“عمارة المنايفة”، ذلك المبنى الذي اشتهر داخل ميدان رابعة العدوية لدى المعتصمين فيه عقب إعلان الجيش الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي، لم يأخذ قسطًا إعلاميًا وافرًا لإبراز دوره الكبير إبان فترة الاعتصام بالميدان، أو الانتهاكات التي طالته وقاطنيه وقت فض الميدان بالتحديد في 14 من أغسطس من العام 2013، حيث شهد المبنى مجزرة خاصة أثناء عملية الفض “المجزرة الكبرى”.
قناة الجزيرة الوثائقية أنتجت فيلمًا خاصًا من 49 دقيقة يوثق دور ذلك المبنى غير مكتمل البناء في تلك الفترة، وقالت القناة في نبذه تعريفية عن الفيلم: “أثناء اعتصام رابعة وخصوصًا خلال شهر رمضان كان لتلك العمارة -عمارة المنايفة- دورٌ كبير في دعم الاعتصام، فعبر ستة طوابق هي طوابق هذا المبنى الذي لم يكتمل بناؤه حمل كل طابق مهمة خاصة له.. وصولاً إلى دورها الكبير في الصمود أمام محاولات قوات الأمن اقتحام الميدان يوم الفضّ من مدخل شارع الطيران”.
يفتح هذا الفيلم الوثائقي عن هذا المبنى ملف ملحمة من الملاحم الجزئية داخل ملحمة الفض الكبرى، إذ تنطلق فكرة الفليم لتجمع عدد من أبناء محافظة المنوفية المصرية أمام أحد العقارات التي كانت تحت الإنشاء فى محيط منطقة رابعة العدوية، فكان المبنى يقع بالتحديد بين تقاطع شارع أنور مفتي وشارع الطيران على الجهة المقابلة لمحطة البنزين، وذلك للمشاركة في الاعتصام المندد بإعلان قادة عسكريين الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي، ليعرف المبنى الذي لم يكن بناءه قد اكتمل وقتها بين المعتصمين من حينها باسم “عمارة المنايفة” – محافظة المنوفية إحدى المحافظات المصرية التي تقع شمال العاصمة المصرية القاهرة في جنوب دلتا النيل-.
عرض الفيلم مشاهد حية من المبنى أثناء فض الميدان، تظهر تلك المشاهد مراقبة الأجهزة الأمنية للمبنى من على بعد وإخبار القائمين على عملية الفض عبر الأجهزة اللاسيلكية عن أماكن المعتصمين الذين فروا من الرصاص إلى الطوابق العليا بالمبنى، وآخرى تظهر حرص القوات على إغلاق أية أبواب خلفية في العمارة لحصار المعتصمين، وتضمن الفيلم أيضًا إعادة تمثيل بعض المشاهد التي وقعت خلال اقتحام قوات الأمن للعمارة اعتمادًا على روايات بعض الذين حضروا عملية حصار وفض المبنى.
يروي الفيلم “صمودٌ وثباتٌ وصل إلى حد أنه و في أثناء سقوط المنصة الرئيسية للميدان وتدميرها، كانت “العمارة” لا تزال عصية على سيطرة الأمن، فجنّ جنون القوات واستخدموا ضد العمارة ومرتاديها أقصي درجات العنف، من إطلاق قذائف الجرينوف وإحاطتها بالطائرات المحُملّة بالقناصّة، كما تم تجهيز كتائب من القوات الخاصة لاقتحام العمارة، حتى سقطت أخيرا فى أيديهم بعد عناء شديد ومحاولات مضنية وعنف مفرط”.
فيما سرد شهود عيان ممن حضروا الاعتصام من بدايته بداية استخدامهم للمبنى في وضع العصي والخوذات لفريق حراسة الميدان أثناء استراحته، ومع زيادة الأعداد داخل الميدان بدأ المعتصمون في استخدام المبنى لإقامتهم لحمايتهم من حرارة الشمس في النهار وللنوم ليلًا، كما تحدثوا عن تقسيم الأدوار فيما بينهم، فيكون أحدهم مسؤول عن إعداد الطعام وآخر عن المشروبات وتبريد المياه وهكذا طوال شهر رمضان.
تحدث المعتصمون عن تعاملهم داخل الميدان مع مجزرتي أحداث الحرس الجمهوري والمنصة، والتي حدثتا خلال شهر رمضان وقت فترة اعتصامهم بالميدان، ودورهم في إغاثة المصابين وزيادة تأمين الميدان من جهة شارع الطيران، وكذلك عن قضاء عيد الفطر داخل الميدان وأجواء الفرحة التي عاشوها وتزيين المبنى والخيام أمامه بالبالونات وتعاملهم مع الزحام الشديد مع تزايد الأعداد في توافدها على الميدان خلال أيام العيد.
وأردف بعض الشهود روايتهم في الاستعداد خلال الأيام القليلة التي سبقت الفض، من إعداد زجاجات المولوتوف والنبال كأدوات لردع الفض المتوقع وزيادة تأمين الميدان من جانب المبنى بالرمال، خاصةً مع تأكيد وزارة الداخلية حينها على استعداداتها لإخلاء الميدان من المعتصمين، وتحدث المعتصمون كذلك عن اللحظات الأولى من بدء عملية الفض وإطلاق الرصاص وتخيل عدد منهم أن تقتصر العملية على الضرب على إحدى بوابات الميدان كسابقه في التعدي على المعتصمين من جهة النصب التذكاري.
وفي نفس الصدد تحدث شهود عن تفاجئهم بوقوع عدد كبير قتلى من المعتصمين الموجودين على بوابات التأمين، وكذلك وصول الرصاص وقنابل الغاز إلى داخل الخيام وأمام المبنى رغم بعده أمتار عن بوابة التأمين، وتحدث آخرين خلال الفيلم عن وجودهم خارج الميدان في ذلك الوقت، حيث عادةً ما يعودون لمنازلهم كل بضعة أيام للراحة قبل العودة مرة أخرى للميدان.
روى شهود العيان محاولاتهم الصعبة في العودة مرة أخرى إلى القاهرة حتى الوصول للميدان بمدينة نصر شرقي القاهرة، بسبب إغلاق الجيش وقوات الأمن الطرق وتوقف حركة القطارات، وسقوط عدد منهم قتلى بعد إطلاق الرصاص من قوات الجيش والشرطة التي أصبحت تطلق على الجانبين داخل وخارج الميدان، وتساقط عشرات القتلى على أطراف الميدان جراء ذلك، كما أكدوا حرص القوات على تفريق المتظاهرين الذين حاولوا الدخول للميدان عبر إطلاق النيران لتتمكن من اعتقال مجموعات صغيرة، وتحدثوا عن التعامل القاسي الذي تم معهم بعد اعتقالهم، واحتجازهم في أماكن بالقرب من الميدان مؤمنة بالقوات الأمنية حتى انهائهم لعملية الفض.
تضمن هذا الفيلم أيضًا شهادات تروي محاولة المعتصمين المتواجدين بالمبنى تحصينه لتأمين باقي المتواجدين بالمبنى من وابل الرصاص الذي كان يُطلق عليهم، أملًا في منع القوات الأمنية المتقدمة من اقتحامه، و شهادات أخرى تروي حرص المعتصمين على إنقاذ زملائهم المصابين رغم أن أمطار الرصاص لم تهدأ لحظة في السقوط على المبنى.
الحديث وصل إلى استخدام المعتصمين المبنى في صد الهجوم على الميدان عن طريق زجاجات الملوتوف التي صنعت من زجاجات مياه غازية فارغة وأضافوا لها بنزين من العربات الخاصة بهم بالميدان ، والتي أطلقت من الأدوار العليا بالمبنى في محاولة لصد تقدم قوات الجيش والشرطة، فكك المعتصمون بأدوار المبنى الأخشاب والعواميد الحديدية التي كانت تستخدم لإتمام بناء المبنى قبل بداية الاعتصام، وألقوها أمام القوة الأمنية المتقدمة في محاولة بائسة لإرهابهم بعض الشيء وشل حركتهم وعركلتهم عن مزيد من التقدم صوبهم.
وكذلك إلقاء بعض المعتصمين أمام المبنى الحجارة على العربات والدبابات والمدرعات التي كانت تتقدم نحو الميدان، كما سردوا كيفية تقسيم أنفسهم لمجموعات لتأمين أدوار المبنى المختلفة والمتواجدين به في تلك الساعات، وحكى الشهود أيضًا قصص مآساوية لتعرض عدد من زملائهم لإطلاق الرصاص الذي أودى بحياة البعض منهم أمام أعينهم، بالرصاص الحي والجرينوف والقنابل الحارقة وقنابل الغاز وغيرها من الأسلحة التي استخدمت في عملية الفض.
وتحدث عدد من المعتصمين في شهادتهم عن توقف إطلاق النيران لبرهة من الوقت في فترة الظهيرة وظنهم أن العملية برمتها توقفت وأن القوات الأمنية ستنسحب وتترك الاعتصام لعدم قدرتها على فضه، خاصةً مع وصول معلومات للمعتصمين باقتراب عدة مسيرات أخرى للدخول للميدان، وكذلك رؤيتهم من فوق عمارة المنايفة للجنود آمنين يقوم بعضهم بتناول الطعام فوق المدرعات وآخرون يقومون بتجمييع فوارغ الرصاص، ما جعل المعتصمين حينها يأمونون تمامًا وقام بعضهم بالاستراحة والنوم حتى تفاجئوا مرة أخرى بإطلاق الرصاص عليهم، والذي أوقع عشرات أخرى من القتلى والجرحى في أدوار العمارة المختلفة.
أردف أحد الشهود محاولاتهم سد فتحات المبنى بالرمال والاسمنت، خاصةً بعد رؤيتهم لإحدي الطائرات في مستوى منخفض وتكاد تقترب من المبنى وتطلق على الموجودين داخله طلقات الخرطوش والرصاص، كما شعروا بحرص كبير من القوات على فض العمارة بأي ثمن مع تركيز القوات البرية والجوية على المبنى، وتزايد إطلاق الرصاص الحي والجيرنوف والقنابل بشكل كبير، الأمر الذي تسبب في تهشم أجزاء كبيرة من جدران المبنى حينها.
حوى الفيلم شهادات أخرى تضمنت حرص عدد من المعتصمين بالمبنى على إسعاف المصابين، وتجميع جثث القتلى من أدوار المبنى ودرجاته، وأكد معتصمون بالمبنى أن مع اقتراب وقت العصر كانت أجزاء كبيرة من الميدان قد أخلت تمامًا وأن المبنى من الأماكن القليلة التي لم يستطع الأمن إخلائها بعد، فزاد تشبثهم بالوجود في المبنى حرصًا على سلامة عشرات المصابين والنساء والأطفال المحتمين به.
كما أكدت شهادة المعتصمين أنه في الساعات الأخيرة من تواجدهم بالمبنى بدأ المولتوف ينفد لنفاد البنزين، كما بدأت الأعداد أمام المبنى بالتناقص بسبب إخلاء الجزء الأكبر من الميدان واشتداد إطلاق النيران على المعتصمين، ولم يكن لديهم سبيل للدفاع عن أنفسهم مع وقوع عدد كبير منهم بين قتيل وجريح.
وأثناء اقتحام القوات للمبنى، كانت الأعداد التي تحميه قليلة للغاية وقامت القوة الأمنية بإزالة الحاجز الذي بناه المعتصمون بالحجارة، واعتقلوا من تواجدوا خلفه من المعتصمين، مع إطلاق للرصاص على عدد آخر منهم، وحينها بدأ المتواجدون في الأدوار العليا من المبنى في تحذير بعضهم البعض والتفكير في طريقة للهروب من المبنى دون اعتقال أو إصابة أو قتل، وبدأ حينها بعض الشباب بالتسلق عبر الأخشاب والحديد “السقالات” التي مازالت مربوطة بالمبنى من الجهة الداخلية، وروا حينها وقوع عدد منهم من أعلى المبنى، أثناء عملية النزول، ووقوع آخرين بعد إطلاق الرصاص عليهم، وتصفية عدد ممن تمكنوا من النزول سالمين.
فيما قام معتصمون آخرون بالنزول عبر السلالم بعد وعود من القوات الأمنية بعدم المساس بهم، وأكدوا أنه بعد نزولهم بالدور الأرضي في المبنى أجبروا على النوم على الأرض والأسلحة موجهة فوقهم، تحدث شهود أيضًا عن وجود مصابين بينهم كان يمكن إنقاذ حياتهم لولا تعنت رجال الأمن والملثمين في إبقائهم على الأرض ليظلوا ينذفون في دمائهم حتى فارقوا الحياة، وظل الوضع هكذا بالدور الأرضي حتى قامت القوات الأمنية بتفريغ كافة الأدوار من المعتصمين.
وأوضح شهود أن بعد ساعات من اعتقالهم داخل المبنى، بدأت الأجهزة الأمنية في إخراج النساء والمعتقلين الذين لم يكفي لهم مكان بعربات الشرطة لاعتقالهم، كما أوضحوا مطالبتهم رجال الأمن بتجميع جثامين زملائهم، وتلقيهم تهديدات بالقتل المباشر إذا تأخروا في تجميع الجثامين، وإصابة البعض بالفعل بالرصاص أثناء ذلك.
وأكد آخرون أن بعض رجال الأمن بدأوا في تكسير أجزاء كبيرة من الأدوار العليا بالمبنى، وتبينوا بعدها أن السبب هو أنهم سيلقون تهمًا بتخريب المبنى وتكسيره، ورووا كذلك قيام بعض العساكر بسرقة المعتصمين المعتقلين والمصابين والقتلى عبر تفتيشهم وسرقة كل ما يتواجد معهم من نقود أو ساعات أو هواتف محمولة.
أوضح بعض المصابين الذين ظلوا في المبنى أنه بعد انتهاء تلك العملية جائت سيارة إسعاف وقامت بانتشال بعض المصابين بمراقبة ضباط الشرطة، وكان يتم انتقاء المصابين الذين يعانون من إصابات أقل خطورة، فيما يترك المصابين في حالات خطرة بحجة محدودية العدد.
وأجمع عدد من الشهود أن صمود العمارة واستمرار قوات الأمن في إخلائها لساعات مكن المعتصمين من إخراج عدد كبير من المصابين والقتلى من الميدان، موضحين أنها كانت نقطة قوة للميدان إبان فضه.
تلك كانت قصة صمود “عمارة المنايفة” أثناء عملية فض اعتصام رابعة العدوية أحد المشاهد الجزئية من مشهد الفض المميت والذي خلف وراءه قرابة 1800 قتيل وأكثر من 5000 آلاف جريح على يد قوات الجيش والشرطة المصرية، في أحد أكبر المذابح السياسية في التاريخ الحديث، وربما مع مرور الوقت تظهر أفلامًا أخرى تروي وتوثق للتاريخ أحداث بطولية أخرى حدثت في تلك المجزرة.