هذا زمان رديء في عالم محفوف بالمخاطر , يمضي الربيع بلا وداع يليق , تصفر أوراق الخريف بلا صوت فيروز , يقول الشعراء كلاما كثيرا لاتكاد تحفظ منه شاهداً واحداً عن موت الوردة .
تقصف المدن فتبكي الأغنيات حتى لايكاد يسمعها أحد , صوت الصواريخ لايدع مكانا لصفير الناي ولا وقع الطبول , الواقعية المرة أعلى صوتا من كل خيالات الشعراء والمادحين , حتى الحرب , ذلك الشرف الذي يمضي إليه الرجال بالسيوف وتحشد له القبائل وترفع الرايات وتسمى بها السنون والفتيات ويتصدى لمجد ذكرها الشعراء على أبواب السلاطين , لم تعد تملك شرف المعنى تماما , ولم يعد على الأرض – هذه الأم الحزينة مرة أخرى – رجال يستحقون المدح , فياللعار , إننا نمضي للنهاية دون قصيدة واحدة للخلود , لا أرض يباب ولا مجد ذي قار , والموت هو الموت منذ بدء الخليقة , أفصح عنه الجميع إلانا , فقدنا منطق الطير حين ضاعت لمعة الفكرة في رؤوس القادة ولم تعد في كعوب بنادق الجنود رحمة التوقف , التوقف لا أكثر عن دهس زيتونة أو قصف مئذنة بيضاء على البحر .
من أعظم درجات التعاسة ألا يكون بالجوار ممدوح يستحق قصيدة تثقب أنفاس مستمعيها طبقة الأوزون , يقول الشاعر كلاما كثيرا مكررا لاصورة واحدة جديدة فيها , ليقول له الممدوح : كفو , فير الشاعر : كفو منك تسوى ملايين , وينسى الجمهور القصيدة والشاعر الفصيح وتخلد جملة واحدة في عشر سنين لم تكتب فيها قصيدة مدح جيدة , وتتناقل الأجيال : كفو منك تسوى ملايين , ولايذكرون مطلع القصيدة ولا وجه الشاعر النبيل .
أفكر في نقمة الممدوح – مالك النعمة – حين يستيقظ بعد أيام ليحاول تذكر بيت واحد فيه أو عنه , يحاول , يعصر الذكرى والذاكرة , يتقاسم معنى باهتا في شطر صدر مع سيف الدولة , يتلفت , فيرى مجايليه , يحمد ربه ولايستخسر تلك الأرض على شارعين في شاعر أشباهه كثير , نفد من الباب قدراً لدعاء أم ترجي عودته في كل عام بجائزة لاتدوم لأنه كان أقل فصاحةً عند كل ممدوح .
إنها الأشياء العادية في الأيام العادية في الرجال العاديين , أولئك الذين لوجودهم تنضب القرائح ولايكون على رفوف المجد مختارات لحماسة عصرنا الباهت بهم وبنا ..
أنظر ثلاثين عينا , ثلاثين عاما للوراء , عمر ماعاصرت من خيبات ومن ممدوحين , أحاول تجاوز الأصوات والوجوه , أترك الرجال العاديين , الجواهري مرة لم نشاهدها وأخرى بمثلها شهدنا فيها تهلل وجه الحسين , خلف بن هذال بفصاحة خؤولة المصطفى العربي في الفهد حين بغى الأخ على أخيه , الفيتوري خطأ مقصودا في القصيدة , عبدالرزاق مازال وفياً لسيده حتى في قبره كل عام , بندر بن سرور في الفلاحي زايد مرة ولا زاد .. فهد عافت مرة أو مرتين .. خالد والبدر في عميهما وأولئك من قوم ذبول أفئدتهم مرض الأعمام أو رحيلهم .
أحاول النأي عن الساسة والمادحين , قد يتعارك عربيان في لندن على كلمة غزو أو احتلال حين يذكر عام ألفين بعد الثلاثة , يطير كأس في حانة حين يذكر بشار مدحا أو ذما , لم يقل اليمن منذ استقلاله قصيدة مدح وافية , ولم يستطع صالح أن يكون صالحاً للمدح على امتداد ثلاثين ظلما !
من يتحمل وزر مرثية الوردة التي لم تكتب , لأننا كنا عائدين إلى الحرب مرة أخرى ؟
كعاشق للقصيدة العربية أتعذر بالمنافي – ربما – وكلنا يفعل , لربما احتل الحنين في زمن الشتات هذا مقعد المديح الفاخر , لكن في المدح كما في الفخر رعشة يحسها كل عربي , وربما للمرة الثالثة تكون هذه الرعشة هدية الزمن لجيل جميل به مادح عظيم وممدوح يستحق .
سيجيب مبتور تحت قذيقة خاطئة : علينا أن نكتفي ب لا تصالح , و منتصب القامة أمشي , و ناوليني السيف أمي ناوليني , وليكن في فهرس الأدب العربي المعاصر مرادفات للمديح أقل كلفة كأدب المقاومة والمنافي والحنين .
لنقل صادقين لأطفالنا : نعم , لقد كنا جيلا من المقاتلين والضحايا , ولم تكن بين المعركتين ليلة صافية البدر لنغني لموتانا , كنا على عجل باتجاه الموت أو عائدين منه , لم يكن ثمة ممدوح وكنا ملطخين بالدم , ولم يأت يوم ذي قار ولا فنينا لنكتب لكم عن عاصفة الحزم أو قصف سيناء أو حتى تحرير عدن , كنا في الشاشة خبراً عاجلا , ولم ننتظر تورد الجوري ولا أبيض مواسم الياسمين لنزور دمشق ذلك العام .
لم ينضج عنب في خولان , ولاموز من الصومال , والسودان مشغول بالغرب بعد انفصال الجنوب , والمشير هو المشير , من بإمكانه أن يجد منقبة للبشير ؟
جنوبا لا أمطار حتى في نواكشوط , يكتب الشاعر قصيدته على الخليج ليلة الخميس فينفجر مسجد صباح الجمعة , يتناول منديل قصيدة الحب ليمسح بها خد أخيه المفجوع , في المساء يكملها مرثية من جديد .
بيروت تختنق بالنفايات وأنت تبحث عن مادح وممدوح , كن جادا بالله عليك ولو لمرة واحدة , ستغني فيروز من باريس ولا ثمة لحن جديد , ستنبش نوتات الزمن الذي زرناه على متن صوتها حين كان الزمان أخضر , سيكون أدونيس في الصف الأول , لقد هاجر مبكراً كي يغني للوردة بينما كنا نذهب باتجاه الموت فرادى .
لقد انتقمت منا الوردة جميعا على طريقتها الخاصة , واعتذرنا منها بأن لم يكن ثمة ممدوح يستحق , في سنين الحرب .. حين عدنا جميعا .. خاسرين .