حين نتحدث عن مصطلح يجب أن نوضحه للقارئ الكريم تمامًا لئلا يُساء الفهم وليتضح المعنى والمقصد. وعندما نقول بضرورة مصطلح “الهروب للأمام” في حالة جماعة الإخوان المسلمين بالتحديد -الجماعة الأم- في مصر فإننا نتحدث عن ضرورة استدعاء الجماعة لوضع مستقلبي في أسرع وقت للخروج من أزمتهم الراهنة، هذا الوضع يعني ضرورة تغيير الممارسات في واقع أزمة الجماعة مع العسكر والنظام الجديد برمته في مصر.
الهروب للأمام هو ضدٌ لواقع الهروب إلى الخلف الذي تستمر الجماعة حتى الآن في استدعائه وتصر على العيش بشرنقته، حيث الغرق في تفاصيل أحداث الانقلاب العسكري وإرهاصاته ونتائجه ومآلاته، حيث شرعية رئيس سابق الآن بحكم الواقع المفروض، وشرعية مجلس الشورى الذي ما زالت تؤكد الجماعة على أنها متمسكة بعودته، في حين أن مجلس الشعب قد تم حله بألاعيب قانونية ولم تحرك الجماعة ساكنًا، وهربت من هذه المعضلة للأمام بالحالة المستقبلية التي ملكوا بها زمام مؤسسة الرئاسة بعد ذلك.
لا شك وأن ذلك الحديث سيغضب الكثير من الأنصار والأشياع ولكنها رؤية من الأمانة أن تطرح في ظل صراع صفري أُجبرت الجماعة على خوضه رغم عدم امتلاكها مقومات البقاء فيه لفترات أطول من ذلك، في الوضعية الحالية التنظيم أصبح في أهش حالاته من حيث التماسك بسبب بطش الضربات الأمنية التي طالت قيادات الجماعة من الصف الأول والثاني والثالث ووصلت حد التصفية الجسدية المباشرة، ومن تبقى خارج هذه الدائرة التنكيلية القمعية اكتفى بوضع المطارد الذي لا يملك من أمره شئ، وكذلك اقتصرت أنشطة الجماعة داخل مصر بين أعضائها على الأنشطة التربوية فقط كنتيجة لهذه القبضة الأمنية، إذ تكون بعيدًا عن أعين الجهات الأمنية المترصدة.
الجماعة الآن في حالة صدام مع جزء كبير من المجتمع وإن أنكر بعض أفرادها ذلك، يرجع هذا إلى ممارسات الجماعة في الحكم المختلف عليها بالإضافة إلى تراكمات حملات الدولة العميقة على الجماعة إبان حكم الرئيس السابق محمد مرسي لإضعافها، تحولت هذه الحملات إلى شيطنة ممنهجة بعد الانقلاب العسكري، ولم يعد في مقدور الجماعة الآن بسبب ظروفها التنظيمية الحالية الرد على اتهامات النظام لها بالإرهاب بالإضافة إلى مواجهة الشحن المجتمعي.
كل هذا ويقبع قرابة 50 ألف معتقل من أعضاء الجماعة وأنصارها من رافضي الانقلاب العسكري، موزعين على كافة سجون مصر بتهم وبدون تهم، أُنهكت الجماعة اقتصاديًا في توفير احتياجاتهم المعيشية داخل السجون وأسرهم بالخارج، وكذلك في تشكيل لجان قانونية للدفاع عنهم، هذا بالتزامن مع انقضاض الدولة على كافة الموارد المالية للجماعة الخاصة بها أو بأعضائها، فصادر النظام أرزاق أبناء الجماعة وأغلق جمعياتهم الخيرية ووضع مدارسهم تحت حراسته.
ناهيك عن ازدياد أعداد القتل العشوائي في صفوف الجماعة بدءًا من المجازر المتلاحقة بحقهم منذ رفضهم للانقلاب العسكري وحشد أنصارهم في ميداني رابعة العدوية والنهضة، فسقط العشرات منهم برصاص الجيش والشرطة في مجزرة الحرس الجمهوري وتكررت المآساة ليسقط المئات في مجزرة المنصة حتى وصل عدد القتلى من الجماعة وأنصارها ذروته في فض الاعتصامين ليصل قرابة 2000 قتيل على يد قوات الأمن، تطور الأمر إلى استهداف التظاهرات التي خرجت بعد الفض بالرصاص الحي عشوائيًا ليسقط المئات من المتظاهرين على مدار عامين، حتى وصل الأمر بالنظام إلى تصفيتهم داخل منازلهم وتركهم داخل السجون لأمراضهم بدون علاج حتى الموت، واعتقال من تبقى من أسرهم في الخارج.
كل هذا ولا تزال الجماعة غارقة في مستنقع الماضي لا تريد أن تستفيق على الواقع الجديد الذي يزداد سوءًا وتعقيدًا يومًا بعد يوم، افترضت الجماعة في البداية أن أمر ما يُسمى بـ”إسقاط الانقلاب” لن يستغرق أكثر من ستة أشهر على الأكثر وتم الترويج لذلك بين قواعد الجماعة، حتى مضى عامين كاملين على الانقلاب العسكري ولم يتزحزح النظام عن موقفه قيد أنملة، وفي المقابل لا تستطيع الجماعة إلا أن تواجه بالعناد الإجباري أو ما تسميه “الصمود”.
الصمود ربما يكون منطقيًا في ظل إمكانيات واقعية للمواجهة الصفرية وخطط معدة وفقًا لتلك الإمكانيات، لكن الواقع يقول أن قيادات الجماعة الحالية تقول أنها تمتلك خطط خمسية وعشرية لإسقاط هذا الانقلاب والجماعة في تلك الحالة التي يرثى لها، كيف ستستمر الجماعة في تنفيذ خططها وهي على شفا انقسام وشيك بين قياداتها المختلفة على طريقة إدارة المرحلة الحالية بسبب هذا الوضع المربك؟، فالقاعدة منقسمة بين قيادة ترى أن ما تسميه المسار الثوري والاستمرار في مواجهة النظام هو حل لا فكاك منه، بينما ترى القيادات التاريخية بالجماعة أن هذا المسار أشبه بالانتحار وأن المصلحة العليا هي الحفاظ على التنظيم في هذا الوقت العصيب مستدعين بذلك سرديات تاريخية لمواقف مشابهة مرت على الجماعة.
لكن الحقيقة أن الجماعة وحدها بهذه الصورة الآن لا تستطيع أن تجابه نظام وحشي كالذي أنتجه انقلاب الثالث من يوليو، نظام متمرس في القمع والدموية ربما يُعد من أسوء الديكتاتوريات في التاريخ الحديث، سواء بالمواجهة العنيفة كما يدفع البعض نحوها أو بسلمية القيادات التاريخية، فبهذه المواجهة تُكلف الجماعة أعضائها أكثر من وسعهم كالعادة، في ظل ابتزاز عاطفي لمزيد من التضحيات التي تُعقد الموقف أكثر، رغم أن بعض قيادات الجماعة في الخارج تُقر أنه لا مفر من الجلوس على طاولة المفاوضات لبحث مصالحة أو ما شابه.
إن عملية الهروب إلى الإمام التي نتحدث عنها لا نستطيع أن نطلق عليها عملية مصالحة حقيقية ستجريها الجماعة أو النظام، ولكن ربما تعد من قبيل الهدنة لالتقاط الأنفاس فقط، بما أن الأطراف المتصارعة اتفقت على العدواة بدايةً، وما يعنينا هنا طرف الجماعة لأنها طرف واقع تحت بطش آلة النظام العسكري، وهو الأمر الذي يمكن أن يتوقف معه إذا حدث بعض أنين الأسرى في قيودهم ويوقف أيضًا دائرة الدم التي تلاحق أعضاء الجماعة أينما حلوا.
على الجماعة أن تحشد طاقتها الإقليمية لتسوية الملف المصري ولو مؤقتًا في ظل الأوضاع الإقليمية التي وضعت الجماعة في بؤرة الاهتمام مجددًا، في حين أننا نعلم يقينًا أن النظام المصري لن يستجيب إلى دعوات التسوية السهلة الهينة التي تُطلق إعلاميًا من البعض، لكن ربما تكتل الجماعة المتواجدة في كافة أقطار الإقليم الملتهبة يؤدي إلى مقايضة سياسية تُرغم على تسوية الملف المصري بأي ثمن، وإلا فإن تكلفة هذا على النظام المصري وحلفائه الإقليميين ربما ستكون باهظة، وهو باختصار مصطلح “أقلمة الصراع” أي عدم الاكتفاء بقطرية كل أزمة في المنطقة يمثل الإخوان المسلمين طرف فيها، كما العمل على وضع مصير مشترك لكافة هذه القضايا بما يسمح بهامش من المناوارة ووضع للشروط من منطلق القوة لا من منطلق الفصيل المضطهد المرغم صاحب الأزمة، أما ما على الجماعة الأم فعله في مصر هي عدم إغلاق الباب تمامًا أمام أية مبادرات لحل الأزمة الراهنة ولو بعناوينها الكلية، لأن تفاصيل المشهد لن تخلو من خلاف جذري.
سيخرج علينا بعض من أبناء الجماعة متهمين النظام بالخيانة –وهم محقون في وصفهم- ومنادين بعدم الدخول في أي مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة معه لعدم وجود ضمانات لالتزام النظام بأي اتفاق، وتلك عاطفية بائسة حقيقة في عالم السياسة لا تعترف بها أرض الواقع.
فللأسف الشديد وقعت قيادة جماعة الإخوان المسلمين وغالبية أعضائها في أسر “رد الفعل” ودائمًا ما تنتظر النظام حتى يبادر بالفعل، دائمًا ما تنتظر النظام لينقض اتفاقه ويخون، دائمًا ما تنتظر فض الاعتصامات وقتل أنصارها، لكن أوجه حديثي إليك عزيزي بالفعل لا برد الفعل قبلما يحدث تخوفك، إن ما ستمارسه على النظام إقليميًا وفتح باب النقاش حول الوضع المصري لهو نزع للغطاء الأخلاقي عن هذا النظام المجرم، حيث يروج النظام مجتمعيًا أن الجماعة ترفض أي حلول سوى بالوصول للحكم.
يمكن من خلال تلك الضغوط أن تبلور مطالبك المشروعة بعناوينها العامة بعيدًا عن إجراءت تنفيذها بدلًا من أن تظل حبيسة تظاهرات فقدت قوتها على الأرض بسبب القبضة الأمنية، يمكن أن تتجاوز حالة الصدام مع المجتمع وتكسب أرضية بداخله من خلال إعلان موقف جديد لك، يمكنك كذلك بناء تحالفات إقليمية جديدة بناء على مصادر قوتك الإقليمية، بهذا تستطيع خلق وضع جديد بهروبك إلى الأمام من حالة اللاشئ.
قد لا يستجيب النظام مطلقًا لأيِ من هذه الضغوط ولا يسمح بأي هامش للمناوارة، لا عليك فأنت لم تخسر شئ وحينها عليك أن تتغنى بالصمود الحقيقي المبني على محاولات جادة لحل أزمتك، ولكن يجب أن تنظر لمكاسب ما فعلته من فعل إيجابي حررك من قيود الماضي وخلق لك وضع مستقبلي سيضعك في مقدمة الصورة دائمًا حينما يريد أحد التحدث عن الأزمة في مصر.
فإذا صُنعت هذه الحالة الإقليمية بالفعل فإن إخوان ليبيا يمكن أن يُملوا شروطهم في أزمتك وإخوان اليمن كذلك وإخوان سوريا ليسوا ببعيد، بالإضافة إلى مبادرات مزعومة تحرك الماء الراكد كتلك التي يتبناها الشيخ راشد الغنوشي وغيره، عمل وحدة عضوية بين كل ذلك، وفتح باب التفاهمات من الجماعة الأم في مصر، يمكن أن يهرب بالجماعة من وضعها الحالي إلى وضع مستقبلي لا أقول أنه سينتج حلًا نهائيًا للأزمة العويصة في مصر، ولكن من شانه أن يُطعي للجماعة شرعية إنجاز على الأرض، كما يُعطيها الفرصة على لملمة الأوراق المتعبثرة، وبلورة رؤية واضحة لما يريدونه بالتحديد من مواجهتهم مع النظام.
الأمر أعلم أنه ليس بالسهولة لكي يُروج إلى قاعدة تم استنفارها واستفزاز مشاعر الانتقام بداخلها، لكن حفظ الأنفس والأعراض والدماء والأموال مقاصد شرعية معتبرة، ولا نقول بهذا الحديث أن تتخلى الجماعة عن ضحاياها ولكنها وقفة لعل الجماعة تستفيق وتسترد عافيتها لتستطيع رد حقوقها ومظالمها، فمع إيمان بعض قيادات الإخوان بضرورة التوقف عن هذا العبث الجاري، لا يكف البعض عن ترديد مصطلحات أكثر عبثًا كالمسار الثوري وخلافه، وقد يُنتج التخلي عن مثل هذه المصطلحات تحولًا عنيفًا لدى قاعدة الجماعة المستنفرة، فيؤثر البعض السلامة بفضيلة الصمت.
إن بناء تحالف جامع لمواجهة النظام لهو أمر صعب في هذا التوقيت، والجماعة لا يجب أن تكلف نفسها أكثر من ذلك، وعسكرة الجماعة ليست هي الحل السحري الذي سيسقط النظام في ليلة وضحاها كما تشير التجربة السورية، بل على الإخوان في مصر الخروج من هذه الأزمة متصالحة مع المجتمع على الأقل لا مع النظام وهذا ما تعنيه الهدنة أو الهروب للأمام بالتحديد، بوضع أفق جديد غير أفق الصراع أمام المجتمع، وحينها يمكن الفصل بين النظام والمجتمع شئ ما لن يضر بالصمود الذي تدعيه الجماعة، بل سيعطيها شرعية إنجاز بتحقيق تقدم سياسي ربما يتبعه تقدم ميداني.