ثمة نقاش متواتر حول أسباب جاذبية مجموعات جهادية، على غرار الدولة الإسلامية المُعلنة ذاتيًا وجبهة النصرة وغيرهما، لمقاتلين عرب وآخرين أجانب يتحدّرون من بلدان غربية، وتَركّز اهتمام واسع أيضًا على الأعداد المتزايدة من التونسيين والمغاربة الذين ينضمون إلى هذه المجموعات في سورية والعراق، بعد أن وصلت أعدادهم في سبتمبر 2014 إلى نحو 3000 و1500 مقاتل على التوالي.
بيد أن نذرًا يسيرًا من الاهتمام مُحض للحقيقة بأن عدد الجزائريين الذين يقاتلون في الخارج، والذين قال مسؤول حكومي في يونيو إن عددهم لايتجاوز الـ63 عنصرًا، يُعتبر صغيرًا للغاية قياسًا بزملائهم التونسيين والمغاربة، قد تبدو هذه حصيلة مفاجئة، خصوصًا حين نضع في عين الاعتبار أن الجزائريين كانوا من الدفعات الأولى التي تدفقت إلى أفغانستان في العام 1979 للانخراط في الجهاد ضد القوات السوفيتية، وأن آلاف الجزائريين انضموا إلى صفوف الجماعة الإسلامية المسلحة والحركات الجهادية الأخرى في الساحة الجزائرية، خلال الحرب الأهلية في البلاد في تسعينات القرن العشرين.
لكن، وعلى الرغم من التراجع الحاد في النشاطات الجهادية منذ نهاية الحرب الأهلية، إلا أن السلطات الجزائرية واصلت الحديث عن إرهاب مُستلحق من حقبة السنوات الـ15 المنصرمة، واليوم، يتواصل النشاط الجهادي داخل الجزائر، وإن كان على نطاق عمليات فردية محدودة ومتفرّقة.
يمكن تفسير أسباب العدد المحدود من المقاتلين الآتين من الجزائر (وبشكل أعم نفوذهم الضئيل في البلاد) بمجموعة من العوامل، منها: الخطاب العام الجزائري، والدائرة الدينية الجزائرية وسياسات الدولة نحوها، ومستوى الأمن في البلاد، ومع ذلك، تُواصل سياسات الدولة تجاهل التظلمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما قد يزرع في نهاية المطاف بذور اللااستقرار مجددًا في الجزائر، ويسفر بالتالي عن تصاعد النزعة الجهادوية في الخارج.
صدمة الجرح الغائر للعشرية السوداء
يبدو أن سببًا رئيسًا للجاذبية الخفيضة للحركة الجهادوية بين الجزائريين، هو تجربة الحرب الأهلية في البلاد التي اندلعت طيلة عقد التسعينات؛ هذه الحقبة، التي تُعرف بالعشرية السوداء، والتي قُتِل خلالها زهاء 150 ألف شخص واختفى 7 آلاف آخرون، خلقت جرحًا عميقًا وغائرًا لاتزال معالمه تتجلى بوضوح في توق الجزائريين إلى الأمن والاستقرار، وهو أمر تُغذي مشاعره السلطات لتبربر مواقفها الأمنية القاسية.
في أعقاب الانتصار الكاسح للجبهة الإسلامية للإنقاذ الراديكالية، في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية في ديسمبر 1991، تم وقف العملية الانتخابية في يناير 1992، وأطلق الجناح المتطرف في الجبهة أولى صرخات الدعوة إلى الجهاد.
في السنوات التالية، شهدت الجزائر ولادة فيض دافق من المجموعات الجهادية، كان أبرزها الجماعة الإسلامية المسلحة التي دعت إلى القتال ضد “الدولة الطاغوت”، وإلى إقامة دولة إسلامية، وبعدها دامت الحرب الأهلية مع أهوالها وقصفها ومجازرها الجماعية أكثر من عشر سنوات، والفرد الذي عاش سنوات الحرب خلال فترة تبرعُم شخصيته، ترعرع في بيئة يحكمها الخوف الدائم.
إلى الآن، لا يزال الخوف من اللااستقرار قوة مهولة في الجزائر، فحالة الطوارئ التي أُعلنت في مستهل الحرب الأهلية، لم تُرفع إلا في العام 2011، ف البلاد لا تزال تشهد حوادث جهادية محدودة ومحلية بشكلٍ كبير، خصوصًا في مناطق مثل منطقة القبائل على ساحل البحر المتوسط، العناصر الجهادية المحلية التي تقوم بهذه العمليات هي إما أعضاء في مجموعات مستقلة ذاتيًا، أو على ارتباط بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، الذي خَلَفَ الجماعة السلفية للدعوة والقتال، التي خَلَفت بدورها الجماعة الإسلامية المسلحة.
والحال أن الجزائريين لا يزالون يشعرون بالقلق من احتمال العودة إلى الاضطرابات السابقة، خصوصًا مع اندلاع النزاعات في بلدان مجاورة كليبيا وتونس، والتي قد تمتد إلى الجزائر.
علاوةً على ذلك، تشكّل الصور المتدفقة من سورية والعراق رسالة تذكير مؤلمة للجزائريين بأحداث العشرية السوداء الذي “لا أحد يريد أن يعيشها ثانية”، كما قال جزائري في عقده الثالث لكاتبة هذه السطور، ويبدو واضحًا أن رغبة الجزائريين في الأمن أقوى من أي وقت مضى، وهذا ماعبّر عنه محامٍ في سن الـ35 بقوله: “الجزائريون نالوا قسطهم من الأهوال، واليوم باتوا مُلقّحين ضد الإسلاموية، إنهم لايريدونها البتة، إنهم مصدومون ومجروحون وخائبو الرجاء”.
عوّلت السلطات الجزائرية على هذه الصدمة العميقة وعلى الخوف من اللااستقرار، وغذّته من خلال البيانات الحكومية التي ركّزت على فكرة أن “الأمن التام” يسود الجزائر، هكذا كان الأمر على وجه الخصوص منذ الانتفاضات العربية التي بدأت في العام 2011، حين أصبح خطاب الدولة (في الإعلام الحكومي وفي خطب المسؤولين) متمحورًا حول مخاطر الإرهاب، وحول الحاجة إلى أمن وطني صلب.
خلال الانتخابات الرئاسية في العام 2014، كان شعار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي ترشّح لولاية رابعة، واضحًا لا لُبس فيه: “الاستقرار والاستمرار”، الافتراض الكامن في هذا الشعار هو أنه ما لم يُعِد الجزائريون انتخاب الرئيس البالغ من العمر 78 حولًا، ستجتاح الفوضى البلاد، كما في تونس ومصر، وستشهد عشرية سوداء جديدة.
هذا الخطاب يستند إلى المقولة بأن بوتقليقة والجيش هما حماة الجزائر المتفانون، ويبدو أن الرأي العام، وعلى الرغم من التظلمات الاجتماعية والاقتصادية، يدعم هذه السياسة الأمنية المطبقة “لأنه لايوجد بديل، وثمة الكثير على المحك”، على حد تعبير كِنزة، وهي مهندسة معمارية في سن الـ31 في الجزائر العاصمة، وأبدى آخرون في العاصمة للكاتبة آراء مماثلة على غرار: “هل لدينا خيار حقًا؟ .. على الأقل بوتفليقة يمكنه تجنيبنا الفوضى”، أو “الخيار اليوم هو بين الطاعون والكوليرا”.
حتى أولئك اليافعين الذين لم يعيشوا الحرب الأهلية، ترسبت لديهم صور الحرب والعنف، وثمة شعور لديهم بأن الخطاب الراهن الخاص بالأمن مقبول بسبب التهديد الإرهابي القائم، وتغذي الحوادث الفردية للإرهاب الجهادي، (مثل الهجوم على منشأة عين أميناس للغاز في العام 2013، والذي قُتل فيه 70 شخصًا، بينهم 37 أجنبيًا كانوا قد أُسروا كرهائن، و29 متشدّدًا)، الخوف من اللااستقرار؛ كما تغذيه البيانات الحكومية المتكررة حول تهديد الإرهاب الذي يواجه البلاد.
من السلفية الجهادية إلى الدعوة السلفية
ثمة سبب آخر للجاذبية المحدودة للجهادوية بين الجزائريين، هو صعود حركة الدعوة السلفية، التي يُطلق عليها البعض اسم السلفية العلمية، كبديل عن كلٍّ من الجهادية والعمل السياسي، والاستلحاق بالدولة.
دخلت حركة الدعوة السلفية الجزائر في عشرينات القرن العشرين على يد الطيب العقبي، الذي كان عضوًا في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي ضمّت نفرًا من الفقهاء الدينيين، وتدعو هذه الحركة إلى الالتزام بما تسميه التعاليم الإسلامية النقية، وتوفّر شبكة من الأعضاء الذين يريدون اتباع هذه المفاهيم وشق طريق لهم في المجتمع، بيد أن الحركة عانت من انقسامات في صفوفها خلال حرب الاستقلال، لكنها شهدت صعودًا مجدّدًا في الثمانينات، وحظيت بدعم أوسع في نهاية الحرب الأهلية في العام 2000.
اليوم، أبرز شخصيات حركة الدعوة السلفية هم الشيوخ علي فركوس، وعبد الغني عوسات، ومحمد تشلابي، وشمس الدين الجزائري، هؤلاء الدعاة بارعون في استخدام وسائط الإعلام الاجتماعي، ولديهم صفحات خاصة بهم في فايسبوك ومواقع إلكترونية، كما أنهم يرشدون ويطرحون فتاوى فورية لأتباعهم على الإنترنت، وعبر الهاتف، وعبر الأثير من خلال محطات المذياع السلفية، الفتاوى والنصائح تغطي مجموعة واسعة من القضايا مثل الهندام، الاقتراع، العمل، الطعام، الصلاة، والزواج، وهي تُعطى بلغات عدة، بما في ذلك الأمازيغية، وهي اللغة البربرية المحلية في شمال أفريقيا.
والواقع أن تنامي حركة الدعوة السلفية يُعزى إلى خيبات الأمل السياسية لدى معظم الجزائريين، هناك حفنة من منظمات استطلاع الرأي في الجزائر ترصد حالة الرأي العام، أو تتطرق إلى مسألة المشاركة السياسية، لكن، وفقًا لاستطلاع قامت به مؤسسة البارومتر العربي في العام 2013، كان معدل المشاركة في العملية السياسية منخفضًا نسبيًا، حيث قال 45% فقط إنهم أدلوا بأصواتهم في الانتخابات العامة السابقة، إضافةً إلى ذلك، بدا أن معدل ثقة الجزائريين بالمؤسسات العامة منخفضٌ أيضًا؛ 8% فقط قالوا إن ثقتهم كبيرة بالبرلمان، فيما قال 47% ممن استُطلعت آراؤهم إنهم لا يثقون البتة بهذه المؤسسة التشريعية.
تعرض الدعوة السلفية بديلًا لأولئك الجزائريين الذين يدعمون الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لكنهم أُثبطوا من جراء عنف الحرب الأهلية، كما تشكّل الحركة تعويضًا لأولئك الذين فقدوا الثقة بالأحزاب الإسلامية مثل النهضة والإصلاح، اللذين شهدا انحدارًا بسبب الانشقاقات والانقسامات في صفوفهما، وأيضًا لفقدانهما الإستراتيجية والقيادة، أما الحزب الإسلامي الرئيس في البلاد، حركة مجتمع السلم، فلا يُعتبر حتى جماعة إسلامية حقة، بل مجرد حزب مُستلحق للدولة، أو “حزب السلطة العالق في صراعات حزبية وتستغرقه مصالحه الخاصة”، وفق تعبير فريد، وهو سلفي شاب من أتباع الشيخ علي فركوس.
يسعى أعضاء الدعوة إلى الحصول على الإرشاد من علماء دين يُعتبرون موثوقين وسدنة المعرفة الدينية الحقيقية، وبعيدين عن الانقسامات الحزبية، والواقع أن الدعوة السلفية تدعو إلى الصمت التام حيال القضايا السياسية، وترفض النشاطات السياسية التي تعتبرها مسؤولة عن الفتنة بين المسلمين.
كما تعرض الحركة على أتباعها الدعم الاقتصادي والاجتماعي عبر نظام شبكات وتبرعات يمكن الوصول إليه من خلال الجماعة السلفية، وتساعد الحوافز الاقتصادية وحس الانتماء إلى الجماعة، التي لها مساجدها وروابطها وعلماؤها وأنماط لباسها وأسلوب حياتها الخاص، على تفسير أسباب عدم اهتمام الشباب السلفيين بمغادرة الجزائر للانخراط في “قتال ليس قتالنا”، وفق الشاب السلفي ياسين.
توظّف الدولة الجزائرية معظم علماء الحركة ليعلّموا في الجامعات أو المساجد، ولا يهتمّون بالدولة وسياساتها، كما لايطرحون أي تهديد لها، من خلال هؤلاء العلماء، والجامعات والمؤسسات والمساجد التي يعملون فيها، تستطيع الدولة السيطرة على الخطاب الديني وتوظيف العلماء لخدمة مشروعها السياسي، وقد شرح مقدَّم سابق في الجيش الوطني الشعبي الجزائري هذا الأمر في مايو 2015 بقوله، “نتركهم يعملون بحرية لأنهم لايطرحون تهديدًا، بل على العكس، يشكّلون وسيلة جيدة تتيح للشباب تنفيس غضبهم وإحباطهم والتكيّف معهما”.
آليات أمنية صارمة ولا ترحم
العامل الأخير الذي يسهم في إبقاء مشاركة الجزائريين في التنظيمات الجهادية منخفضة، خصوصًا في الخارج، هو الرقابة المشدّدة التي تفرضها الأجهزة الأمنية التابعة للدولة على هذه التنظيمات.
لايعني ذلك غياب العنف الجهادي كليًّا في البلاد، إذ إن النشاط الجهادوي المحلّي متواصل، مثل الهجوم الذي شنّه تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على موكب للجيش في عين الدفلى شمال الجزائر في 8 يوليو 2015.
مع ذلك، ليس مفهوم الأمن الكلّي مجرّد شعار، فقوى الأمن في حالة تأهب وتمتلك قدرات عالية، وقد وظّفت الجزائر (39 مليون نسمة) 209 آلاف عنصر شرطة في المديرية العامة للأمن الوطني في العام 2014، فيما كان العدد 90 ألفًا في العام 2009، في المقابل، وظّف المغرب (33 مليون نسمة) حوالى 46 ألفًا في هذا الجهاز، وحتى فرنسا، التي يبلغ عدد سكّانها 65 مليون نسمة، ليس لديها سوى 143 ألف شرطي في جهاز الأمن الوطني.
تقدّم الدولة الجزائرية حوافز إلى أعضاء أجهزة الأمن للحفاظ على ولائهم، ففي العام 2010، زادت الدولة رواتب موظّفي الجهاز المرتفعة أصلًا بنسبة 50%.
ويتمتع أعضاء الأجهزة الأمنية بامتيازات مهمّة، في مجال الإسكان مثلًا: إذ مُنحوا 30 ألف وحدة سكنية في العام 2013، كما يحصل أعضاء الشرطة على مكافآت متعلقة بأدائهم، وعلى بدل خطر تصل نسبته إلى 70% من راتب الموظف، فضلًا عن مدفوعات إضافية مخصّصة للأعضاء الذين ينتقلون إلى مناطق نائية، ومكافآت تصل إلى 400 دولار للأعضاء الذين ينجح أولادهم في امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا).
يدعم كلٌّ من الجيش الوطني الشعبي وجهاز المخابرات التابع له، أي جهاز المخابرات والأمن الوطني، قواتِ الشرطة والدرك، ففي الجيش الجزائري قوة عاملة يبلغ عددها 512 ألفًا، مقارنةً مع تونس التي يبلغ عدد سكّانها حوالى 11 مليونًا ويبلغ عدد قوتها العاملة 40.500، كما أن القوة البشرية المتاحة للتجنيد يبلغ قوامها 20.387.681 شخصًا في الجزائر، مقابل 5.798.752 شخصًا في تونس، وتضم قوة الاحتياط العاملة في الجزائر 400 ألف شخص، مقابل نظيرتها في تونس التي تضم 12 ألفًا.
من خلال هذه القدرات، عزّزت الجزائر حدودها وأرسلت المزيد من القوات لمراقبة حدودها مع ليبيا ومالي والنيجر، وبحلول العام 2014، كانت الجزائر قد أغلقت حدودها كلها، ماعدا حدودها مع تونس، وحوّلتها إلى مناطق عسكرية لايستطيع أحد دخولها من دون تصريح أمني خاص.
والأهم من ذلك أن لدى الجيش الجزائري ما ليس لدى نظيره المغربي أو التونسي، وهو التدريب المتطور للغاية والخبرة القتالية الكبيرة في مجال مكافحة الإرهاب، شرح هذا الأمر رائدٌ سابق في الجيش الشعبي الوطني قائلًا، “لم يعد الجيش الجزائري كما كان في تسعينات القرن المنصرم حين كان الوضع خارجًا عن السيطرة … واجه الجيش كارثة في السنتين الأولتين لأننا لم نكن نملك أي خبرة في مجال الحرب ضد الإرهاب … لكن كل شيء اختلف اليوم؛ فنحن نملك العتاد، القوة البشرية، المال، وخصوصًا الخبرة، والمجموعات الإسلامية خاضعة إلى السيطرة والمراقبة، ولن نسمح لها بفعل ذلك مجدّدًا، كل الأمور تحت السيطرة … لدينا آليات أمنية صارمة ولاترحم”.
زاد الجيش بالفعل مهامّه وعملياته الأمنية منذ نشوب الصراع الحالي في ليبيا في العام 2014، وحقّق نجاحًا نسبيًّا في تأمين الحدود الجزائرية ضد تدفّق المقاتلين من خارج البلاد، كما أنه يعتقل بشكلٍ دوريّ مهرّبي المخدرات والسلاح والجهاديين، ولا سيما في الجنوب (في عين أميناس وجانت بالقرب من الحدود الليبية) والشرق (في تبسة والوادي بالقرب من تونس).
على سبيل المثال، قتل الجيش الشعبي الوطني عبد المالك قوري، زعيم المجموعة الجهادية جند الخلافة، – التي أعلنت عن ولائها لتنظيم الدولة الإسلامية، وتبنّت قتل المواطن الفرنسي هيرفيه غورديل في العام 2014 – مع اثنين من رجاله، بعد شهرين من قطع رأس غورديل، ونفّذ الجيش الشعبي الوطني لاحقًا عملية ضخمة في مدينة البويرة أسفرت عن مقتل خلف القوري، بشير عثمان العاصمي، والقضاء على مجموعته المؤلفة من 25 رجلًا.
في مثالٍ آخر عن الردّ الصارم على الأنشطة الجهادية المتفرقة والمحلية، قُتل 190 جهاديًّا في منطقة القبائل، التي كانت خاضعة سابقًا إلى سيطرة الجماعة الإسلامية المسلحة، بين يناير وسبتمبر 2013.
أي مرحلة مقبلة في الجزائر؟
على الرغم من كل التدابير التي اتخذتها الدولة، تشكّل الآليات الأمنية الصارمة نهجًا خطيرًا؛ وذلك بسبب انتشار ثقافة الإفلات من العقاب في صفوف أعضاء الشرطة والأجهزة الأمنية، ما يتيح لهم ممارسة التعذيب وسائر انتهاكات حقوق الإنسان من دون الخضوع إلى المحاسبة، قد ينجم عن ذلك تطرف الشباب، كما حدث في الجزائر في التسعينات، حين أدى فتح مراكز الاحتجاز في الجنوب إلى سعي آلاف الشباب إلى الانتقام والثأر، ينبغي على الجزائر أن تفكر في إصلاح قطاع الأمن، ماقد يشكل خطوةً أولى في مسار بناء علاقات مدنية – عسكرية أكثر توازنًا.
إضافةً إلى ذلك، لا تزال الجزائر تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية، والشباب هم بلا شك أولى ضحايا هذه المشاكل، تعتمد الجزائر بشكلٍ كبير على قطاع النفط والغاز، الذي يشكّل 60% من عائدات الميزانية في البلاد، و97% من صادراتها، و30% من إجمالي الناتج المحلي، بعبارة أخرى، لا يزال اقتصاد الجزائر اقتصادًا ريعيًا.
على المستوى السياسي، ثمة نقص، لا بل غياب كامل، للتجديد الجيلي (من أجيال) في الجزائر، ما سمح ببقاء المسؤولين أنفسهم في السلطة منذ مرحلة ما قبل استقلال البلاد في العام 1962، وقد حالت سلطويتهم وإستراتيجياتهم الاستلحاقية دون ظهور معارضة حقيقة، كما أدّت إلى نشوء مجتمع محلّي يعاني من فقدان المعايير.
تشمل المشاكل الاجتماعية – الاقتصادية التي تعاني منها الجزائر؛ بطالة عالية بلغت نسبتها 10.6% في الربع الثالث من العام 2014؛ وأزمة إسكان، مع نقص تراكمي متمثّل في 1.993.768 وحدة سكنية في العام 2015، ومعدلات أجور منخفضة جدًا وظروف معيشية سيئة أثارت أكثر من 9 آلاف حادثة أعمال شغب في العام 2010، قد تدفع كل هذه المشاكل الشباب إلى الحركات الجهادية باعتبارها وسيلة للتعبير عن استيائهم والانتقام، ومع تواصل نشاط الحركات الجهادية في البلاد، برزت بيئة مؤاتية لاستقبال الشباب الساخطين.
إذا ما أُريدَ إبقاء عدد الجزائريين الذين ينضمون إلى الحركات الجهادية في الخارج منخفضًا نسبيًا، ولمنع الشباب الساخطين من الانضمام إلى المجموعات الجهادية المحلية، ينبغي على النظام أن يعالج القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تؤثّر على السكان، ولا سيما على الشباب في البلاد، وسوف تتطلب معالجة الإحباط في صفوف الشباب1 أكثر من مجرد ضخ مليارات الدولارات في مشاريع مثل الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب، فمثلما حمل جيل العام 1962 السلاح للمطالبة بحقوقه في عام 1992 بعد 30 عامًا على الاستقلال، قد تكون المسألة مسألة وقت فقط قبل أن يحمل جيل العام 1992 السلاح بدوره للمطالبة بحقوقه من الفئة نفسها التي حكمت البلاد منذ مرحلة ما قبل الاستقلال.
سوف تُمحى ذكرى الحرب الأهلية تدريجيًا، وستصبح السيطرة على الحدود أكثر صعوبةً بعد، وقد لا تعود الدعوة السلفية قادرة على الاستجابة لغضب مناصريها وإحباطهم، حينئذٍ، ستزداد التظلّات الاجتماعية – السياسية والاقتصادية التي لم تتم معالجتها، كما سيزداد إحباط الشباب وشعورهم بالحُقرة2، وقد يعزز هذا الأمر دعم الشباب للمجموعات المتطرفة الداخلية أو الخارجية، التي تمنحهم صوتًا وعلة وجود، وستشهد البلاد مرة أخرى دوامة من العنف.
وفيما قد يعني هذا التوجه تزايد عضوية المجموعات العاملة في الجزائر والمغرب، فهو قد يؤدي أيضًا إلى تفاقم القتال في مناطق أبعد، ذلك أن النزاعات كالنزاع السوري، تشكل فرصة للمقاتلين لاكتساب الخبرة والمعرفة، اللتين يمكن تطبيقهما عند عودتهم إلى وطنهم، آملين أن ينجحوا حيث فشل أسلافهم، أي في إنشاء دولة إسلامية في الجزائر.
————————————–
هوامش
1 منحت الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب مبالغ طائلة من المال إلى الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و35 (و40 بالنسبة إلى المدراء)، ووفقًا لإحصاءات الوكالة الرسمية المنشورة على الإنترنت، قدّمت الوكالة حوالى 1.5 مليار دولار على شكل قروض في العام 2012، وبين عامَي 2007 و2013، قدّمت الوكالة ما يفوق 5.8 مليار دولار على شكل قروض، ومن العام 2010 إلى العام 2014، مولت الوكالة من 20.000 إلى 60.000 مشروع، وتم خلق حوالى 700.000 فرصة عمل، وتم إنشاء حوالى 90.000 مؤسسة صغيرة في العام 2014، ووفقًا لوزارة العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي، سيبلغ العدد الكلي للمؤسسات الصغيرة 500.000 مؤسسة مع نهاية العام 2015.
2″الحُقرة” تعبيرٌ باللهجة الجزائرية العامية، ويعني الشعور بالظلم.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط