في السنوات الأولى من القرن العشرين في شيلي، كان الحراك العمالي على أشده نظرًا لتدهور ظروف العمال العاملين في المناجم بشمال البلاد، وهبوط مستويات المعيشة في البلاد بشكل عام، وكانت الإضرابات تجري بين الحين والآخر بشكل متزايد، حتى وقع إضراب الـ18 قرشًا، والذي بدأ عام 1907 مطالبًا بوصول الرواتب لنفس الرقم، ليقرر العمال الاتجاه نحو العاصمة والاعتصام في مدرسة سانتا ماريا بأعداد كبيرة مع أُسَرِهم، وهو ما أدى بالتبعية لتوقف عجلة التجارة والصناعة في الشمال.
مع تزايد أعداد المعتصمين، قام الرئيس بيدرو مونت بتعيين جنرال من الجيش خصيصًا للتعامل مع الأزمة، هو روبرتو سيلفا رينارد، والذي أُمِر باستخدام كل القوة اللازمة لفض اعتصام العمال وإجبارهم على العودة للعمل مهما كان الثمن، وعلى الرُغم من محاولات التفاوض للوصول لحل للأزمة، أمرت الحكومة الشيلية يوم 21 ديسمبر 1907 كافة العمال بترك ساحة المدرسة والاتجاه لمكان آخر دون أسباب واضحة، وهو ما خشي العمال أنه فخ لاصطيادهم فور خروجهم ليس إلا، ليتمسكوا بالاعتصام في سانتا ماريا.
في ساعات الظهيرة، وبعد نفاذ صبره، قال الجنرال رينارد للمعتصمين بأنه سيفتح النار عليهم خلال ساعة واحدة إذا لم يفضوا الاعتصام ويعودوا للمناجم، وهو طلب قوبل بالرفض، ليبدأ بالفعل إطلاق النار بكثافة من جانب جنود الجيش الشيلي خلال ساعة، ثم اقتحام المدرسة بالكامل دون أدنى اعتبار للنساء والأطفال المتواجدين، مما أدى في النهاية لمقتل حوالي ألفين من العمال، رفضت الحكومة آنذاك أن تستخرج شهادات وفاة لهم، وأمرت بدفنهم في مقبرة جماعية بمدافن المدينة.
تقول قصة عمال شيلي الكثير عن علاقة الدولة الحديثة بمواطنيها، فهُم على العكس من كثيرين في أماكن وأزمنة مختلفة، لم يكونوا على صلة بأي طرف خارجي أو صراع بين بلدين، ولم يكونوا حاملين لرسالة سياسية بالأساس لتتمكن الدولة من شيطنتهم باعتبارهم غير جديرين بحقوق المواطنة التي تستلزم تقديم الحماية لهم لا قتلهم في الشوارع، كما فعلت الدولة الصينية في تيانَنمَين والدولة المصرية في رابعة، لقد كان الاعتصام عماليًا وفقط، ومدفوعًا بمطلب اقتصادي أساسي، إلا أن الدولة سحقته تمامًا، والسؤال هنا هو لماذا قد تقرر دولة في لحظة ما أن تقتل مواطنيها بهذا الشكل، حتى ولو كانت تحركاتهم مسيّسة أو على علاقة بمسألة متجاوزة لحدودها؟
العنف والسلطان والدولة القومية
المشهد الشهير من ميدان تيانَنمين بالصين حين قام مواطن بإيقاف دبابة، وإن لم يمنع مذبحة راح ضحيتها أكثر من ألف لاحقًا
كثيرة هي المذابح في التاريخ البشري، وهي ليست كلها موجهة نحو العدو الخارجي، كما فعل المغول على سبيل المثال، ولكنها أحيانًا ما كانت ضد فصيل داخلي كما الحال مع مذبحة القديس بارثولوميو في فرنسا، والتي شهدت هجمات الكاثوليك على البروتستانت في فرنسا وشكلت بداية النهاية لتحول فرنسا نحو البروتستانتية، والحقيقة أن الفصل بين ما هو خارجي وداخلي في الحالتين على غرار تعريفاتنا اليوم لن يكون دقيقًا، فالأسس الهوياتية للدولة قبل الوطنية كانت أحيانًا كثيرة دينية، وأحيانًا أخرى قبلية، مما يعني أنه ربما لم تكن هناك ثنائية خارجي وداخلي من الأساس، بقدر ما كانت هناك شبكة معقدة من الهويات والمصالح وبحدود فضفاضة تتحرك وفق مصالحها ليس إلا، ويتحدد وفقًا لها من هو العدو، دون هوس التصنيف بداخلي أو خارجي.
تباعًا، ومع نشأة الدولة الوطنية في أوروبا ثم استزراعها في كافة أنحاء العالم، وعن طريق الاستعمار في معظم الأحيان، تشكل كيان جديد يعرّف نفسه طبقًا لوجود جماعة قومية محددة، وهو ما استتبع أن يكون كل منتمٍ لها مواطن لتلك الدولة، في نفس الوقت الذي أقسمت فيه الدولة على خدمة هذا المواطن طبقًا لمُثل وقيم الحداثة الجديدة، والتي نبذت القواعد السياسية الفاسدة للعصور السالفة، معتبرة أن الكيانات السياسية قبل ذلك كانت ناقصة، أولًا لغياب المساواة بين البشر الموجودين تحت إمرتها، وثانيًا لغياب المبدأ القائل بأن الدولة ككيان يقوم على خدمة شعبها فقط، وليس العكس.
في نفس الوقت، وبينما تشكل تعريف العنف باقتصاره على أي عدو خارجي يهاجم تلك الدولة، والتي لم يكن ممكنًا بحال أن تهاجم مواطنيها وهي ملكٌ لهم، نشأت فكرة احتكار ممارسة العنف من جانب الدولة، باعتبار تركيز وسائل القوة كلها في يد مؤسساتها، واستخدام قدراتها التنظيمية الكفء في تطوير وتدريب تلك القوة، الوسيلة الأفضل لحماية المواطنين، فالدولة والتي تحظى بمعرفة شاملة بالمجتمع الكائن تحت سلطانها، تمتلك معرفة بأدواتها ومؤسساتها أكثر من أي جزء مكوّن منه، كالقبائل والطوائف وغيرها، وبالتالي تستطيع إيكال المهام العسكرية بالشكل الأمثل لحمايته.
تصفية الشيوعيين في كوريا الجنوبية أثناء الحرب الكورية في الخمسينيات
بطبيعة الحال، اكتشفت تلك الدول الجديدة، خاصة خارج أوروبا، أن تعريف القومية النظري لم ينطبق على الأرض، وأن وجود مساحات شاسعة متجانسة ثقافيًا شبه منعدم في أي ركن من أركان العالم، وهو ما شكل عائقًا استراتيجيًا أمام قدرة تلك الدولة الجديدة بتعريفاتها على الاستمرار، لينشأ أول ملمح قبلي للدولة الحديثة، المفترض أن تكون مدنية، وهو أنها فعليًا كيان، ككل من سبقه، محكوم بغريزة البقاء لا بمُثُل الإنسانية والمساواة التي بنيت عليها، بل وأن المساواة بين المواطنين التي استندت لها كانت في الحقيقة تفترض التجانس الثقافي ابتداءً في جماعة المواطنين تلك، وحين ثبت عكس ذلك، فإن مبدأ المساواة سقط لصالح محاولة فرض التجانس بالقوة كشرط تحقق الجماعة الوطنية، وهو ما أسقط “حداثة” تلك الدولة، ووضعها في نفس مصاف الدول الوسيطة القبلية.
في تلك المرحلة من التاريخ التي نشأت فيها الدولة القومية واكتشفت الواقع المركب من حولها، كانت المذابح في معظمها على أساس عرقي، فالأتراك قد قاموا بذلك في حق الأرمن، ثم طردوا اليونانيين مع بعض المذابح الصغيرة هنا وهناك محاولين أن يحظوا بالمجتمع المتجانس الذي تقوم فيه المواطنة، واليونانيون أيضًا قد ارتكبوها في حق الأتراك في بلادهم، ثم المثال الأبرز وهو ألمانيا النازية التي وجدت جيوبًا يهودية وغجرية وبولندية أرقت تجانسها الوطني، وقامت بذبحها بالملايين أثناء الحرب العالمية الثانية.
الكارثة الرئيسية التي مكنت الدولة من ارتكاب كافة تلك المذابح كانت قدرتها على احتكار السلاح وتنظيم القوة العسكرية باستخدام مؤسساتها، وهو ما لم يتسنى لغيرها من الجماعات القبلية أو الدينية أن تقوم به وحدها، ومع أن ذلك المبدأ في الأساس كان منطقيًا في إطار نظرية الدولة الوطنية، إلا أنه أصبح كارثيًا مع اكتشاف مدى زيف الأساس الذي قامت عليه، ليبدأ استخدامها للعنف المنظم تجاه أي عوامل هددت من وجودها، وبالأخص الأقليات العرقية، بيد أن الأمر لاحقًا لم يقتصر بالطبع على تلك الأقليات، حيث ترسخت فكرة الدولة تباعًا باعتبارها كيانًا قائمًا في ذاته ولذاته، دون أدنى ارتباط بالضرورة بالنسيج المجتمعي المحيط به، لا سيما خارج أوروبا حيث كانت الدولة الوطنية بنت الاستعمار وشبكات مصالحه بشكل رئيسي، مما وسّع من نطاق أعدائها خارج إطار الأقليات الإثنية.
حين تسقط الوطنية: دماء من هذه؟
في الشرق بشكل رئيسي، تمتلئ صفحات التاريخ بمذابح من هذا النوع، فهناك مذبحة جمعية بودو الكورية، والتي قامت على إثرها حكومة كوريا الجنوبية بتصفية أكثر من 100 ألف كوري متعاطف مع الأيديولوجيا الشيوعية، باعتبارهم عملاء لكوريا الشمالية، ثم هناك مذبحة ميدان تيانَنمن الشهيرة في الصين عام 1989، والتي فضت بها الدولة حراك النشطاء الصينيين المطالبين بالديمقراطية، والتي نتج عنها أكثر من ألف ضحية على أقل تقدير، بالإضافة لاعتقال الآلاف، ثم لدينا مجزرة حماة التي قام بها نظام حافظ الأسد ضد الإسلاميين، والمجازر التي تتم برعاية الدولة في بورما حاليًا، ثم مذابح ما بعد الثورة في مصر وأبرزها مذبحة رابعة العدوية بطبيعة الحال ومذابح الحرس الجمهوري والمنصة وبورسعيد والدفاع الجوي، وأخيرًا وليس آخرًا مذابح داعش وجيشي النظامين العراقي والسوري بحق “أعدائهما.”
في المُجمَل، فإن الإجابة على السؤال الذي طرحناه أولًا، وهو لماذا قد تقتل الدولة مواطنيها، هو أنها ببساطة لحظة قتلهم لا تراهم مواطنين لها، بل وحتى خارج إطار تلك اللحظة فإن حسابات المواطنة المثالية لا تكون سارية، فالدولة الوطنية على أرض الواقع، وعلى مدار العقود الماضية، اكتسبت نفس السمة التي وسمت كل الكيانات السياسية في التاريخ البشري، وهو انحصارها بين مجموعة من شبكات المصالح السياسية والاقتصادية، وتمثيلها لنطاق محدود من الجماعات الدينية والإثنية إن لم تكن واحدة فقط، بشكل يستحيل معه تحقيق مبدأ الدولة الوطنية غير الواقعي، وهو ما يحوّل شرائح واسعة لاعتبارات ثقافية أو جغرافية أو سياسية إلى درجة ثانية فعليًا في نظر الدولة، ثم إلى عدو واضح مع تبلور أي حراك لها يطالب بحقوقها.
في هذا السياق، وحين تصل الأمور إلى لحظة الحسابات الصفرية، وتنسد آفاق التفاوض بين الدولة وتلك الجماعات، فإنها تستخدم ببساطة السلاح الذي يعطيها ميزة وتفوقًا عليها، وهو كونها الممارس الرئيسي للعنف والقوة بحُكم القانون، والأكثر قدرة على تنظيمه واستخدامه، لتقوم باستخدامه بالفعل في دحر تلك المجموعات بأكملها، كما كان الحال في الغالب مع الأقليات العرقية التي أرّق وجودها في حد ذاته الدولة الوطنية، أو قتل مجموعة كبيرة بما يكفي لردع البقية، وهو ما يحدث غالبًا حين يتعلق الأمر بمطلب اجتماعي أو سياسي يمكن أن ينتشر بين مواطني تلك الدولة، أو على الأحرى تلك الشبكة من المصالح المنسوجة مستندة لمبادئ “وطنية” لا تفي بها.
مذبحة بارثولوميو
لم يكن غريبًا إذن أن يلقي الأسد براميله على العُزّل في مدن سوريا، أو أن يفتح الجيش المصري النيران على المعتصمين في ميدان رابعة العدوية، وغيرها من مواقع منذ بدء الثورة، ولم يكن غريبًا أن يُساق شباب الأولتراس إلى الموت بتدبير الدولة، وأن تصبح دولة داعش جحيمًا ينتظر كل شخص غير سني أو حتى سني غير متفق معها، ولم يكن غريبًا كل فعلته الدول في الصين وكوريا وميانمار وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، في لحظة قررت فيها أن من يقف أمامها ليس مواطنًا ولكن عدو لها.
في النهاية، يمكن القول أن كافة المذابح كانت بشكل أو آخر مجرد تكرار لمذبحة القديس بارثولوميو في القرن السادس عشر، والتي جسدت بجلاء وقبل نشأة الدولة الوطنية بمعناها الحالي، ماذا يعني أن يقتنع فريقان بأن كليهما عدو للآخر، بغض النظر عن كل الروابط اللغوية والثقافية والجغرافية والدينية، وإن كان البعض يقول أن تلك المذبحة قد تختلف عن مذابح الدولة الحديثة، فالحقيقة هي أن الدولة، على غرار كاثوليك فرنسا، لا تعدو كونها تنظيمًا من المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية يريد استمرار سلطانه ورؤياه للوجود مهما ثبت فسادها أو زيفها، في حين كان كل ضحايا مذابح تلك الدولة أشبه ببروتستانت فرنسا من حيث التغيير الذي أرادوا إلحاقه بالتنظيم بشكل أو آخر ليفسحوا مجالًا لأفكارهم أو حتى مجالًا لهم ليس إلا.