على حدود غزة في يونيو من عام 2006، واستمرت المفاوضات من أجل تحريره إلى أن تم ذلك في أكتوبر 2011، بعد ذلك بيوم كتب المعلق الإسرائيلي بن كاسبيت “أمس كان مساء استسلام، مساء نزلت فيه إسرائيل على ركبتيها أمام حماس”، استمرت المفاوضات أكثر من 5 سنوات إلى أن وجه نتنياهو توصياته لفريقه المفاوض بضرورة الحفاظ على مبادئ الحفاظ على أمن واستقرار دولة إسرائيل.
ولكن النظرة إلى التوقيت؛ فبعد أن فشلت الجهود الاستخبارية في الوصول إلى شاليط في أوضاع أكثر راحة، فإن الوضع في مصر كان يتجه للأسوأ من وجهة نظر إسرائيلية؛ لذا فإن العامل المركزي الذي دفع إسرائيل لإتمام الصفقة هو العامل المصري وسقوط الرئيس المصري محمد حسني مبارك والخشية من أن تصبح الأمور أكثر تعقيدًا ويلقى شاليط مصير رون أراد.
ويؤكد على هذا أن نتينياهو أعلن عن قناعته في صفقات التبادل قبل 10 أعوام من حدوث عملية الأسر في كتابه “مكان تحت الشمس” في إطار تعليقه على عملية التبادل التي تمت في عام 1985 حيث قال “كيف يمكن لإسرائيل أن تطلب من الولايات المتحدة الوقوف ضد الإرهاب في وقت تستسلم هي أمامه بشكل مخجل، لقد كنت على قناعة بأن إطلاق سراح أكثر من ألف مخرب”، على حد قوله، “سيدخلون الضفة وغزة، سوف يؤدي إلى تصعيد كبير في العنف، لأن هؤلاء سيستقبلون استقبال الأبطال ويشكلون نماذج يُحتذى بها بالنسبة للشباب الفلسطيني”.
المثال الآخر على هذه الطريقة في التعامل الإسرائيلي كانت في 2013 عندما أمسك نتنياهو هاتف الرئيس الأمريكي باراك أوباما وتكلم مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان آنذاك وقدم اعتذاره غن الأحداث التي تسببت بمقتل مواطنين أتراك على متن سفينة مرمرة قبالة شواطئ غزة في العام 2010، ويأتي هذا بعد فشل مفاوضات حول صيغة الاعتذار استمرت قرابة سنتين، ولكن إذا ما عدنا للتاريخ الذي جرى فيه الاتصال فإن ذلك يقودنا إلى أن نفكر في احتياج إسرائيل إلى تركيا التي تبدو رابحًا كبيرًا من وصول مرسي إلى الحكم في مصر ومن دعمها للثوار في ليبيا، ولكن هناك أمر آخر تشترك فيه إسرائيل مع تركيا وهو جوار سوريا التي تموج بالفوضى والتي أعلن فيها تنظيم داعش سيطرته على أول مدينة في سوريا وهي مدينة الرقة قبل أيام قليلة من الاتصال الذي تم تقديم الاعتذار فيه.
وتدور حاليًا أخبار عن دور مكثف للولايات المتحدة وفقًا لطلب إسرائيلي بتحسين العلاقات مع تركيا التي لم يستطع حزب العدالة أن يشكل الحكومة فيها لوحده بناء على نتائجه في الانتخابات البرلمانية، لأن إسرائيل ترى ضرورة تحسين علاقاتها مع تركيا بعد الاتفاق حول البرنامج النووي وبعد زيادة تعقيد الأمور في سوريا ومع رغبتها في تصدير الغاز لأوروبا عبر الأراضي التركية، فضلاً عن الاستفادة من مزايا الاتفاقيات التي جمدتها قرارات الحكومة التركية في أعقاب أحداث سفينة مرمرة.
ولما سبق فإن التحول في القرار الإسرائيلي باتجاه تقديم التنازلات يعتمد على دفع أكبر قدر من الضرر والخطر، أو التنازل عن الكبرياء والغرور من أجل الحصول على مكاسب مستقبلية ولعل هذا زادت وتيرته في الآونة الأخيرة حتى أن هناك قيادات سياسية في إسرائيل تدعو لتقديم مزيد من التنازلات لتحسين أوضاعها السياسية والدبلوماسية بينما تتهمهم قيادات أخرى بأنهم يصفون في صف الأعداء بمثل هذه المطالبات ويؤكدون أن هذه الدولة قامت بدون وجه حق.
ولعل ما ذكر في بداية المقال بأن الإسرائيليين لديهم القدرة على تقديم تنازلات في بعض الحالات يفسر بتنامي الشعور بالتهديد الوجودي واستمرار هذا الشعور في حد ذاته يمهد لمزيد من المواقف التي ستتنازل فيها القيادة الإسرائيلية.