سأختلف معك سياسيًا وسيكون بيننا سجال ومعارك سياسية، ولكنني لن أقبل أبدًا بسفك الدماء أو استباحة مساحتك الشخصية، تلك الجملة بمثابة البوصلة التي تحكم أي عمل سياسي؛ لأن فقدانها يعني النزوع إلى الفاشية، وتغليب منطق القوة والعنف الذي لا يبني دولة، أو يقيم نظامًا ديمقراطيًا يرسخ قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، والأهم من ذلك هو التأكيد على مدنية الدولة، تلك المقولة التي تلاشت تمامًا ولم يعد لها وجود الآن.
في الحقيقة مثّلت رابعة منعطفًا هامًا في الساحة السياسية المصرية وامتدت آثارها إلى الساحة السياسية العربية، فقد كانت محطة اختبار لجميع القوى والتيارات التي كانت ترفع شعارات الحرية والديمقراطية، إلا أن ما حدث وموقف تلك القوى أكد على أنها لا تختلف كثيرًا عن الإخوان أو النظام في طريقته البرجماتية التي يتعاطى بها مع المواقف، وبغض النظر عن التقييم السياسي لما حدث في رابعة وعن المقولات السياسية التي أطلقت حينها، ولازالت تطلق حتى الآن، من الأطراف المختلفة أو وجهات النظر المتباينة، والتي لا يمكن أن تنسحب على الدماء، تظل الحقيقة الثابتة أن ماحدث هو مجزرة، ففي خلال ساعات تم قتل مئات الأشخاص المعتصمين داخل ميدان رابعة، ولا أريد أن أسترجع مشاهد الفض التي تؤكد على فظاعة ووحشية ما جري، لكن الخريطة السياسية في مصر بعد رابعة قد تغيرت فعليًا.
الإخوان المسلمون ورابعة
مع صعود جماعة الإخوان إلى واجهة الحكم في مصر توارى الجانب الدعوي لديها تمامًا، وبرز الجانب السياسي بتداعياته المفككة والمهلهلة، وبرز دور التنظيم وتأثيره في مدى رسم تحركات الجماعة ورؤيتها، وكذلك في تطوير أفكارها، وكيف ساهم في حصار الفكرة التي نشأت مع الجماعة منذ البداية.
الصراع الذي كان دائرًا قبل صعود الإخوان إلى السلطة انحصر بين الحفاظ على الفكرة أو الحفاظ على التنظيم، إلا أن الجناح القطبي داخل الجماعة انتصر لفكرة التنظيم، ومن هنا نستطيع أن نفهم تحركات الإخوان فيما بعد؛ والتي كان منطلقها الأساسي الحفاظ على التنظيم وعدم التضحية به، وتبنى رؤية تقوم على التوازن والإصلاح، وهو ما انعكس بالتأكيد على الفكرة التي يتبناها الإخوان وأضعفتها وحولتها إلى مجرد شعار يتم ترديده باعتباره شاهدًا على الجماعة في جانبها التاريخي، وانعكس أيضًا على الجماعة في أدائها السياسي عند صعودها للسلطة، فظلت تقدم مبدأ المصلحة الشخصية للجماعة وليس مصلحة أفراد الشعب التي اختارت الإخوان.
لم تدرك الجماعة اللحظة التاريخية التي وصلت إليها، فمع وصول محمد مرسي إلى السلطة كانت هذه هي الفرصة التاريخية لوصول أول رئيس مدني للسلطة في مصر، وظلت الجماعة على طريقتها في التعامل مع المؤسسة العسكرية على أساس الموازنة والتفاهمات التي ترضي الطرفين دون النظر إلى مصلحة الشعب، أملًا منهم في ميراث تركة مبارك لخدمتهم وخدمة رؤيتهم.
أداء الإخوان تميز بالتعالي في أحد جوانبه وبالغباء في الجانب الآخر؛ وهو ما سهل الطريق لخصومهم للانقضاض عليهم والإطاحة بهم، وحتى الوصول للحظة الإطاحة حدثت مشكلات في التنظيم وانشقاقات متتالية، وبدأت تعلوا أصوات تطالب بتغيير القيادات، وإيجاد صيغة ديمقراطية تحكم الجماعة وتصوراتها، وتحاسب المتسببين في الفشل السياسي الذي تميز به أداؤها، وهنا كانت رابعة المخرج أو اللحظة التي كان يسعى إليها الطرفان، والتي أعطاها النظام للإخوان لإعادة ترتيب صفوف التنظيم وتماسكه ومحاولة تفادي تفككه، والعيش مرة أخرى في نفسية المضطهد، والعودة إلى العمل السري الذي أجادت الجماعة إتقانه، وتحويل رابعة إلى كربلاء جديدة ينتظر الإخوان ذكراها والتأكيد عليها.
بحدوث رابعة عادت المظلوميات التاريخية مرة أخرى، واجترار الماضي دون محاولة تجاوزه أو عمل مراجعات لأسئلة مهمة في فكر الجماعة وتاريخها، والتعاطي مع اللحظة التاريخية ومحاولة إقامة فهم متوازن، أو النظر في التغيرات الدولية التي حدثت في المنطقة، وتوقف قيادات الجماعة في الخارج عن تقديم خطاب به نوع من الشماتة أو التحريض، صحيح أن ما حدث وما يحدث مع الإخوان تجاوز بمراحل ما حدث في الستينات إلا أن تغيرات الواقع تستوجب على الجماعة تقديم خطابًا جديدًا، وعمل مراجعات لتجاوز المرحلة الحالية، إلى مرحلة جديدة مبنية على رؤية وفهم أعمق للمتغيرات والواقع معًا.
على صعيد النظام
بلا شك كان النظام يسعى إلى الانتقام والإجهاز على غريمه الأساسي، الذي كان للحظات سياسية معينة أقرب للشريك منه للغريم، النظام كان يتبنى خطاب العنف واستغل أدواته الإعلامية التي روجت لنشر الإشاعات قبل فض الاعتصام ومحاولة ترويج القبول به على المستوى الشعبي، والقول بأن الاعتصام كان مسلحًا، ولو صحت تلك المقولة فإنها على الجانب الفردي وليس الكلي للاعتصام، وهذا في حد ذاته ليس بمبرر للقيام بعملية العقاب الجماعي التي ارتكبها النظام ضد المعتصمين.
النظام كان يسعى إلى كسر شوكة الإخوان والتأكيد على هيبة الدولة والسلطة والتأكيد على قوته وقدرته على كبح جماح الإخوان، بالطبع كان هناك رهان من المحيط الإقليمي على قدرة النظام في فعل ذلك، فالإطاحة بالإخوان في مصر تسهل المهمة للإطاحة والإجهاز عليهم في بقية الدول الأخرى، في الجانب الآخر حاول النظام بذلك الدفع بالجماعة إلى تبني منهج العنف الواضح والسير على الطريقة الجزائرية؛ وبالتالي إيجاد المبرر القوي للإجهاز عليهم، إلا أن الإخوان لم ينجروا خلف ذلك واكتفوا بالمظلومية التاريخية والتأكيد عليها.
في اللحظة التي اختار فيها النظام فض الاعتصام عزز ما يمكن تسميته بالفاشية الشعبية والقبول بمنطق القتل والتنكيل بالخصم السياسي، وشرعنة العنف من قِبل الدولة وأجهزتها التي تعتبر بمثابة اليد الباطشة للنظام، إعلام النظام خلق قطاعًا عريضًا من الشعب يقبل بفكرة القتل والإجهاز على الخصم السياسي، وتقبل مسألة سجنه وانتهاكه وتلفيق القضايا له، والانحراف تمامًا عن مبادئ وقيم العدالة، والتي سيدفع ثمنها وقتًا ما.
القوى السياسية
القوى السياسية في الساحة المصرية ليست نسيجًا واحدًا بل هي أطياف مختلفة الفكر والاتجاهات، إلا أنها اتفقت على الإطاحة بالإخوان المسلمين، ومثلت الغطاء المدني الذي سهل مهمة المؤسسة العسكرية للمرور والعودة مجددًا للسلطة، الاختلاف السياسي لم يكن هو المأزق، فهو جزء من كل في إطار منظومة تدافع سياسي، خلقها المناخ العام بعد الثورة، إلا أن القبول بعملية سفك دماء الآخر والقبول بإشاعات النظام والتأكيد لها ورفض مبدأ القتل، كان هو الاختبار الحقيقي الذي أكد على سقوط القيمة الأخلاقية لهذه الجماعات السياسية، وكذب ادعاءاتها وشعاراتها التي نادت بها، والمشاركة في القتل بذلك، بالطبع لا أريد التعميم، فبعض المواقف كانت رافضة لذلك إلا أنها لم تكن سوى مواقف شخصية.
هذه القوى السياسية غير قادرة على بناء بديلًا سياسيًا أو تقديم مشروعًا يشعر الجميع بالمشاركة فيه، وبالتالي لن تشكل تهديدًا للنظام، من يشكل التهديد بالنسبة للنظام هم الإخوان على الرغم من فظاعة مايحدث ضدهم، إلا أن السياق التاريخي يؤكد على أن الجماعة والنظام هما أقدر طرفين على التفاهم والتفاوض دون الآخرين، فهل سيكون هذا أم أن للواقع كلمة أخرى.