قامت الحدود الحالية لدول الشرق الأوسط على مفاهمات الدول الكبرى في القرن الماضي، حيث قسمت المنطقة باتفاقية سايكس سنة 1916 إلى كيانات لا مسوغ تاريخيًا أو جغرافيًا أو ثقافيًا أو قوميًا لإنشائها، اليوم وبعد أحداث الربيع العربي والحروب الأهلية التي نتجت عنه، يبدو الشرق الأوسط في تفاعلات داخلية وخارجية لإعادة رسم خريطة المنطقة وتصحيح هذه الحدود لتقوم مقامها أخرى ترسم بالدم في العراق وسوريا واليمن.
العراق: 3 دول في واحدة
“لا يمكن حلها إلا بحلها” أعلنها قوية القائد السابق للجيش الأمريكي متحدثًا عن العراق.
بهذا التصريح خرجت الخطابات السرية وأحاديث المكاتب المغلقة ودردشات الأروقة إلى العلن وباتت مسألة تقسيم العراق مطروحة على الطاولة، حسب القائد العسكري المتقاعد، بلغ منحى العلاقة بين السنة والشيعة خط اللاعودة حيث الطائفية هي المحرك الأساسي لكل الفعل السياسي والعسكري على الأرض، بل وتجاوزت ذلك لتنخر مؤسسات الدولة كافة معمقة بذلك الشرخ بين مكونات المجتمع، يبدو العراق وفقًا لهذا السيناريو متجهًا نحو تقسيم طائفي إثنى بين: الأكراد والعرب والشيعة والسنة، يخدم هذا التوجه الحلم الكردى بتكوين دولة خاصة بهم في شمال العراق وبغض النظر عن المعادلة الإقليمية والفيتو الذي تفرضه الجارتان تركيا وإيران لمنع قيام كيان كردي على حدودها، يبدو الأكراد مستعدين مؤسساتيًا ومجتمعيًا لإنشاء دولتهم.
الإقليم السني هو الحلقة الأضعف في المعادلة الجديدة؛ فالسنة يفتقرون لقيادة موحدة ومرجعية أو طيف سياسي يمثلهم، هذا بالاضافة لإقصائهم طيلة السنوات العشر الماضية وغيابهم عن دائرة التأثير السياسي، كما أن عملية تطهير الإقليم تبدو صعبة مع تغلغل داعش وتركيزه عاصمة الخلافة في الإقليم السني، وكونه أكثر المناطق المهيئة اجتماعيًا (نتيجة الإقصاء والتهميش) ودينيًا (نتيجة التقارب المذهبي) لتكون حاضنة للتنظيم، وفي غياب ظهير إقليمى يدافع عن السنة يبدو أن وضعهم سيكون الأصعب في حال حدوث التقسيم، الإقليم الشيعى والأوفر حظًا لطبيعته الجغرافية المطلة على الخليج العربي لن يجد إشكالاً في ظل وجود دولة إقليمية كإيران تدافع عنه ومراجع وقيادات شيعية تسيره إلا أن إمكانية تكوين جسم شيعي على الحدود السعودية مرهون بموافقتها على ذلك وهي التي تخوض الآن عملية عاصفة الحزم لمنع قيام ذلك على حدودها الجنوبية، تبقى الإشكاليات الكبرى في عملية التقسيم إن تمت مسائل ترسيم الحدود وتقاسم الثروات الطبيعية وأكثر من ذلك كله تجاوز أزمة الأقليات الموجودة هنا وهناك في هذا الإقليم أو ذاك.
اليمن: استحضار أزمة التسعينات
اليمن هي الأخرى ليست ببعيدة عن سيناريو التقسيم؛ فالذاكرة الشعبية الجنوبية لم تتجاوز ما حدث في التسعينات حين دخل صالح على ظهر الدبابات ليثبت وحدة اليمن، و لازالت قطاعات واسعة من الجنوبيين تعتبر الشماليين غزاة محتلين يدعم فكرتهم أن الحوثيين من الشمال، أغلب المقاومة الشعبية التي تقف في الصفوف الأولى من الحراك الجنوبي الداعي للانفصال، وموضوع مشاركتها في تحرير بقية اليمن إلى الآن لازال نقطة استفهام، حيث يرفع الحراك في كل مدينة تُحرر أعلام اليمن الجنوبي بدل علم اليمن ولوحظ ذلك على مباني الدولة وعلى مقدمة الدبابات والمدرعات المقاتلة، على صعيد آخر، ولتقليل الضغط عنهم وإحداث إرباك في صفوف المقاومة الشعبية، يسوق الحوثيون للدولة الجنوبية عبر وسائل الإعلام القريبة منهم ويتوددون لهم ويدعونهم للمطالبة بحقوقهم سرًا وجهرًا، يذكر أن محمد سالم البيض الرئيس الجنوبي السابق على علاقة طيبة مع إيران منذ تسعينات القرن الماضي.
إقليميًا تدعم الإمارات توجه الانفصال في محاولة لإقصاء غريمها الإخواني حزب الإصلاح من المشهد، وقد رفضت دعم المقاومة في تعز لتواجد أحد قادة الإصلاح على رأسها، وباختصار شديد، المعادلة الإماراتية تقول إن يسيطر الحوثيون على صنعاء خير من أن تدخلها قوة الإصلاحيين في مقدمة طلائع التحرير ، على صعيد آخر تتحدث أخبار عن غضب الرئيس اليمني عبد ربه منصور بعد زيارته الأسبوع الماضي للإمارات حيث وجد قيادات الجنوب مجتمعة للنظر في موضوع الانفصال، كما أكدت مصادر مقاربة من دوائر صنع القرار عن تفاهمات عقدها بحاح مع مسؤولين إماراتيين لتقسيم الجنوب وتسوية تكفل مخرجًا لصالح والحوثيين بإشراف أمريكي.
رغم كل التحليلات والتنبؤات وما تذكره وسائل الإعلام ومراكز البحوث والدراسات تبقى مسألة الانفصال رهينة بتطور الأمور على الميدان، وبمدى سيطرة السعودية على العملية التي أطلقتها خاصة وأنها حذرت من أن أي محاولة لتقسيم اليمن من أي مكون يمنى ستتعامل معها االمملكة كما تتعامل مع الحوثيين وأن بيان الرياض الذي جمع كل القوى اليمنية ينص في أحد بنوده على وحدة اليمن.
سوريا: ملعب القوى الإقليمية
سوريا أصبحت اليوم رقعة شطرنج تحرك بيادقها أيادي القوى الإقليمية وتحدد مصيرها التفاهمات العالمية.
تركيا التي تحتظن أكثر من 2 مليون لاجئ ما مثل عبئًا عليها تسعى لإنشاء منطقة عازلة في حلب تكون موطن اللاجئين الذين يتواجدون على أراضيها، مركز انطلاق للمعارضة، ومنطقة تحميها من عمليات داعش على حدودها.
وقد بدأت علامات نشوء هذه المنطقة تبرز مع الاتفاق الأمريكي التركي الذي يقضي بفتح قاعدة إنجرليك وانسحاب جبهة النصرة من مناطق في حلب وتسليمها للمعارضة.
هذه المنطقة الشمالية تمثل النواة الأولى للإقليم الأول في سوريا، الإقليم الثاني هو إقليم كردى بامتياز مركزه كوباني وعفرين وما جاورها، وقد استطاعت وحدات حماية الشعب إقناع الولايات المتحدة بقدرتها على دحر داعش ما مكنها من تسلم أسلحة متطورة وتعزيزات نوعية، ورغم تأكيدها مرارًا وتكرارًا على تمسكها بوحدة سوريا، تبدو الممارسات مختلفة تمامًا على الأرض، حيث قامت وحدات حماية الشعب بتهجير أكثر من 8 آلاف من التركمان والعرب من المناطق التي حررتها من داعش في محاولة لتغيير التركيبة الديمغرافية، على صعيد آخر، تتقدم داعش التي تسيطر على أكثر من ثلث سوريا يومًا بعد يوم، معلنة عن قيام إقليم لا يعرف أحد أين يمكن أن يقف أو حدوده المحتملة.
يبقى النظام بدعم إيراني روسي مسيطرًا على دمشق ومنطقة الساحل معلنًا أنها خط أحمر، ومما يؤكد بداية الاعتماد الفعلي على سياسة الأقاليم، اشتراط إيران وحزب الله على أحرار الشام في إطار المفاوضات التي جرت مؤخرًا انسحاب المدنيين من الزبداني إلى حلب وانتقال شيعة الفوعة وكفريا إلى الزبداني في محاولة لتوطينها بالشيعة والعلويين وتغيير التركيبة السكانية، في خضم كل هذا ترقب إسرائيل من الخلف، محاولة إذكاء نار الصراعات التي تخدم مصالحها الإستراتيجية في تقسيم دول جوارها.
ومهما كانت نتيجة المفاوضات السياسية أو المعارك على الأرض فإن سوريا لن تعود سوريا التي كانت عليها نتيجة الانقسام المجتمعي الذي عاشته طيلة هذه السنوات الأربع.