أمر كان لا بد لي أن أشير إليه، وأتناوله عاجلاً أم آجلاً، ألا وهو النزوع نحو العدوانية وإقصاء الآخر، بل محاولة تغييبه وفرض القناعات الذاتية عليه، وهذا لم يتأتَّ من فراغ بل من تراجع الإحساس بالمشترك والعام، والانسحاب نحو الخاص والذاتي على نحو مخيف، ليس تأملاً أو محاولة لفهم الداخل وسبر أغواره، بل قوقعةً وانغلاقاً داخل كهوف باردة ومعتمة، فالأغلبية الساحقة اليوم تتمترس خلف الدين والقبيلة والحزب، بينما يغيب عن إدراكها الانتماء الإنساني والوطني.
الخوف والتوجّس من الآخر، هو في الحقيقة دفاعٌ عن الاعتيادي واليومي في حياتنا من خطر التجديد والتغيير، فالذات تميل إلى الطمأنينة والسكون إن لم يقلق راحتها الإنسان بالبحث والشك والسؤال، والآخر غامض وغريب، يهدد المسلّمات واليقينيات التي نسيّج بها أنفسنا، والنتيجة هي أننا كلنا قضاة قساة، أحكامنا جائرة ولا تعرف الرحمة، نطلقها عند الانطباع الأول بناءً على الشكل أو اللون أو حتى ملامح الوجه إن لم تعجبنا، والأشد إيلاماً هو أن البعض يعتقد أن لديه الشرعيّة المطلقة لتصنيف الناس حسب مزاجه وأهوائه الشخصية لا لذنب قد اقترفوه سوى أنهم مختلفون عنه، فيضع هذا في خانة الملحدين لأنه قدّم نقداً موضوعياً للفكر الديني والتدين ــ هذا على المستوى الفكري ــ ويضع آخر في خانة المنحرفين أخلاقياً لذوقه الخاص في اللباس أو قصة الشعر، ويعطي الحق المطلق لنفسه فيطلق العنان للسانه بأن يخوض في شرف فتاة لأنها لا ترتدي الحجاب، هذه المشاهدات اليومية التي ألحظها في الشارع والمقهى والجامعة، تدق ناقوس الخطر وتشير إلى مدى الانحاط الفكري الذي وصلنا إليه، فكم تبدو لي مرعبة هذه الظاهرة التي انتشرت بتأثير من الخطاب الديني المعاصر القائم على الحسم الذهني والحقيقة المطلقة، والانغلاق المجتمعي سواء بين طبقاته أو توزيعه الجغرافي، وأخيراً الإنكفاء الذاتي ليس تأملاً ومحاولةً لفهم المستعصي وكشف المبهم، وإنما إمعاناً في الخوف الذي تزرعه المؤسسة الدينية والسياسية والاجتماعية.
البداية من الطفل حيث يغرس الأهل مشاعر الخوف في داخله، حكايات الغرباء سارقي الأطفال الذين يطرقون أبواب البيوت الآمنة بغية سرقتها، وقصص المحاربين وفاتحي الشرق والغرب بحوافر خيولهم، هذه القيم التي يتجرّعونها بالتلقين عن الأشرار والأخيار، والمهتدين والضالين، والمؤمنين والكافرين، تصبح فيما بعد عقائد ومسلّمات يصعب تغييرها، فكل إنسان مختلف هو بالضرورة عدو لك، وكل ما ليس عربياً هو كافر وفاسق وضال، دون أدنى فهم أو إدراك لاختلاف الثقافات والشعوب والمفاهيم، فالمقياس الأخلاقي أصبح أساسه الثقافة المحليّة المستهلكة، وليس بناءً على منطلق منهجي موضوعي.
لم أنثر هذه الكلمات ولم أحرّك المياه الراكدة رغبةً في جلد الذات، إنما تسليطاً للضوء على هذه الظاهرة التي تتسع يوماً بعد يوم، ومحاولةً لرفع الوعي عن أهمية رَدم هذه الهُوّة مع الآخر، للوصول إلى مجتمع مدني متقدّم، يُعلي من قيمة الإنسان بغض النظر عن لونه أو دينه أو طبقته الاجتماعية.لم أنثر هذه الكلمات ولم أحرّك المياه الراكدة رغبةً في جلد الذات، إنما تسليطاً للضوء على هذه الظاهرة التي تتسع يوماً بعد يوم، ومحاولةً لرفع الوعي عن أهمية رَدم هذه الهُوّة مع الآخر، للوصول إلى مجتمع مدني متقدّم، يُعلي من قيمة الإنسان بغض النظر عن لونه أو دينه أو طبقته الاجتماعية