يتواصل في تونس الجدل الذي أثاره مشروع قانون المصالحة الإقتصادية والمالية مع رجال أعمال ثبٌت تورّطهم في الفساد خلال العهد السابق؛ مشروع اقترحه رئيس الجمهورية التونسي، الباجي قائد السبسي، منتصف جويلية/تموز الماضي، كحل لملف انطلق مع الحكومات السابقة وظل حبيس التجاذبات السياسية والحقوقية في البلاد.
ويستهدف مشروع قانون المصالحة رجال الأعمال وموظفي الدولة المتورطين في الفساد المالي خلال حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وقبله الزعيم الحبيب بورقيبة، من خلال فرض على من ثبت أنه استفاد من منصبه ومن المال العمومي خلال تلك الفترة، إعادة ما غنمه على غير وجه حق، مع إضافة نسبة 5 في المئة، من المقرر أن تُوجّه إلى مشاريع تنموية داخل البلاد، وتطوى بذلك صفحة الماضي بصفة نهائية، الأمر الذي من شأنه إلغاء مبدأ كشف الحقائق والمحاسبة.
ورغم أن الدستور التونسي الجديد الذي صودق عليه سنة 2014 نصّص على مسار العدالة الإنتقالية وخصّ هيئة الحقيقة الكرامة بتفعيله، يُقدّر الرّئيس التونسي، حسب ما صرّح به، أن هذا الملف يُمكن مُعالجته ضمن إطار آخر وهو ما من شأنه يُخفّف على الهيئة الأعباء المُلقاة على عاتقها.
وقد ساهم الجدل حول هذا المشروع الذي لم ينطلق النظر فيه بعد داخل قبة البرلمان في تقسيم المشهد السياسي التونسي إلى قطبين بين داعم ومعارض. ويتقدّم نداء تونس، الحزب المُشكّل للحكومة، القطب الدّاعم رفقة شريكيه في الحكم آفاق تونس والإتحاد الوطني الحر، في حين تجمّعت باقي الأطراف المُمثلة داخل قبة البرلمان تحت مظلة الرافضين للقانون وحافظت حركة النهضة على مساحة الوسط باعتبار غموض موقفها رغم دعمها للمبدأ العام.
المعارضة تتوحّد للمرة الأولى
وعلى نحو مُفاجئ، دفع مشروع القانون معارضة المجلس لتجاوز خلافاتها وتكوين كتلة برلمانية هدفها “إسقاط القانون” حسب ما صرّح به أعضاؤها. في هذا السياق، أعلن النواب، الذين يمثلون كتلة الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي وحركة الشعب والحزب الجمهوري وحزب صوت الفلاحين إضافة إلى النائب المستقل عدنان الحاجي، عن إطلاقهم مبادرة عمل مشترك من أجل سحب قانون المصالحة الوطنية في المجال الاقتصادي الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، عبر ندوة صحفية.
ومن المنتظر أن تكون هذه الحملة الرافضة من داخل المجلس ومن خارجه من أجل إسقاط القانون السابق ذكره، باعتبار استهدافه لمسار العدالة الإنتقالية، ولتعارضه مع الفصل 148 من الدستور ما يجعله غير دستوري، بحسب المُشاركين في هذه الحملة.
وبحسب أعضاء هذه المُبادرة، سيعمل نواب المعارضة على التصدي لهذا القانون والطعن فيه واتخاذ كافة الاجراءات والتحركات الممكنة التي تحول دون تمريره كي لا يُنازع هيئة العدالة الإنتقالية صلاحياتها، وخاصة لجنة التحكيم والمصالحة التي يجب أن تنبثق عنها، رغم تأكيدهم على أنها (المبادرة) تريد تكريس ما أقره الدستور التونسي ولا تعمل للانتصار إلى أحد الأشخاص أو المكونات أو أي هيئة.
هو يسرق .. وأنت تخلص
من جهته، أعلن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بتونس، الذي يترأسه شرفيًا الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، عن إطلاق حملة “هو يسرق..إنت تخلص (تدفع بالعامية التونسية)”، للإحتجاج والتصدي لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية باعتبار أنه يكرّس التطبيع مع الفساد ويخدم مصالح لوبيات اقتصادية تقوّت خلال عهد زين العابدين بن علي و ولا يشجع على الاستثمار والتشغيل، بحسب قيادات الحزب.
ومن المُنتظر أن تعتمد الحملة على شبكات التواصل الإجتماعي للتعبئة ضد هذا القانون من خلال تسويق الهاشتاغ الذي يحمل اسمها، قبل النزول إلى الشارع للضغط على مجلس نواب الشعب حتى لا يُصوت لفائدته (القانون).
جبهة الحكم تتصدى لدعوات الإسقاط
وعلى صعيد آخر، أعلن نداء تونس وشريكاه آفاق تونس والإتحاد الوطني الحر دعمهم الواضح للقانون باعتبار أنه سيفتح الباب أمام استرجاع الدولة لأموالها، في مرحلة هي أحوج فيها لكل دينار يُساهم في تنشيط الإقتصاد الذي يمر بظرف صعب سمته اختلال الموازنات المالية العامة.
ويعتبر هذا الثالوث أن أنّ القانون لا يمس مسار العدالة الانتقالية، بل يهدف إلى التسريع في تقدمها، وخصوصاً في ظل البطء الذي يميّز تقدم أعمال هيئة الحقيقة والكرامة التي يخصّها الدستور بمجال العدالة الانتقالية.
حركة النهضة بين دعم المبدأ وغموض الموقف
وبعد طول انتظار، اختار راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، احتفالا أقامته حركته لتكريم المتفوقين دراسيا بمناسبة يوم العلم ليبين جزء من موقف النهضة بخصوص القانون مثار الجدل. وقال الغنوشي خلال كلمته الي ألقاها بالمناسبة إن النهضة من حيث المبدإ مع المصالحة وإن مؤسسات الحركة تناقش تفاصيل القانون، وكان الغنوشي قد صرّح لأحد الإذاعات الخاصة أن القانون سيمُر، وكأنه يريد القول بأن مصيره بات بيده وبيد حركته.
في السياق ذاته، أكد أسامة الصغير المتحدث باسم مجلس شورى حركة النهضة أن النقاشات حول هذا الملف انطلقت منذ مدة في مؤسسات الحركة، وقال إن المكتبين السياسي والتنفيذي إضافة إلى مجلس شورى الحركة ناقشوه وكان الموقف الصادر عنهم هو إيجابيا مع التشديد على ضرورة تعديل فصول القانون الذي جاء في 12 فصلا.
وتعتبر حركة النهضة أن القانون الحالي قد يكون إيجابيا للإقتصاد التونسي إلا أنه يحوي في بعض فصوله مسّا من مسار العدالة الانتقالية وهو ما تسعى إلى تفاديه في التعديلات المنتظر إدخالها على النص، وبهذا تتموقع في الوسط بين الداعمين دون قيد أو شرط وبين الرافضين له دفاعا على مسار العدالة الإنتقالية.
في خضم كل هذا السجال، يبدو أن القانون سائر للتعديل وفق ما ستراه مُؤسسات النهضة وخاصة مكتبها القانوني نظرا لوزنها البرلماني بما يتماشى مع حاجيات الإقتصاد التونسي للتعافي والذي يظل لرجال الأعمال دور فاعل فيه، وأيضا مع ما يُطالب به قواعدها وباقي الطيف السياسي حتى لا يُسجل التاريخ ضدها خطيئة إفراغ هيئة الحقيقة والكرامة التي تشكّلت في عهدها من مضمونها.