تشنّ السلطات المصرية منذ يوليو 2013، حملة قمع تستهدف المعارضين، وقد تجاوز نطاق هذه الحملة وحدّتها خلال العامين الماضيين، كل ما شهدته مصر في عهد حسني مبارك، وأبرز محطاتها الهجوم الذي شنّته القوى الأمنية على متظاهري الإخوان المسالمين في معظمهم في مسجد رابعة العدوية وميدان النهضة في العام 2013، والذي أسفر عن مصرع 817 شخصًا على الأقل؛ وشنّ حملة من التوقيفات الجماعية أدت إلى ارتفاع عدد السجناء السياسيين إلى أكثر من 40 ألفًا بالمقارنة مع خمسة إلى عشرة آلاف نحو أواخر عهد مبارك؛ وصدور 509 أحكام بالإعدام الجماعي في العام 2014، أي بزيادة 400 حكم بالمقارنة مع العام 2013، فضلًا عن ذلك، تحوّلت طبيعة القمع من مقاربة مدروسة ومتأنية في عهد مبارك إلى حملة منهجية وغير مضبوطة في عهد عبد الفتاح السيسي، لقد قتلت السلطات مواطنين عزّلًا، واستخدمت العنف الجنسي ضد النساء والرجال والأولاد مع إفلات أكبر من العقاب؛ ومارست الإخفاء القسري للأشخاص بمستويات غير مسبوقة.
على الرغم من تفشي القمع خلال عهد مبارك، إلا أنه كان أخفّ وطأةً وكان يُستخدَم بصورة أكثر تقطعًا كوسيلة سياسية نفعية لتثبيت النظام، لقد حرص نظام مبارك على الحفاظ على واجهة ليبرالية من خلال الحزب الوطني الديمقراطي الذي استخدمه مبارك وحلفاؤه لبث صورة ديمقراطية أمام أعين الجماهير المحلية والدولية، فعلى سبيل المثال، قاد الحزب الوطني الديمقراطي في العام 2005 التعديلات الدستورية التي سمحت بإجراء أول انتخابات رئاسية متعددة المرشحين في تاريخ البلاد، وأعقبها مزيد من التعديلات في العام 2007، في خطوةٍ بدا في الظاهر أنها تعزز صلاحيات مجلس الشعب المنتخَب، لكنها لم تقدّم إصلاحات جوهرية. في المقابل، وبعد أكثر من أربعة أعوام من الاضطرابات، يبدو نظام السيسي أقل قدرة أو استعدادًا إلى حد كبير لكبح القمع الذي يمارسه والأساليب العنيفة التي يلجأ إليها، من الاستثناءات القليلة اعتذار الرئيس السيسي في يونيو 2015 عن همجية الشرطة – الذي يمكن تفسيره بأنه تعبيرٌ نادر عن التفكك في صفوف القوى الأمنية – والتقرير الذي نشرته صحيفة “الأهرام” في أبريل 2015 والذي تضمن إدانةً لهمجية الشرطة المتواصلة.
غالب الظن أن اللجوء إلى مزيد من القمع ناجمٌ عن التغيير في تركيبة النخبة الحاكمة، لاسيما سيطرة الجيش وتفوقه على نخبة الأعمال المدعومة من الحزب الوطني الديمقراطي والتي كانت شريكة الجيش في عهد مبارك، لقد تغيرت قاعدة النظام الأيديولوجية من التحرير والتقدم الاقتصادي إلى الاستقرار السياسي، واحتواء الإخوان المسلمين، ومكافحة الإرهاب.
على النقيض من نظام السيسي، أدان الحزب الوطني الديمقراطي خلال وجوده في الحكم، التعذيب، وفرَض قيودًا على استخدام العنف من جانب الدولة، وسعى إلى الحفاظ على واجهة من الاستقلال القضائي، لكن نظام السيسي تخطى عددًا من الخطوط الحمراء السابقة، فأساء بذلك إلى مشاعر بعض الطبقات الوسطى المدنية، فعلى سبيل المثال، اتخذ اللجوء إلى العنف الجنسي، على الرغم من استخدامه في عهد مبارك، أشكالًا أكثر دراماتيكية ومنهجية، وتحول اغتصاب الرجال المحتجزين لدى الشرطة إلى تكتيك متواصل ومنتشر على نطاق واسع، وكذلك تجاوز النظام الحدود بقتل الشاعرة شيماء الصباغ التي أُصيبت بطلق ناري خلال وضعها الزهور في ميدان التحرير في الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير، أخيرًا، يستمر النظام في اعتقال محمود محمد حسين، ابن الـ19 ربيعًا، الذي أوقِف في الذكرى الثالثة للثورة بسبب ارتدائه قميصًا عليه شعار مناهض للتعذيب.
يعتبر البعض أن تكتيكات السيسي تعكس ببساطة واقع السياسة المصرية بعد أربعة أعوام على انطلاق الانتفاضة، لكن هذا المنطق يتجاهل وجود بدائل أخرى لحملة القمع الراهنة، فعلى سبيل المثال، أعرب الإخوان المسلمون، مباشرةً بعد الانقلاب، عن رغبتهم – سواءً كانت حقيقية أم لا – بالتوصل إلى حل سلمي، وذلك قبل انتهاء المفاوضات وتحرُّك الجيش لتفريق الاعتصامات، بيد أن النخب العسكرية اختارت إلغاء الإخوان من حلبة المنافسة، ما أتاح لسلك الضباط ترسيخ سيطرته على المشهد السياسي.
في حين استخدم نظام السيسي القمع الجسدي تكتيكًا أساسيًا للتعامل مع النشطاء العلمانيين وأعضاء الإخوان على السواء، وخير دليل على ذلك الأحكام القاسية التي صدرت بحق المجموعتين، شكّل التهميش الاقتصادي والسياسي الوسيلة الرئيسة للتعامل مع النخبة في قطاع الأعمال؛ ففي أعقاب انتفاضات 2011، وُضِع رجال أعمال في السجون على خلفية اتهامات بالفساد، وعلى الرغم من الإفراج عن أحمد عز، قطب صناعة الفولاذ والساعد الأيمن لجمال مبارك، في أغسطس 2014، إلا أنه مُنِع من الترشح لمجلس النواب في العام 2015، وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، أكد الجيش سيطرته عبر لجوئه إلى توسيع أمبراطوريته الاقتصادية إلى درجة كبيرة على حساب نخبة الأعمال، مثلًا عبر منح عقود حكومية كبيرة إلى شركات تسيطر عليها المؤسسة العسكرية بدلًا من القطاع الخاص، ولعل الدور الأساسي الذي أداه الجيش في مشروع قناة السويس الجديد هو خير دليل على هذا التأثير المتنامي.
مع تزايد التأثير الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، ومع إقصاء الحزب الوطني الديمقراطي والإخوان المسلمين، ألغيت معظم الضوابط التي كانت تحد من نفوذ الجيش وقوته، وقد انضوى القضاء في شكل خاص في الخط السياسي للمؤسسة العسكرية – ولم يعد يُظهر مؤشرات الاستقلالية التي كان يتمتع بها في عهد مبارك، عندما شارك القضاة الإصلاحيون في معارضة النظام خلال انتخابات 2005، كما أن الأحكام القضائية التي صدرت بحق أعضاء الإخوان المتهمين بـ”الإساءة إلى المحكمة” تظهر مستوى مرتفعًا من العداء للإخوان المسلمين داخل السلطة القضائية، وفي سياق هذه الإجراءات الانتقامية يندرج أيضًا الحكم الشهير على 14 مراهقة نظّمن تظاهرة سلمية، بالسجن 11 عامًا – خُفِّض لاحقًا إلى حكم بالسجن سنة واحدة مع وقف التنفيذ، بعد التعرّض لضغوط داخلية.
غالب الظن أن القمع سيبقى التكتيك المفضل لدى السلطات المصرية، ثمة مؤشرات تؤكد ذلك؛ فالقانون الجديد لمكافحة الإرهاب الذي أقره مجلس الوزراء في يونيو 2015، يتضمن الكثير من المواد القمعية، منها تلك التي تنص على تجريم التقارير الإخبارية التي تتناقض مع الروايات الرسمية للحكومة، علاوةً على ذلك، من شأن اقتراح تعديل القانون القضائي أن يتيح مخرجًا قانونيًا لتنفيذ مئات الأحكام بالإعدام الجماعي، لكن خلافًا لما كانت عليه الأمور في عهد مبارك، لم يعد القمع مركزيًا كما أنه لم يعد بالإمكان السيطرة عليه بسهولة، ربما يحاول الجيش تركيز السلطة في يده، إلا أن المنافسة مستمرة بين الأجهزة الأمنية للحفاظ على استقلالها الذاتي المؤسساتي وامتيازاتها، سوف يتعرض الجيش، بسبب الجهود التي يبذلها لتثبيت السلطة في يده، من دون استخدام واجهة مدنية، على غرار الحزب الوطني الديمقراطي، للتدقيق والانتقادات من الرأي العام، ما يُهدد استقراره في المدى الطويل، يمكن أن تشكل تناقضات النظام، التي تساهم في تراكم الثروات في أيدي الجيش، قضيةً جامعة قوية في وجه النظام المصري، الأمر الذي من شأنه أن يمهد الطريق أمام اندلاع انتفاضة أخرى.
المصدر: صدى