منذ تم توقيع اتفاق فيينا بين إيران من ناحية، وقوى الخمسة زائد واحد الدولية من ناحية، والتحليلات تنتشر هنا وهناك عن تحوّل إيران خلال عقد أو أقل إلى حليف أساسي للغرب في المنطقة، وتوطد اقتصادها باقتصادات أوروبا والولايات المتحدة، ونجاحها عبر ذلك التحالف والانفتاح الاقتصادي في تمرير ما تريده بمنطقة الشرق الأوسط بشكل يغيّر ملامح المنطقة، لا سيما وأن الغرب مهموم حاليًا بهزيمة داعش والتي تُعَد عدوًا لإيران، مما يعني انشغاله عن العداوة مع إيران لفترة لا بأس بها، ووجود أرضية صلبة لتعاونهما في احتواء تنظيم الدولة.
بيد أن توقع نشوء تحالف بين الغرب وإيران هي نظرية غير دقيقة، أولًا لأن هناك مسافة كبيرة تفصل بين أوروبا والولايات المتحدة من الأصل، مما يعني عدم وجود كُتلة “غربية” على المستوى الدولي من الأساس لتتحالف مع إيران، وثانيًا لأن تمرير ما تريده إيران في الشرق الأوسط لن يتحقق بالتحالف مع الغرب في الحقيقة كما سنشرح تفصيلًا نظرًا للوضع المعقد بالمنطقة والمعتمد بالأساس على مواقف القوى الإقليمية لا الدولية، وثالثًا لأن منطقة الشرق الأوسط ربما لن تكون المنطقة الأكثر تأثرًا بالاتفاق النووي بنفس القدر الذي ستتأثر به أوروبا، ولأسباب عدة نسردها في هذا المقال، مما يعني أن إيران قد تكون حليفًا لأوروبا وليس للغرب بأسره، وفي ملفات تتعلق بأوروبا أكثر منها بمنطقتنا.
الشرق الأوسط والقوى الإقليمية
منذ فترة ليست بعيدة، وإثر بزوغ القوتين التركية والإيرانية على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية، وبزوغ الخليج كقوة اقتصادية، بالإضافة إلى وجود إسرائيل كقوة عسكرية معزولة نسبيًا عن محيطها العربي والإسلامي، أصبحت القوى الإقليمية هي المحدد الرئيسي لموازين اللعبة في قلب الشرق الأوسط، في حين ازداد بوضوح عجز القوى الدولية عن قلب الطاولة بسهولة كما كان الحال في السابق ما لم تتفق كلها بشكل حاسم وواضح، وهو أمر يحدث بالكاد، فقد رأينا الفشل المتكرر للولايات المتحدة في تحقيق خطوات ملموسة في ملف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل على عكس الحال في التسعينيات، وعدم قدرة واشنطن على قلب الأوضاع على الأرض بقوتها العسكرية المنفردة كما يحدث في الحرب على داعش الآن، على العكس مما كانت تفعل حتى مطلع العقد الماضي.
السببان الرئيسيان لهذا التحول من كون المنطقة مرهونة بما يجري بين القوى الدولية، إلى ارتباطها بالأساس بديناميات اللعبة الإقليمية، هما، أولًا، رغبة واشنطن نفسها في التراجع ولو جزئيًا عن دورها بالمنطقة نظرًا لانصباب تركيزها على ساحتها الخلفية في المحيط الهادي، وانشغال أوروبا بملف المهاجرين وأزمة أوكرانيا والأزمات المالية في جنوب القارة بشكل يعيقها عن الاضطلاع بدور دولي بارز، وثانيًا، وعلى مستوى بلدان المنطقة نفسها، فإن انفراط عقد النظامين البعثيين في العراق ثم سوريا، واشتعال الوضع في ليبيا واليمن، قد حوّل من طبيعة القوى إلى كونها قوى دون الدولة، كالميليشيات والجماعات المسلحة والحركات المذهبية أو الدينية، بعد أن كانت لسنوات أنظمة كلاسيكية ذات جيوش نظامية، وهو ما شكل عائقًا رئيسيًا أمام قدرة البلدان الغربية على التعامل معها بكفاءة.
الدوائر الحمراء مناطق تصعب فيها هيمنة إدارة مركزية، والأسهم السوداء تشير لاحتمالة انتشار العنف، والبلدان المخططة شبه مفككة وفي حالة صراع بين فصائل
نتيجة لذلك، لا يبدو وأن انفتاح الغرب على إيران سيقلب المنطقة رأسًا على عقب، فمواقف دول الخليج على سبيل المثال تظل كما هي، حيث يستمر الباب مغلقًا بوجه التعاون بأي شكل مع إيران حتى ولو كان هناك عدو مشترك، باستثناء عُمان ربما التي تتسم علاقاتها مع إيران بالانفتاح النسبي، أما بالنسبة للمواقف مع إسرائيل فهي شديدة الوضوح ولن تختلف كثيرًا، إذ تُعَد إسرائيل إلى جانب السعودية أشد الرافضين للاتفاق النووي، كما أن هيمنة اليمين المتطرف فيها يعني أن وجود أي فرصة لوجود رغبة في الحوار مع إيران في المستقبل القريب شبه مستحيلة، ناهيك عن أن طهران نفسها غير عازمة على تغيير موقفها من تل أبيب في السنوات المقبلة.
أما البلدان التي قد تتجاوب نسبيًا مع الاتفاق فهي أولًا مصر، وهي التي ستتجاوب ربما بشكل ضئيل نظرًا لأهمية علاقاتها الوطيدة مع إسرائيل للنظام الحاكم فيها الآن، وحرصها على استمرار الدعم الخليجي، وبالأخص الإمارات والسعودية الأكثر توجسًا من إيران، على العكس من عُمان وقطر الأكثر تقبلًا للدور الإيراني، والأخيرة لا تزال بينها وبين مصر مسافة لا بأس بها، وثانيًا، قد يحقق الاتفاق انفتاحًا اقتصاديًا مع دول المغرب العربي، والتي تُعَد مرتبطة بالأساس بأوروبا لا بواشنطن، وفي كلتا الحالتين المصرية والمغاربية، فإن الدول المعنية لا دور لها تقريبًا في الملفات الرئيسية بالمشرق من ناحية، كما أنها ضعيفة على المستوى الإقليمي بشكل لا يتيح لها قلب الموازين، إما لصِغَر حجمها كتونس، أو لبُعدها الجغرافي كالمغرب أو لتضاؤل دورها على مدار العقود الأربعة الماضية مثل مصر.
البلد الوحيد الذي قد تتوطد علاقاته بإيران هو تركيا، والتي تتمتع أصلًا بواحدة من أكثر العلاقات قوة مع إيران في العالم، بيد أن تلك القوة ستنعكس بالأساس فيما يخص المصالح المشتركة بأوروبا، كما سنشرح أدناه، وفيما يخص التبادل التجاري بينهما، والذي عانى كثيرًا من وطأة العقوبات، في حين ستبقى المشاكل عالقة بينهما في المشرق، على أقل تقدير إذا بقي معسكر أردوغان مهيمنًا داخل دائرة صناع القرار في أنقرة، والذي تُعَد مواقفه فيما يخص سوريا أكثر بُعدًا عن طهران، وإن بدا في الأفق صفقة في سوريا، فإن وجود داعش ستستمر على الأرض لوقت طويل في كل الأحوال، كما أن أكبر فصيل معارض وهو جبهة النصرة قد لا يقبل الصفقة، مما يؤدي على الأرجح لاستمرار النظام البعثي بدون الأسد، مع تمثيل لمعارضة هشة، بينما تستمر الحرب حينئذ مع فصائل “إسلامية” شتى.
إيران وتركيا والموازين الأوروبية
العلاقات مع أوروبا هي ربما المجال الذي سيتأثر بشكل رئيسي بالانفتاح على إيران، وهو سبب الحماس الكبير لدى ألمانيا وفرنسا لتطبيع العلاقات سريعًا وفتح باب التعاون الاقتصادي والسياسي، وهي مسألة بالطبع تهم إيران كثيرًا، حيث أن الانفتاح على الغرب بالنسبة لها بشكل رئيسي هو الانفتاح على أوروبا بالأساس، الجار الجغرافي الأقرب لها من الصين، والأكثر تناغمًا مع مصالحها من روسيا إلى شمالها، والتي خاضت حروبًا طويلة معها على مدار القرون السابقة ولا يمكن أن تتناغم مصالحها معها بنفس القدر الذي قد تتناغم به مع أوروبا، والأخيرة هي الأكثر تطورًا ونموًا أيضًا.
بينما تتجه الولايات المتحدة للتركيز على المحيط الهادي، وتتضاءل فكرة الغرب كثيرًا على المستوى الدولي، لتزداد المسافة بين الرؤى الأمريكية والأوروبية، سيبدأ اهتمام أوروبا في الاتجاه نحو التعامل مع القوة الروسية الجديدة، لا سيما وقد فشلت محاولاتها السابقة الارتباط بروسيا سياسيًا واقتصاديًا لتحقيق السلام معها، والملف الأبرز بالطبع المتوقع أن يعيد رسم ملامح جيوسياسات القارة الأوروبية هو ملف الطاقة، وهنا يأتي الدور البارز لتركيا وإيران بالنسبة لأوروبا، حيث تُعَد الأولى الممر الهام والاستراتيجي لنقل الغاز بعيدًا عن روسيا، في حين تُعَد الثانية واحدة من أهم المصادر المحتملة، والمتوقع أن تكون بعد عشر سنوات قد حصلت على نصيب لا بأس به من السوق الأوروبية في مقابل تقلص النصيب الروسي.
علاوة على ذلك، ستصبح إيران خلال عشر سنوات أكثر ارتباطًا اقتصاديًا بأوروبا، وهي حاليًا أصلًا تتمتع بعلاقات قوية مع الاقتصادين الألماني والإيطالي رُغم العقوبات الطويلة، وهي مسألة تهم أوروبا لأسباب طويلة، أولًا لأنها تعزز من نشوء محور جنوبي مرتبط بها سياسيًا واقتصاديًا عن طريق البلقان وتركيا، فوجود تركيا في التحالف الغربي أمر مهم لاحتواء القوة الروسية، بيد أن انضمام إيران لذلك الخط يعزز كثيرًا من رصيد أوروبا ويقلص من قدرة الروس على المناورة، كما أن كلا البلدين قد يساهم بالتعاون مع أوروبا مستقبلًا في تنمية البلدان القريبة في الشرق الأوسط، وهو ملف مهم لأوروبا أكثر من الولايات المتحدة نظرًا لوفود الملايين من المهاجرين من المنطقة إلى أوروبا، والذين لا يمكن تقليص أعدادهم إلا بتنمية بلدانهم الأصلية.
ثانيًا، تُعَد إيران تُعَد نافذة رئيسية لآسيا الوسطى إلى جانب تركيا، وهي منطقة شديدة الأهمية لأوروبا الراغبة في تعزيز ارتباطها بها لفتح مجالات جديدة لنفوذها وتجارتها، وكذلك لاتصالها بالعملاق الصيني الراغب في خلق طريق نمو اقتصادي وترابط سياسي مع أوروبا، وهي مرة أخرى مسألة ستعتمد على قدرة أوروبا والصين معًا على فتح اقتصادات هذه البلدان وتخفيف قبضة الروس في هذه المنطقة، وهو أمر سيتعزز كثيرًا بانضمام إيران، ويزيد كذلك من احتواء القوة الروسية، ورُغم أنها مسألة ليست سهلة بالطبع، إلا أن التنسيق ما بين تركيا وإيران قد يجلب بلدان جنوب آسيا الوسطى بسهولة إلى توطيد الروابط مع الجنوب والغرب بدلًا من الشمال الروسي، لا سيما أوزبكستان وتركمنستان الغنيتين بالغاز، واللتين تقومان بالتصدير الآن للصين والهند وقد تتجهان لأوروبا مسقبلًا.
إجمالًا، من المتوقع خلال عشر سنوات أن تلعب كل من تركيا وإيران دورًا أكبر في الاستراتيجية الأوروبية على المستوى السياسي والاقتصادي، وهو أمر ستحتاج معه أوروبا بالطبع أن تقرب بينهما بقدر استطاعتها نظرًا لأهمية التنسيق بينهما وفي تحقيق الأهداف الأوروبية في آسيا الوسطى وفي ملف تصدير الغاز، كما أنه سيُهِم أوروبا أن تنفتح على أسواق آسيا القريبة منها إلى جانب تركيا نظرًا لتراجع أهمية الاقتصاد الروسي بالنسبة لها، مقابل نمو الرغبة في الارتباط بالعملاقين الصيني والهندي، واللذين تُعَد إيران واحدة من أهم البلدان المفتاحية لخلق ممرات اقتصادية معهما.