ظلت عقولنا طوال عامين حبيسة صور الأشلاء المبعثرة و الجثث المتفحّمة…ظلت عقولنا طوال عامين تعاود استحصار كل تلك الصّور الكريهة و المؤلمة عن المجزرة و ضلت أنفسنا نحن الّذين تابعنا الإعتصام منذ أيامه الأولى تتحسس المرارة و الخيبة كلما ذُكِر الإسم أمامنا من جديد…
و كأنه أُريد لنا أن نظل حبيسي اللحظة فلا نفارقها و لا نبرحها و لا نلتفت إلى ما سبقها و لا نتمعّن في ما لحقها من أحداث و مواقف
لا يعرف الكثيرون عن اعتصام ميدان رابعة العدويّة أكثر من صور الدماء و الأشلاء التي وثقها شهود المجزرة لكن من تابعوا الاعتصام منذ أولى أيامه يذكرون جيدا علامات كثيرة مهمة فانطلاق الاعتصام كان أياما قليلة قبل شهر رمضان و قد راهن الانقلاب العسكري على عدم قدرة المعتصمين على الصّبر و التحمل طيلة شهر الصيام و على تبدد قدرتهم على الصّمود خاصة مع الارتفاع الكبير لدرجات الحرارة و ضخامة أعداد المعتصمين و صعوبة التواصل مع المناطق المحيطة بمكان الاعتصام بسبب الانتشار الكثيف للحواجز التي كان يقيمها الجيش المصري على الطرق الرئيسية المؤديّة إلى المكان
كان رهان الإنقلاب إذا انهاك المعتصمين و هو الأمر الّذي لم يحدث حيث صمد المعتصمون الى اخر دقائق المذبحة…ثم كان رهانه على عدم قدرة المعتصمين على ادارة الاعتصام و تسيير شؤون الالاف من المشاركين فيه …فكان أن أنشئت لجان الحماية و النظافة و الإعلام و الصحّة و أقيم مستشفى ميداني لتقديم الإسعافات الأولية لمستحقيها
ثم كان رهان الانقلاب نفور متساكني رابعة من الاعتصام و المعتصمين فكان أن حبط هذا الرهان كذلك لما رأوه من نظام و من تحضّر ….فلما فشل الإنقلاب في كل رهاناته…لم يعد له من بد إلا الرهان الأخير …الاغتيال المعنوي للاعتصام عبر أبواق الدعاية السوداء التي يحركها الانقلاب كما يحرّك الدمى ثم الاغتيال المادي…
طلب السيسي تفويضا من المصريين لمحاربة الإرهاب المحتمل…لكنه في الحقيقة لم يطلب التفويض من المصريين بقدر ما كان طلبه موجها للاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدّة…أن إذنوا لي أن أحسم…فقيل له إحسم… وكان أمر الله قدرا مقدورا
قامت صبيحة الإربعاء الرابع عشر من أغسطس/آب 2013 قوات الأمن و الجيش المصري باقتحام ساعة الاعتصام و باستهداف المعتصمين و بقنص الصحفيين و المصوّرين في مشهد لم يرى له التاريخ الحديث له مثيلا…جثث منتشرة متراكمة…و اخرى محروقة…أشلاء آدمية مبعثرة و دماء في كل مكان..لم يسلم من رصاص الجيش و الشرطة لا مسجد و لا مستشفى ميداني و لا امرأة و لا طفل و لا شيخ…كان الأمر واضحا ” افشخوا الإخوان”… حتى لا تستقيم لهم في يوم من الأيام إرادة
افشخوا الإخوان…ذلك هو المقطع الّذي تردد في أغنية هزلية في برنامج الإعلامي المصري باسم يوسف ايام بعد الاعتصام…
حصيلة ذلك اليوم الأسود كانت ألفا قتيل على أقل تقدير و أربعة ألاف قتيل وفق أكثر تقدير…و عن الجرحى و المصابين حدّث و لا حرج…لن أسهب في الحديث عن تفاصيل المجزرة فالصّور أبلغ من ألاف المقالات و أدق من كل التوصيفات
بعد المجزرة المروّعة توقعنا على الأقل استنكارا دوليا و رفضا عربيا واضحا لكن ما حدث كان أقرب إلى العكس مما كنا ننتظر…فالموقف الغربي كان مستنكرا على استيحاء…أما الموقف العربي فكان أقرب الى المباركة منه إلى أي شيئ أخر…جل ّالنخب القوميّة و اليساريّة في العالم العربي احتفت و احتفلت بهذا النصر التاريخي و تساقطت بياناتها تباعا تهنئة و مباركة و ضحك جزّار الشام صانع البراميل المتفجّرة ملئ شدقيه أما بعض من يحسبون أنفسهم زورا و بهتانا على الإعلام و الإعلاميين فكان لهم بدورهم نصيب من حفلة الدّم كيف لا و تحريضهم على فض الاعتصام و تشويهه لا تخطئه أذن السامع…كيف لا و قد وصل بهم الأمر الى الترويج أن الإخوان يقتلون خصومهم و يخفون جثثهم تحت منصة الاعتصام
تحفظ ذاكرة المجزرة…أسماء من سقطوا بدون رصاص لا في ساحة الاعتصام و لكن في ساحة الإنسانية… من عمرو خالد مرورا بعلي جمعة وصولا إلى الهام شاهين و يسرا و بقية جواري الإنقلاب
مر عامان و نحن نحفظ أسماء القتلى جميعا و الّذين سيولدون…مر عامان و الهاربون و التائبون من خطيئة الانقلاب العسكري بالمئات بل بالألاف…مر عامان و الكثير منهم يقفون صفا واحدا يقدمون الاعتذارات عن خطيئة ربما تغفرها قلوب الضحايا و المكلومين و الثكلى و ربما لن تغفرها مطلقا لا الانسانية و لا التاريخ
مر عامان…انسحب البرادعي و انسحب عمرو حمزاوي و انسحبت 6 أبريل و تبرّأ بعض منتسبي تمرّد و انسحب بلال فضل و لم يعد بإمكان باسم يوسف و أخرين كثر من المطبّلين للانقلاب …لم يعد بإمكانهم العودة إلى مصر…فطريق الإنقلابات دائما مسدود
مر عامان و تغير إسم المكان لكن مكانه في قلوبنا ظل رابعة و ذكراه في قلوبنا رابعة و رمزيتّة في أحاديثنا رابعة…مر عامان