ترجمة وتحرير نون بوست
تصف الكاتبة السورية سمر يزبك تنظيم داعش بأنه “الشيطان الأكبر على الإطلاق” و”الاحتلال” الذي تم خلقه نتيجة لوحشية نظام الأسد وفشل المجتمع الدولي في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعاجلة الوضع السوري، فمقاطع الفيديو الهوليوودية الوحشية التي ينشرها داعش احتلت الصفحات الأولى للصحف الغربية، لدرجة تم معها نسيان المجازر البشعة المرتكبة من قِبل النظام، “الإحصاءات الرسمية تشير إلى مقتل حوالي ربع مليون سوري ولكن على أرض الواقع العدد وصل ربما لأكثر من نصف مليون نسمة، جميعهم قتلوا على يد النظام، ولا أحد في العالم بأسره ينشر أو يتحدث عمّا يرتكبه بشار الأسد”، تقول يزبك.
هذه التعليقات وأمثالها أكسبت يزبك سمعة بكونها أحد أشد منتقدي ليس نظام بشار الأسد وحسب، وإنما جميع الفصائل المسلحة المختلفة التي تنحرط اليوم في الصراع السوري، علماً أن معارضة يزبك لحكومة الأسد سابقة على تاريخ 2011 وتضرب بجذورها عميقاً إلى ما قبل اندلاع الثورة، ولكن مشاركتها في الانتفاضة الشعبية أسفرت عن مصيرها الحالي، المنفى في باريس.
عندما انتقلت في بادئ الأمر إلى فرنسا، كانت يزبك تظن بأنها ستقيم هناك لمدة ثلاثة أشهر فقط حتى رحيل الأسد عن السلطة، لتعود بعدئذ إلى ديارها، ولكن بعد أربع سنوات لا يزال الأسد متشبثاً بالسلطة، ولا تزال يزبك في شقتها بباريس.
خلال هذه الفترة، عادت يزبك إلى وطنها ثلاث مرات، عابرة الحدود التركية باتجاه الشمال السوري بعيداً عن مناطق سيطرة قوات الأسد، وفي الداخل السوري التقت بأطفال يانعين نُسفت أطرافهم نتيجة لشظايا القذائف المتفجرة، وتعرفت على مأساة الأطباء الذين يرزحون تحت وطأة نقص الإمدادات الطبية، والعائلات التي تختبئ في حجر المخازن القديمة بمجرد اقتراب صوت القصف من منازلهم، وعمدت حينها إلى نسج خيوط قصص هؤلاء الأشخاص معاً لتؤطرها ضمن كتابها الأخير “المعبر: رحلتي إلى قلب سورية المحطم”، الذي توفر فيه للقارئ صورة عن الحياة على الأرض في البلد الذي أصبح الآن من أكثر بلدان العالم خطورة، ويشكل الكتاب نظرة من الداخل السوري الذي لا يجرؤ سوى حفنة قليلة من الصحفيين على الدخول إليه.
من السهل أن نحصل على انطباع بأن يزبك ضمن كتابها تسرد قصص الآخرين بأريحية أكبر مما تسرد به تجربتها الخاصة ضمن إطار الحرب السورية؛ فيزبك التي ولدت في جبلة منحدرة لعائلة علوية، وهي ذات الطائفة التي ينتمي إليها الأسد، أكسبتها معارضتها للنظام السوري صفة “الخائنة” في بعض الدوائر المقربة لها ضمن أسرتها، كون العلويين وقفوا بشكل تقليدي مع الحزب الحاكم، ولكن مناقشة آثار الحرب على عائلتها هو “خط أحمر”، كما تقول، وتكتفي بالتعليق بأن الصراع السوري بشكل عام خلق انقسامات كبيرة بين العائلات في “انقسام اجتماعي غير مسبوق ولم يُشهد له مثيل منذ بداية تاريخ سورية”.
على أرض الواقع، التفرقة تطفق في كل مكان، ممزقة العلاقات، الهويات، الطبقات الاجتماعية، والطوائف، وفي البداية، كما تقول يزبك، لم يتميز المشهد السوري بالخطاب الطائفي، لذا لم تكن تخفي جذورها العلوية، ولكن مع انتشار المشاعر الفئوية والطائفية اضطرت إلى إخفاء هويتها عندما عبرت الحدود إلى الداخل السوري، وتعتقد يزبك بأن خطوط الصدع الطائفية ظهرت في عام 2012 عندما وصلت الجماعات الجهادية إلى سورية، ووصفوا أولئك الذين لم يتماشوا مع أيديولوجيتهم بـ”الكفار”، ولكن في نهاية المطاف، تحمّل يزبك الأسد مسؤولية انتشار الطائفية، لأنه في ظل حكمه حافظ على انفصال المجتمعات عن بعضها البعض، وتركها تمقع من جهلها وفقرها، وآثار هذه السياسة ظهرت الآن على السطح “الشعب السوري لا يعرفون بعضهم البعض بشكل جيد”، تقول يزبك.
في كتابها “المعبر”، تُعرّف يزبك القرّاء في وقت مبكر على ميسرة ومحمد، وهما المرشدان اللذان رافقاها في رحلتها ضمن الداخل السوري، وكالكثير من السوريين الآخرين، باشرا احتجاجاتهما بطريقة سلمية ضد نظام الأسد، ولكنهما انضما لاحقاً إلى المقاومة المسلحة، كون الانتفاضات المدنية أصبحت أثراً دارساً من الماضي “لا أستطيع أن أقول بأنه يوجد احتجاجات سلمية الآن، لأنه لا يوجد فرصة على الأرض لممارسة الاحتجاج السلمي، فإذا خرجت للاحتجاج وتم قصفك بالصواريخ، كيف ستحتج سلمياً بعدئذ؟ وكيف يمكنك أن تتابع مسارك السلمي؟” تتسأل يزبك، في إشارة إلى الحملة العنيفة التي شنها بشار الأسد ضد المتظاهرين السلميين.
“لقد حاولوا الخروج بمظاهرات سلمية، ولكن توجب عليهم أن يحملوا السلاح، وعندما يتجه الشعب إلى السلاح، يبدأ آخرون بتحقيق الربح، ويصبح الأمر تجارة أسلحة، فبعض الأشخاص يريدون للحرب أن تستمر حتى يتمكنوا من تحقيق الربح وليصبحوا أمراء حرب، وبهذه الطريقة انجرفت الثورة عن مسارها الديمقراطي، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد أشخاص في سورية ما زالوا يعملون بهدف تحقيق المسار الديمقراطي، ومجرد كون أصواتهم غير مسموعة، أو كونهم غير مدعومين، لا يعني بأنه لا يوجد سوريون ما يزالون يؤمنون بالديمقراطية، وبسورية المدنية”.
سابقاً، أشارت يزبك إلى أن المرأة السورية كانت من بين أول المحتجين ضد النظام، وفي كتابها “المعبر” تشير إلى أن المرأة كانت أيضاً “أول من يدفع الثمن في هذه الحرب”، وفي خضم مناصرتها الطويلة لحقوق المرأة، أسست يزبك لمبادرة مجتمع مدني تدعى “النساء الآن من أجل التنمية”، والتي تساعد النساء على تحدي التطرف الذي يواجههن من خلال التعليم، وتساعدهن على بدء أعمال تجارية صغيرة تمكنهن من تحقيق بعض الاستقلال المالي.
خلال آخر عبور لها نحو الداخل السوري، ساعدت يزبك زوجة أحد الشهداء على تأسيس مشروع صغير لبيع منتجات التنظيف من منزلها، حتى تتمكن من إعالة نفسها بدلاً من الزواج من مقاتل يمني مقابل المال، “المرأة السورية في حالة يرثى لها، ولكنها لا تزال تعمل” تقول يزبك، وتضيف “نحن الذين غادرنا البلاد، وأنا مستاءة حقاً لاضطرارنا للمغادرة، يجب أن نكون جسراً وصوتاً للشعب السوري، فوضع المرأة سيء للغاية، والمناطق التي نعمل بها لا تزال تتعرض للقصف، إنهم يستخدمون الأسلحة، القنابل، البراميل المتفجرة، الصواريخ، والقنابل العنقودية، إنهم يدمرون كل شيء”.
تشير يزبك إلى أنه في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة الإسلامية المتشددة، لا تتمتع المرأة بالحياة، وتضيف موضحة “لم تعد المرأة جزءاً من الجمهور، إنها تتعرض لكافة أشكال الاستغلال والانتهاك، ظروف المرأة السورية هي تماماً كظروف الشعب السوري، ولكن تبعاً لكونها إمرأة فإن ظروفها أصبحت أسوأ بشكل أكبر، وذلك عائد لكون الإسلاميين يعتقدون بأن المرأة عورة، ولا ينبغي لها أن تظهر على العلن، هم يعاملون النساء معاملة غير إنسانية، ويسيؤون تفسير وتطبيق قواعد الإسلام مشكلين قواعدهم الخاصة، لذلك فإن النساء في الداخل السوري يعانين بشدة”.
قصص النساء في سورية اللواتي يتم اغتصابهن، واسترقاقهن، وحرقهن أحياء، صدمت الكثيرين بالتأكيد، وكذلك فعلت الممارسات البشعة الأخرى التي انتهجها على مر الزمن المتشددون الإسلاميون، وهذا الحنق وصل إلى مداه في سبتمبر من العام الماضي عندما أعلن أوباما عن شن حملة قصف مفتوحة ضد هؤلاء، ولكن على الرغم من الغضب الذي ينتاب يزبك من ممارسات داعش، بيد أنها لا تزال متشككة من حملة التحالف الدولي، حيث تقول “هل سبق لك وأن سألت نفسك هذا السؤال: لماذا لا يقوم التحالف بقصف داعش ويقضي عليها نهائياً؟”، وتتابع قائلة “التنمية، القانون، العدالة، التعليم، القضاء العادل، فرص العمل، هذه هي الطريقة التي نكافح بها الإرهاب، وليس عن طريق تحويل سورية إلى مسرح جريمة، وحشد المسلحين من مختلف المشارب هناك، وثم تشكيل تحالف دولي في وقت لاحق يُفترض به أن يحارب داعش، هذا التحالف قائم على صفقات أسلحة مربحة ما بين البلدان الغنية، والتي تعمل على تحويل الدول الفقيرة إلى حمامات دم”.
بالإضافة إلى ذلك، ترى يزبك بأن إدارة أوباما اتخذت موقفاً متناقضاً بالنسبة لسورية؛ ففي أغسطس 2013 أكد مفتشو الأسلحة الدوليون بأن غاز الأعصاب السارين تم استخدامه في دمشق من قِبل نظام الأسد، وهي المجزرة التي أزهقت أرواح المئات في ضواحي دمشق، وكان أوباما قد تعهد في وقت سابق بأن هذا “خط أحمر” ومن شأنه أن يحرض على تدخل الولايات المتحدة في سورية، ولكنه لم يف بهذا الوعد.
“هناك تدخل إيراني وتدخل أمريكي، ولكن كل شيء يصب بصالح الأسد، ألا تظن بأن تورط حزب الله في سورية هو تدخل؟، وعندما تسمح تركيا بمرور جميع المقاتلين عبر حدودها، أليس هذا تدخل؟ وعندما يتم دعم الجماعات المسلحة في الوقت الذي يتم فيه اغتيال قادة الجيش السوري الحر وحرمانهم من الأسلحة، أليس هذا تدخل أجنبي؟”
تتوقع يزبك بأن الصراع على الأرض السورية سيبقى متعادلاً، لأنها ترى بأن المجتمع الدولي ليس لديه أي نية بوقف إراقة الدماء، حيث تقول “نحن في انتظار اتفاق الدول الكبرى حتى نعرف ماذا سيحل بشعبنا، وهذا هو الجزء الأكثر إيلاماً من القضية، فالمسألة ليست بأيدينا، ومصيرنا يتم تحديده من قِبل الآخرين”، وتردف مضيفة في وقت لاحق “لا يمكن تدارك الفجوة الاجتماعية والأسرية والدينية في سورية إلا في حال أخذت العدالة مجراها”، وهذا يعني إحضار الأسد ونظامه للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، ومحاكمة القتلة والمجرمين ومرتكبي المجازر الطائفية.
أخيراً، تأمل يزبك بأن يساعد كتابها الجديد على إحداث التغيير مهما كان طفيفاً، فبعد كل شيء، وكما تقول “الكتّاب يجب أن يكونوا جزءاً من التغيير”، وإجابة لنا على سؤالنا حول الرسالة التي تسعى لإيصالها من خلال الكتاب، تقول يزبك “أنا لا أريد الكثير، أريد للعالم أن يعرفوا بأن ما حدث في سورية كان ثورة، ثورة شعبية، مدنية، وديمقراطية، قامت بها أمة حاولت أن تنادي طلباً للحرية”.
المصدر: ميدل إيست مونيتور