أثار اقتراح قدمته وزارة التربية والتعليم الجزائرية، حول استخدام اللغة العامية في المراحل الأولى للتعليم الابتدائي بدلا من العربية الفصحى جدلا واسعا في الأوساط الشعبية والأكاديمية والسياسية الجزائرية.
وقد دافعت الوزيرة، نورية بن غبريط، على هذا الطرح بالقول أنه يندرج ضمن رؤيتها لإصلاح التعليم وأنه يُقدّم كمذلّل للصعوبات التي يواجهها الأطفال في سنوات التمدرس الأولى، باعتبار أن أغلبهم لا يتقنون سوى لهجاتهم المحلية ويُواجهون صعوبات في التعلم بالفُصحى، اقتراح كان كفيلا بإعادة الجدال القديم الجديد حول اللغة والهُوية والتماسك المُجتمعي وإذكاء الصراع الذي لم ينتهي بين العُروبيين ودعاة التغريب أو الفرانكفونيين.
ننطلق في هذا التقرير من هذا الخبر وأبعاده في الجزائر لنبحث في تمظهراته الأخرى لدى بقية دول المغرب العربي، لنتساءل حول أهمية المسألة اللغوية وإن كانت تستحق كل هذا اللغط.
احتدام الجدل في الجزائر
بدأ الأمر إذن في الجزائر بمؤتمر عقدته وزارة التعليم في 21 من شهر يوليو الماضي، بمشاركة خبراء في التعليم، انتهى برفع توصيات إلى الوزيرة، أهم ما فيها تدريس أطفال المرحلة العمرية 5 سنوات و6 سنوات اللهجات العامية الدارجة، بحسب المناطق التي يقيمون بها، بحجة أن الأطفال الصغار لا يستوعبون اللغة العربية في هذه السن، وبأن تحضيرهم لتعلمها في السنة الثانية ابتدائي يمر حتما عبر دعم رصيدهم من اللغة الدارجة.
تبني وزيرة التعليم نورية بن غبريط التوصية، وتحويلها إلى قرار حكومي، أثار حفيظة قطاع من وسائل الإعلام والنخبة الجزائرية، بينما ارتاحت له الصحف الناطقة بالفرنسية والنخبة التي توصف بـ”الفرانكفونية” ذات النفوذ السياسي في مختلف قطاعات الدولة الجزائرية.
وأعادت قضية تعليم اللغة العربية بلهجتها الأصيلة أو العامية خلافا إيديولوجيا أزليا بين أنصار القومية العربية والانتماء إلى الحضارة الإسلامية، والمثقفين المفرنسين الذين يعتبرون أوروبا وفرنسا تحديدا مرجعية في الاقتصاد والإدارة وتسيير شؤون الدولة.
بالرجوع إلى ردود فعل مُختلف مُكوّنات المشهد السياسي الجزائري، نلمح تفرّد زعيمة الحزب الشيوعي، لويزا حنون، بدعمها لهذا القرار ودعمها للوزيرة التي اعتبرت أنها تتعرض لهجمة من “أوصياء الإسلام”، إضافة لتثمينها قرار تعميم تدريس اللغة الأمازيغية بـ 20 ولاية.
من الجهة الأخرى، عبر أكثر من طرف عن رفضه لقرار الوزيرة، سواء الأحزاب أو الجمعيات أو حتى الشخصيات الوطنية الجزائرية، متفقين على أن رؤية الوزيرة تستهدف ضرب اللغة العربية.
هذا وقد اعتبر بعض الرافضين للقرار أن فكرة التدريس بالعامية ليست مشروعا جديدا تم طرحه بسبب مشكل معين في تدريس اللغة لتلاميذ الأقسام الابتدائية بل هي خطة “مجمدة” كان ينتظر أصحابها الوقت المناسب لطرحها لاستهداف “عروبة المجتمع الجزائري” وكسر الوحدة الوطنية ومحو هوية الفرد الجزائري.
ومن المعلوم أن اللهجات متنوعة جدا في الجزائر وبعضها لا يلتقي مع بعضها الآخر (خاصة بين القرى التي تتحدث الأمازيغية والقرى التي تتحدث العربية) ما طرح هاجسا من أن تُؤدي مسألة الفروق بين اللهجات المحلية إلى مشكل أكبر وهو التحول إلى مجموعة من الأمم التي تتكلم كل واحدة بلهجة معينة وهو ما قد يمس من التماسكالإجتماعي الجزائري، بحسب بعض المُحللين أيضا.
وفي السياق ذاته، رفضت النقابة الوطنية المستقلة لأستاذة التعليم الابتدائي على لسان أمينها العام، محمد حميدات، رفضا مطلقا فكرة استبعاد اللغة العربية واستبدالها بالعامية في المدرسة الابتدائية التي تعد اللبنة الأولى للمدرسة الجزائرية وهدم الهوية الجزائرية وتشتيت المجتمع الجزائري، واعتبرت النقابة أن مشروع التدريس بالعامية مشروع تغريبي لا يمكنها السكوت عنه، وأن مشاكل التعليم أعمق بكثير من هذا المُقترح الذي يهدّد هوية شعب بأكمله، وفق تعبيرها.
الوضع مختلف في تونس
ورغم الحضور القوي لما يُعرف بالتيار الفراكفوني على مستوى النخبة ، لم تطرح المدرسة التونسية على مدى الأنظمة السياسية المتعاقبة، منذ الاستقلال وخلال كلّ المشاريع الإصلاحيّة المقترحة لسنة 1958 وسنة 1991 وسنة 2002 وحتّى بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وإلى سنة 2015، قضيّة التدريس باللهجة العاميّة، وتم الإكتفاء بإثارة المسألة ثقافيا وإبداعيا في إطار مباحث لسانيّة معجميّة في بداية السبعينيات ضمن ما عُرف وقتها بمعركة “الدّارجة والفصحى”، وفي إطار النقاشات الفكريّة التي فجّرها مثّقفو “حركة الطّليعة” وأغلبهم من الجامعيين والباحثين اللسانيين، حتّى حسم الوزير الأديب ذو التوّجه الصفويّ محمود المسعدي الأمر، وكان الانتصار بيّنا للفصحى الذي انعكس مباشرة على الخيارات التربويّة الكبرى.
وبحسب الباحثة التونسية في مناهج التعليم، الأستاذة سلوى العباسي، يمكن تجاوز يمكن تجاوز المشكلات اللغوية في التعليم في السنوات الأولى من خلال استثمار الفصحى المؤسسيّة صلاتها القريبة والبعيدة بالعاميّة، باستدعاء الرّصيد اللسانيّ المودوع في الذّاكرة الخطابيّة للمتعلّم عبر توظيف التواصل وتنويع أوضاع الخطاب، فالاستثمار يكون استثمارا دلاليا بالأساس يستعير الأنساق والعمليات التبادليّة التي تقع في محيط الاكتساب، ويوظّف مفهوم “النّشاط اللغويّ” ليشغّل المهارات التواصلية ويلبّي أغراض الكلام، لكن مع العمل على تخليص الألسنة من آثار ذلك التلهيج وتقليص عدد الأخطاء ومجابهة ضعف المستويات اللغوية وضمور سجلاتها، إضافة إلى شحذ السماع والتلقيّ باللغة الفصحى وتكثيف تمارين القراءة والكتابة وتنويع المقروء والمكتوب باستخدام الوسائط والبرمجيات الرقمية والألعاب والخارطة الذّهنية والمسرحة والفنون واتباع مناويل استكشافية وتفاعلية تبني المشاريع وتستعين بالبرمجيات الرقمية الحديثة، وتنفتح على المحيط الثقافي الاجتماعي للمتعلّم لتصبح اللغة العربية أداة تواصل مع ذلك المحيط وأفق تفاعل مع العالم.
جدل مماثل في المغرب
وفي المغرب، أثارت مُؤخرا وزيرة البيئة المغربية حكيمة الحيطى انتقادات بعد تصريحها بأن الحديث باللغة العربية يصيبها بالحمى، رغم أنها اللغة الرسمية للبلاد، وجاءت تصريحات الوزيرة فى أعقاب جدل مماثل أثاره رفض وزير التعليم رشيد بن المختار التحدث باللغة العربية لقناة فرنسية لأنه “لا يتقنها”.
ورأى رئيس الائتلاف المغربى من أجل اللغة العربية فؤاد أبو على فى تصريحات الوزيرين “مسا بهوية المغاربة ولغتهم الرسمية”، مطالبا بمحاسبتهما تشريعيا وقانونيا. ويوجد جدل فى المغرب حول هذه المسألة منذ سنوات بين المدافعين عن العربية باعتبارها لغة الدستور، والتيار الفرنكفونى الذى يطالب باعتماد العامية كلغة أساسية.
وبحسب بعض المختصين المغاربة، ورغم محاربة الاستعمار الفرنسي للعربية، وتعثر سياسة التعريب في التعليم المغربي بعد الإستقلال، إلا أنها ما زالت قادرة على أداء وظائفها الحضارية الثلاث: الوظيفة العقدية، والوحدوية، ثم الرسمية في الإدارة والإعلام، وفي كل مؤسسات الدولة.
اللغويون الغربيون وخاصة السويسري فرديناند دي سوسير (Ferdinand De Saussure) مايزوا بين اللغة بما هي طرائق تفكير في عقل الإنسان ونظام اجتماعي مُستقل، وبين الكلام بما هو تحقّق لهذا النظام في صورة رموز وأصوات.
وبذلك تكون اللغة المرتبطة بالهوية مصدرها عقل الإنسان لا لسانه، وهو ما يُفسّر عمق هذا الجدل تاريخيا خاصة لدى الدول التي مرت بالإستعمار الفرنسي، فالعروبيون يُنافحون عن لغة الضاد من مُنطلقات هووية بحتة تتجاوز المنطوق في حد ذاته، كذا الأمر بالنسبة للدول التي لم تتخلى عن حنينها الإستعماري، فأن تضمن استمرار لغتك عبر النخب التي غرستها على مر سنوات في قطر ما يعني أن تضمن تبعية ذلك القطر دون الحاجة لغزوه.