الشيخ إمام يصدح ب ” شيد قصورك على المزارع ” في وجه السجّان عندما تم نقله من زنزانته فيغني معه باقي المساجين بأعلى ما أوتيت حناجرهم، ويبدأ صباحنا معه وهو يدندن ” طلع الصباح كل الجمال في طلعته “، ونختتم سهرتنا المسائية على صوته وهو يغني ” يا ولدي “، ونكتب رسائلنا الغرامية على ايقاع ” اهيم شوقاً “.
أم كلثوم تغني للجنود المصريين في الجبهة وترفع روح الفدائيين المعنوية فتغني لهم ” أصبح عندي الان بندقية الى فلسطين خدوني معكم “، وتهتف معها الجماهير ب “انا الشعب لا شيء قد أعجزه”.
أمثلة أوردتها كي يستحضر القارئ ما كنا نسمعه على الاذاعات المصرية عندما كانت مصر والمنطقة العربية بشكل عام تمر بظروف سياسية حالكة، وهذا لا يعني ان الغناء المصري كان مقتصراً على المصريين، ففيروز غنّت رائعة سيد درويش ” أهو دا الي صار وادي الي كان “، ولم يكن الغناء مقتصراً على الحرب والقتال بل جميعنا نعرف أن الحب قد غُنّي في مصر، هو والفراق والشوق والبعد، وكلنا نحفظ عن ظهر قلب تراتيل عبدالوهاب وأم كلثوم وأسمهان وعبدالحليم، كان ذلك الفن يتحدث عن وجه مصر الحقيقي وعن مختلجات شعبها ومعاناتهم اليومية، كان الغناء يحكي قصة حناجرالمصريين التي أنهكها العطش في التظاهر والسعي وراء لقمة العيش، كان الغناء يحقق معناه بأن يكون صوت الانسان المصري وشجنه يصل الى العالم على حقيقته.
أما الان، بينما كان الالاف من ابناء مصر يشتعلون – حرفيا – في ميدان رابعة العدوية، كانت اغنية بشرة خير يتم تحضيرها وتصويرها، بعيدأ عن الميدان طبعا، حيث يظهر الكليب وجه مصر البلهاء الراقصة على جثث أبناءها، بابتسامات ساذجة ورقص وطبل يخيل لك منه ان مصر في أوج قوتها وسعادتها ، وبدلاً من فيروز احتفلت نانسي عجرم بذكرى مجزرة رابعة الثانية بأغنية جديدة بعنوان ” عالبركة ” حيث تتدلى فيها قدما مصر كفتاة بلهاء تفتح فمها للهواء وتلهو بيديها، ويستمر ماراثون الفن المنافق بمنافسة بين المطربين المصريين الذين حرصوا على اظهار وجه مصر الغلبانة بس سعيدة – بطريقة ساذجة – بشقاءها وإنهاكها، ربما نستطيع التنبؤ ان السيسي سعيد جداً بهذه الأغاني، فهو بابتسامته السنيمائية وتعابيره الشكسبيرية في خطاباته يشعرك انه تولى سلطته بديموقراطية الصناديق وأن شعبه راضٍ تماماً عنه وعن انجازاته في محمد محمود والنصب التذكاري وقناة السويس الجديدة التي يحاول العالم للآن فهم الفائدة منها.
في مرحلتين من تاريخ مصر تمكن فيها العسكر من تغيير نظام الحكم، الأولى في ثورة الضباط الأحرار 23 يوليو 1952 بقيادة اللواء محمد نجيب، ومرة في الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق عبدالفتاح السيسي ضد الرئيس المُنتخب محمد مرسي في 3 يوليو2013، وبلمحة خاطفة للأغاني التي غُنيّت إبان ثورة الضباط نجد أن الموسيقار عبدالوهاب أنتج تحفة فنيّة لحنّها وغنّاها هو وكانت من كلمات الأخوين الرحباني، تقول الأغنية في مطلعها :
” طول ما أملي معايا معايا.. و فى إيديا سلاح
هافضل أجاهد و أمشي و أمشي من كفاح لكفاح
و طول ما إيديا فى إيدك أقوم و أهتف و أقول
حي حي على الفلاح”
وفي رائعة أخرى للموسيقار ذاته يقول :
” دقت ساعة العمل الثوري لكفاح الأحرار
تعلن زحف الوطن العربي بطريقه الجبار
والثوار هم الشعب والأحرار هم الشعب
عارفين المشوار
هى إرادة شعب إتحرر يوم تلاتة وعشرين
طلع الفجر عليه كان عارف هو طريقه منين “
أما عن السّت فقدمت لنا في عام 1952 أي إبّان الثورة نفسها أغنية ” مصر التي في خاطري “، تقول فيها :
“مصر التى فى خاطري وفى فمي
أحبها من كل روحي ودمي
يا ليت كل مؤمن بعزها يحبها
حبي لها
بني الحمي والوطن
من منكم يحبها مثلي أنا
نحبها من روحنا
ونفتديها بالعزيز الأكرم
من عمرنا وجهدنا
عيشوا كراما تحت ظل العلم
تحيا لنا عزيزة فى الأمم”
نستطيع أن نرى طبيعة الفن الذي ينتجه الشعب في الثورة الشرعية، يتغنى فيه بالشعب وإرادته وقدسية الأرض وإلتفاف أبناء مصر حول رايتها الحرّة، ولعقد مقارنة صلبة، نورد بعض الأغاني التي تلت ” الثورة ” الغير شرعية بقيادة عبدالفتاح السيسي في عام 2013 لنرى الفرق. أوبريت تسلم الأيادي الذي غنته ” نخبة ” من المطربين المصريين ” الشعبيين ” المعروفين بالغناء الهابط، والمعروفين كذلك بالتغنّي سابقاً بنظام المخلوع مبارك، فكأنها موجة من الرقّاصين والطبّالين تنتظر النتيجة مهما كانت للتغنّي بها، ففي “تسلم الأيادي” يظهر المغنوّن في الفيديو كليب وهم يتراقصون ويصفقون كأنهم في حفلة مولد، وتم إهداء هذا الأوبريت للفريق عبدالفتاح السيسي بكلمات من المغنى الشعبي مصطفى كامل، ينسب فيها الدماء التي بُذلت من أجل مصر لقيادة الإنقلاب وجيشه، الكلمات:
“تسلم الايادى
سلام يا جيش بلادى
آسالو الرمل الا فى سيناء
انت مروى بدم مين
دم حنا ولا مينا
ولا دم المسلمين
ابن عمى وابن خالى
وصحبى من عشرة سنين
تسلم الايادى
سلام يا جيش بلادى
تسلم الايادى”
وبعدها أتحفنا المطرب الإماراتي حسين الجسمي بوصلة رقص بعنوان ” بشرة خير ” يُظهر فيها وجه مصر المثالي الأبله، بعيداً عن الفقر والقتل والدماء التي سفكها السيسي داعياً الشعب المصري للتصويت لسفّاحه، وسرعان ما يبدأ الصعيدي و”ابن اخوه البورسعيدي ” والشباب ” الاسكندراني ” بالرقص والتطبيل لنشعر كم هي مصر سعيدة وخالية من كل المشاكل، ولننسى مجزرة محمد محمود والنصب التذكاري ورابعة العدوية، وننسى العشوائيات والفقر المدقع والأمية الضاربة جذورها في أبناء الشعب، فنرقص مهللين وفرحين أن مصر أخيراً حظيت بقائد جاء عبر الصناديق “الشرعية ” وبابتسامة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين تلهينا عن التعاون الخارجي المريب مع الإنقلاب، وترسخ في أذهان المشاهد العربي فكرة مصر الجوزة والكيف والرقص وشارع الهرم.