كثيرون هُم من غادرونا في صمت العُظماء بعد أن أنتجوا للبشرية فكرا ورأيا وزادا معرفيا لازالوا إلى اليوم نبراسا يهتدي به الباحثون، وكثيرون هُم من وُلدوا ليكونوا أعلاما دون أن ينالوا من الإعلام حظهم في التعريف بمناقبهم وأعمالهم.
يُصادف يوم 12 أغسطس من كل سنة تاريخ وفاة العلّامة التونسي محمّد الطّاهر بن عاشور، ليمُر خافتا في وسائل الأعلام المحلية لا تسمع له ركزا، ورغم أن الشعوب عادة ما تجدها تفتخر بأمثاله ممن بذلوا حياتهم للشأن العام، يكفي أن تستجوب في الطريق العام شريحة متنوعة من التونسيين حول شخصه ومأثوراته، حتى تتأكّد أنه وقع تغييبه من الذاكرة الجمعية.
من هو؟
الشيخ محمد الطاهر بن عاشور هو من أبرز علماء الدين والاجتماع في العصر الحديث ، إلا أن الاهتمام بآثاره ونبوغه العلمي اقتصر لدى الباحثين بالخصوص على الجانب الديني منه، ولم تبرز العناية بالقيمة الكبرى بالبعد الإصلاحي في فكر وآثار العلامة الطاهر بن عاشور إلا في السنوات الأخيرة من القرن العشرين.
وقد وُلد بتونس سنة 1879 في أسرة علمية عريقة تمتد أصولها إلى بلاد الأندلس، استقرت في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش التي تعرض لها المسلمون هناك. وقد نبغ من هذه الأسرة عدد من العلماء الذين تعلموا بجامع الزيتونة، المؤسسة العلمية الدينية العريقة التي كانت منارة للعلم في الشمال الأفريقي، من بينهم محمد الطاهر بن عاشور، وابنه الذي مات في حياته، الفاضل بن عاشور.
تكوينه الأكاديمي
حفظ الطاهر بن عاشور القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة سنة 1892 وهو في الرابعة عشرة من عمره، فدرس علوم الزيتونة ونبغ فيها، وأظهر همة عالية في التحصيل، وساعده على ذلك ذكاؤه والبيئة العلمية الدينية التي نشأ فيها، وشيوخه العظام في الزيتونة الذين كان لهم باع كبير في النهضة العلمية والفكرية في تونس، وملك هاجس الإصلاح نفوسهم وعقولهم فبثوا هذه الروح الخلاقة التجديدية في نفس الطاهر، وكان منهجهم أن الإسلام دين فكر وحضارة وعلم ومدنية.
وتخرج الطاهر في الزيتونة عام 1896، والتحق بسلك التدريس في هذا الجامع العريق، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة 1903.
وكان الطاهر قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة 1900، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة ذات المنهج التقليدي والصادقية ذات التعليم العصري المتطور أثرا بالغا في حياته، حيث سمحت له بالتقاط ضرورة ردم الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ومُرجّحان ليكونا محوري انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما تيار الأصالة الممثل في الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية. وقد دون آراءه هذه في كتابه النفيس “أليس الصبح بقريب؟” من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي.
مرجعيته الفكرية
وقد ساهمت بيئة النشأة الأولى في أن يتصدّر بن عاشور ركب الفكر الإصلاحي المُجدّد في تونس والعالم الإسلامي في مجالي الدين والعلم، خاصة مع تزامن نُضجه مع ظهور الحركة الإصلاحية التونسية وبداية تبلورها سياسيا وثقافيا، حركة كان أهم روادها الشيخ محمد قابادو والشيخ سالم بوحاجب الذي تتلمذ على يديه في مراحل تعليمه العليا، وهو الذي كان يدعو للتخلص من الجمود الفكري والملاءمة بين مقتضيات العصر ومقاصد الشريعة الإسلامية والتخلي عن تجريم التفكير وضرورة اعتماد العقل إلى جانب النقل، إضافة لدعوته إلى الأخذ بالعلوم الحديثة لتطوير فهم الشريعة.
وقد انشغل بن عاشور بمحاولة إدراك وفهم ظاهرة تخلف المجتمع الإسلامي تأسيا بما اهتم به الرواد الإصلاحيون العرب، فكان يتجه في فكره نحو سبر أغوار وأسباب هذا الركود الكامن في المُجتمع الإسلامي بالتوازي مع البحث عن سُبل التقدّم وامتلاك القوة، وهو ما تجلّي في دعوته إلى أهمية تطوير فهم الشريعة الإسلامية والنهوض بمنزلة العلم من أجل تطوير المجتمع، إلى أن وصل لمرحلة من النضج الفكري تنطلق على التناول المقاصدي للشريعة استنادا لقوله بأن لكل عصر حاله، ولكل مجتمع خصوصياته.
الثورة على منهج الحفظ والتلقين
وقد كان تركيز الطاهر بن عاشور أساسيا على النهوض بالعلم وتوسيع مجالاته، فقد كان رافضا لصيغ التعليم السائدة آنذاك والمرتكزة على الحفظ والتلقين، وكان هدفه الأساسي هو النهوض بالتعليم. وقد انكب لمدة ثلاث سنوات على تأليف كتاب في هذا الغرض بعنوان”أليس الصبح بقريب” وعمره لم يتجاوز الخامسة والعشرين، فكان كتابا بمقام وثيقة ينبئ عن فكر إصلاحي رائد، يجعل من اكتساب العلم واستنهاض العقل والتفكير السليم مرتكزات التطوّر والتقدّم. وهو يعتبر أن للعلم غرضا مجتمعيا بعيد الأثر في التطوّر، ويحدده بالقول: “ليس العلم رموزا تحل، ولا كلمات تحفظ، ولا انقباضا وتكلفا، ولكنه نور العقل واعتداله، وصلاحيته لاستعمال الأشياء فيما يُحتاج إليه منها… ما كانت العلوم إلا خادمة لهذين الغرضين، وهما ارتقاء العقل، واقتدار صاحبه على إفادة غيره.”
ومن أوجه الثورة على السائد في هذه النقطة تجرّؤه واعتباره أن العلوم التي تُلقّن في الزيتونة لا تعدو أن تكون سوى إضاعة للأعمار وحشو للأدمغة، مشيرا في أغلب كتاباته إلى أن بناء أمة قوية يمر عبر إصلاح التعليم والقطع مع المناهج التي تخرّج حفظة للقرآن منزوعي القدرة على التفكير والإنتاج.
وبالفعل، قاد بن عاشور لدى توليته مسؤولية الإشراف على التعليم الزيتوني بصفته “شيخ الجامع الأعظم” ثورة إصلاحية على مستوى مناهج التعليم وأساليب تدريسه ونظم إجراء الإختبارات العلمية، باثا فيه روح الفكر المُستنير ورفض التعصب المذهبي إضافة إلى معالم التناول المقاصدي للشريعة الإسلامية خاصة وهو الذي كان يعتقد أن أزمة التعليم الديني تكمن في التقليد وعدم إعمال العقل والفكر رغم أن الإسلام ذاته يحُثعلى البحث والإجتهاد.
انتصاره المُبكّر للمرأة
ومما تميز به الشيخ بن عاشور عن العديد من أقرانه في ذلك العصر، انطلاقه من المُجتمع في تناول المسألة الدينية باعتباره جوهر التغيير منه ينطلق وإليه ينتهي، وكان من أبرز مُقارباته المُجتمعيّة مواقفه المُتعلّقة بالمرأة ودورها في المجتمع باعتبارها محور بناء الأسرة والمُنطلق الحقيقي لرُقي المُجتمع، إذ طالب بضرورة تغيير نظرة المُجتمع في ذلك الوقت للمرأة والتعامل معها على أساس إنسانيتها ودورها المركزي في تحقيق النهضة.
ولم يكتف بن عاشور في هذه النُقطة بالتنظير، بل مضى في تكريس رُؤاه على أرض الواقع من خلال إشرافه على فتح أول فرع زيتوني لتعليم المرأة سنة 1949 ليخرّج تباعا دفعات من النسوة المتعلمات المتمكنات من فهم الدين على أصوله حتى يقمن بوظيفتهن الكبرى في المجتمع على أفضل وجه.
صدق الله وكذب بورقيبة!
وفي حديثنا على بن عاشور المُصلح والمُربي والمُفكّر، لا يُمكن أن نُغفل أهم ما حفظه له التاريخ من رباطة الجأش والصدع بالحق في حضرة السلطان الجائر.
ففي رمضان سنة 1961 الذي أتى في شهر الصيف، دعا الرّئيس التونسي آنذاك، الحبيب بورقيبة، العمال إلى الإفطار بدعوى زيادة الإنتاج، وكل من عاصر خطبته الصماء تلك يتذكّر كيف شرب كأس ماء على الهواء مُباشرة مُطالبا التونسيين بأن يحذوا حذوه وأن يٌحمّلوه وزر الإفطار إن كان في ذلك وزر. وحتى يُشرعن دعوته، طلب بورقيبة من بن عاشور أن يُفتي في الإذاعة الوطنية بجواز ما نادى به، ليُفاجئه بقراءة آية الصيام ثم بالقول : “صدق الله وكذب بورقيبة”.
كيف تأثرت الحركة الإسلامية التونسية بكتابات بن عاشور
وعند البحث في شهادات قيادات الحركة الإسلامية في تونس (حركة النهضة اليوم) المكتوبة أو المرئية، نجد إجماعا على أنها تأسست على أرضية فكرية غلب عليها اللون المشرقي المُستورد، ما طرح لاحقا مسألة تبيئة الفكر الذي تحمله مع محيطها الذي تتوجه إليه باعتبار أنها كانت أمام خيارين خاصة وهي التي تريد أن تُقدّم بديلا لمُجتمع أصابته ريح التغريب : إما أن تتهمّش الفكرة أو أن تُحاول قلب المجتمع كلهمن خلال فرض هذا الفكر الوافد، وما كان هذا ممكناً، فالمجتمع أصلب من أن يكون عجينا سهل التطويع.
هذا الجدل الفكري دفع الحركة الإسلامية للبحث عن نفسها في جامع الزيتونة، يقول راشد الغنوشي، أحد مُؤسسيسها الأوائل :
“بدأت الحركة الإسلامية تبحث في جامع الزيتونة عن جوانب التجديد لتؤصّل نفسها في إرث البلاد، كان ذلك في الثمانينات. وأذكر أن أول ما قرأته لابن عاشور وهو أهم رمز للثقافة الإسلامية في تونس الحديثة كان في الثمانينيات، ولم أكن قبل ذلك قد قرأت كتاباً إسلامياً تونسياً واحدا، بما في ذلك الكتاب المرجع لنواة فكرة الإصلاح “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”
بل كل الذي قرأته من قبل كان كتابات مشرقية، هي التي فتحت لي الطريق إلى الإسلام، ولكنها أوقعتني في قطيعة مع تراث الإسلام المحلي ومع تراث تجربة التحديث العريقة في تونس والتي بدأت بمنطلقات وغايات إسلامية منذ منتصف القرن التاسع عشر سعيا لإنقاذ البلاد من مخاطر التفوق الغربي المهدد لها بالاحتلال وذلك عن طريق تحديث الإدارة بالحد من السلطان المطلق للحاكم وتحديث المؤسسة الدينية لتضم إليها العلوم الحديثة.”
هو أحد الأعلام الذين يُهمّشهم الإعلام، بذل حياته مُناضلا من أجل نهضة وطن وأمة، جدّد في عصر يعز فيه التجديد، وثار على الموروث السائد في حقبة زمنية كانت المُحافظة والإستكانة للتقايد سمتها الكبرى.
رحم الله الشيخ محمد الطاهر بن عاشور على أمل أن يفتح جيل اليوم ما كتبه، إن لم يكُن بهدف الإستفادة من المضمون، فليكُن بهدف تحسّس هم تحقيق نهضة الأمة الذي ما فارقه، الهم الذي قد يغيب عن الأذهان في عصر اللامبالاة.