يحلو لي عند ذكرى رابعة أن أكتب عن تلك الفئة المنسية، عن أولئك الشباب الثوري المسلم، هؤلاء الذين كانوا الأكثر مغرما والأقل مغنما، الحاضرون في مواطن الكريهة الغائبون عند تقسيم الأنفال، الصائحون في آذان المخدوعين أن انتبهوا واستيقظوا ولا تأمنوا للعسكر ولكن ما ثمة من يسمع، حتى وقعت الكارثة “الانقلاب العسكري” فما منعهم ذلك عن النزول لمواجهته وصده بما استطاعوا، فهم الآن بين شهيد وسجين وطريد، لا ينصفهم أحد في محنتهم كما لم ينصفهم أحد.
كتبتُ في الذكرى الماضية عن حسام أبو البخاري كعنوان لهذه الفئة من الشباب الإسلامي، ومن كان يعرف حساما قبل الثورة فهو بغير شك يعرف رفيقه وقرينه: خالد حربي. كلاهما من فرسان العلم والعمل، إلا أن حساما أبرز في جهة العلم بما أوتي من لسان فصيح بليغ وخالدا أبرز في جهة العمل بما أوتي من همة وحركة وأثر.
ومن المؤسف أن خير من يعرف هذا ويقدره هم الأعداء، وفي مصر عدوان متحالفان كبيران: الدولة العلمانية والكنيسة القبطية. كلاهما يعمل في خدمة الآخر ويُمَكِّن له ويستعين به. وقد بلغ نفوذ الكنيسة في مصر مبلغا متوحشا لا يعرفه إلا القليل، فالكنيسة المصرية هي المؤسسة الوحيدة التي تتدفق عليها الأموال دون أن تخضع لرقابة الدولة، والكنيسة لا تنفذ أحكام القضاء إذا تعارضت مع إرادتها، والكنيسة تستولي على مساحات شاسعة بوضع اليد وقوة الأمر الواقع وتنشيء فيها الأديرة الفسيحة التي هي أشبه بحصون وقلاع حربية تحتوي على المزارع والمصانع ووسائل الإنتاج التي لا تخضع للضرائب ولا للرقابة، فضلا عن تكدسها بالأسلحة واستغلال بعضها كمراكز للتدريب العسكري للشباب المسيحي، وتستطيع الكنيسة أن تمتنع عن تسليم قبطي مطلوب للشرطة أو القضاء إذا أرادت، وكان شنودة إذا أراد أمرا أعلن أنه معتكف في الدير احتجاجا فتنزل له السلطة عما يريد فيعود مظفرا منتصرا، وللكنيسة من نشاطات التنصير وتربية وإعداد الكوادر ما لا يعرفه إلا القليل، ثم بلغ الأمر ذروته قبيل نهاية عصر مبارك بأن الدولة صارت تُسَلِّم من أرادت أن تدخل الإسلام من المسيحيات إلى الكنيسة، وهناك يختفي ذكرهن تماما فلا يُعرف مصيرهن أبدا، وقد حدث هذا مع كثيرات لكن أشهرهن اسمان: وفاء قسطنطين، وكاميليا شحاتة، وهذه الأخيرة بلغ من فجور الكنيسة أن القساوسة حاصروا الأزهر وصاروا يفتشون ويستجوبون الداخلين إليه انتظارا لها لكي يحولوا دون تسجيل إسلامها، ثم اختطفوها بمساعدة الدولة واختفى ذكرها تماما ولم يُعرف لها مصير.
ورغم هذا التغول والتوحش في دور الكنيسة إلا أن أحدا من فئة العلماء والحركات الإسلامية لم يسعَ للتصدي له، إذ الكنيسة خط أحمر ووثن وطني كبير، ومن رام رميها بتساؤل خرجت له أسراب الأفاعي والخفافيش والنائحات تلطم على الوحدة الوطنية وحقوق المسيحيين، بل لا عجب أن ترى إسلاميين يسارعون في التبرؤ من كل ما يضايق الكنيسة ويؤرق مضجعها ويقلق سكونها.. وهذا ملف طويل مرير.
المهم في سياقنا الآن، أن هذا الوحش الكنسي لم يكن يتصدى له إلا ثلة من الشباب، في مشهد لا تعبير عنه إلا أن يكون عملية استشهادية، شباب بغير إمكانيات ولا دعم ولا حاضنة سياسية ولا مساحة إعلامية يواجهون هذه الكنيسة التي هي حقا دولة فوق الدولة.. وعلى رأس هذه الثلة يقف خالد حربي!
أسس خالد حربي “المرصد الإسلامي لمقاومة التنصير“، وهي مدونة على الانترنت لكنها فتحت خفايا ملف التنصير الذي يتواطأ الجميع على إخفائه وإغلاقه، وصار هو ومن معه ضمن ثلة يلجأ إليها من أراد أن يدخل الإسلام، خصوصا لو كان من النساء، فتصدى هؤلاء للقيام بدور الاستقبال والإيواء وتأمين الدخول في الإسلام (واضحك أيها القارئ ضحكا مريرا، صار من يريد دخول الإسلام في مصر بلد الأزهر وعاصمة الخلافة لثلاثة قرون يحتاج تأمينا) وتدبير أمر الأوراق الرسمية، وتوفير حياة كريمة فيما بعد، مع كل ما يحفّ بهذا من مخاطر أمنية لا يدريها من لم يكن على صلة بهذا الملف.
وهذا الدور السري لا يغني عن الواجب العلني، فلقد قامت هذه الثلة من الشباب بواجب الفضح لما يجري في ملف التنصير، ومقاومة أفكاره والدخول في المناظرات مع أرباب الكنيسة، تلك المناظرات التي لم تكن تجري إلا على الانترنت وفي غرف البالتوك، بينما كانت مؤسسات التنصير تفتح الفضائيات في قبرص فيستقبلها الناس في مصر بغير مقاومة من الدولة ولا من الأزهر، بل ولا من حركات إسلامية ودعاة قد منعهم الخوف أو خشوا على صورتهم الإعلامية من أفاعي الكنيسة!
وكم دفع هؤلاء الشباب من أعمارهم في المعتقلات، ومن لحومهم ودمائهم تحت التعذيب، ومن أموالهم وأمنهم جراء التهديد.. كم دفعوا كل ذلك بغير أن يسمع بهم أحد أو يكترث لهم أحد.
ولقد كان خالد حربي عريقا في المعتقلات، وكتب بعض مقالات عن ذكرياته في سجون مبارك تفيض ببعض ما لاقاه من عناء[1]، وكانت مناظرة قِسّ سببا كافيا للاعتقال والتعذيب، وقد بدأ رحلته هذه منذ كان صغيرا حتى لقد اندهش ضابط بالسجن من سنه ومظهره، ثم جمع رجاله وقال لهم: انظروا إلى هذا جيدا واحفظوا شكله لئلا تظنوا أنه طفل جاء في زيارة!!
لم يقتصر الأمر على ملف التنصير، وإن كنتُ أطلتُ الكلام فيه لما يكتنفه من غموض ومجهول وأخطار، أما حقيقة الأمر فكانت أكبر منه.. حقيقة الأمر هي قضية الإسلام في مصر، قضية المسلمين المقهورين تحت أنياب ومخالب الدولة العلمانية الصليبية، فهي علمانية فيما يخص المسلمين وهي صليبية فيما يخص النصارى. ولقد كان خالد حربي من تلاميذ الشيخ الكبير رفاعي سرور، ذلك الرجل الذي لا يعرفه الكثيرون أيضا ثم يندهشون إذا طالعوا كتبه فقرأوا ما فيها من البصيرة أو عرفوا سيرته فعرفوا ما فيها من الجهاد. ولقد زكاه الشيخ رفاعي بأوثق تزكية إذ زوجه من ابنته أسماء، فكان صهر الشيخ من بعد ما كان تلميذه فحسب.
وما من شك في أن الثورة كانت فرجا من الله لهؤلاء الشباب، ولذلك فقد كانوا في ميادينها منذ اليوم الأول، وكانوا أدرى بطبيعة الصراع فيها من جميع من كان معهم، فكان قدرهم أن يواجهوا فوق العدوين الأصليين (الدولة والكنيسة) خصميْن آخرين (الإسلاميون الإصلاحيون والثوريون المغفلون)، فوقفوا ضد المجلس العسكري في كل مراحله لتبريد الثورة وقتلها فكانوا ضد الدولة والكنيسة والإسلاميين الإصلاحيين، ووقفوا مع تجربة الرئيس محمد مرسي –فك الله أسره- بكل طاقتهم ضد الدولة والكنيسة والثوريين المغفلين، وذاقوا الملاحم قبل أن يذوقها الجميع (مذبحة العباسية 4 مايو 2012) وساعتها تخلى عنهم الجميع أيضا. وأثاروا القضايا التي لم يكن غيرهم أن ينتبه لها مثل مسألة الشريعة في الدستور، ونصرة الثورة السورية، وفتح ملف الأسيرات لدى الكنيسة.. فكل هذه الفعاليات بدأها هؤلاء الشباب ودعوا لها، ولا يستطيع أحد غيرهم أن ينسبها إلى نفسه، ونحن شهود عيان!
اعتقل خالد حربي، الاعتقال الأخير، يوم 7 نوفمبر عام 2013 من منزله بالإسكندرية، ثم انهمرت عليه الاتهامات التي لا تهدف إلا إلى إبقائه في السجن، فأول التهم كان “الانضمام إلى جماعة محظورة”، وبعدها بثلاثة أشهر أضيفت إليه تهمة “المشاركة في أحداث مسجد الفتح 16/8/2013″، وبعدها بشهرين زادوه تهمة “التظاهر أمام مقر أمن الدولة 2/5/2013″، وبعدها بسنة اتهموه بـ “الانضمام لجماعة أنصار بيت المقدس”، وأخيرا اتُّهِم بـ “التظاهر أمام مقر نيابة مدينة نصر”.. بينما حقيقة التهمة هي ما نطق به وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم أنه “اعتاد القيام بأعمال عدائية ضد الكنيسة”.
رغم الفارق الرهيب في الإمكانيات والنفوذ إلا أن خالد حربي كان ضمن من تطالب الكنيسة باعتقالهم منذ وقت بعيد، وأعلن هذا قسُّ منها يدعى فلوباتير في اتصال هاتفي مع قناة فضائية، (واضحك مرة أخرى: الكنيسة تضع قوائم اعتقالات في بلد الأزهر!!!).
والآن، ما تزال الزيارة ممنوعة عن خالد حربي منذ يناير 2014م، ولم ير ابنته الصغرى “أروى” التي وُلِدت بعد اعتقاله، ومات أبوه وهو في السجن، وخالد هو الابن الوحيد له، ولم يُسمح له بحضور الجنازة على نحو ما سمحوا للناشط العلماني علاء عبد الفتاح.
ويعاني خالد من وجوده في سجن العقرب، ويطلقون عليه مقبرة العقرب، وهو السجن الذي شهد في الأسبوع الماضي وحده مقتل ثلاثة من قيادات الإسلاميين لتركهم بغير دواء حتى الموت: وهم عزت السلاموني ومرجان سالم وعصام دربالة فضلا عمن مات فيه من قبل مثل نبيل المغربي وفريد إسماعيل. لا سيما وأن الحالة الصحية لخالد حربي متدهورة منذ قديم، إذ يعاني من مرض مزمن بقرحة والتهابات شديدة بالمعدة، وتقرحات والتهابات مزمنة بالقولون، وارتجاع بالمريء، وكلها أمراض مثبتة في تقارير السجن، وما زال يمنع من العلاج ومن شراء الأطعمة المناسبة لحالته ومن نقله لسجن طرة حيث المستشفى، فضلا عن سوء معاملة السجن. وفي زيارة المحامي له نقل تدهور حالته الصحية وشحوب وجهه واصفرار لونه ونقل عنه: ازدياد رجع الدم وأنه يشعر كما لو كانت تتكرر معه قصة الشيخ نبيل المغربي (الذي توفي 4/6/2015م). ونقل محمود فتحي، من قيادات تحالف دعم الشرعية، عن مصدره أن هناك نية مبيتة لتصفية خالد حربي مجاملة للكنيسة.
إن ما فقدته مصر وأمة الإسلام من كنوز في سلسلة المذابح وأفواج الاعتقالات التي نفذها الانقلاب العسكري لا تقدر بثمن، إن حجم الطاقات والعقول والأحلام التي دفنت أو حُرِقت أو سُجِنت ليستعصي على الحصر بل على التصور.. إن البلاد تفقد أنبل ما فيها ومن فيها، وليس غير أصدقاء هؤلاء الشهداء والجرحى والمعتقلين من يعرف حقيقة النكبة التي نكبتها البلاد بغياب هؤلاء!