إنه عام 2007، وأنا مازلت أدرس في المرحلة الجامعية في جامعة طهران، أنا دقيق جداً، وأدون ملاحظاتي بأقلام ستادلر الملونة، واستعمل بالذات اللون البنفسجي والأخضر، وفي أحد الأيام نفد مخزوني من هذه الأقلام التي أبقيها في مكتبي بالمنزل، وقبل الغداء، ذهبت إلى مكتبة قرطاسية صغيرة بجانب كافيتيريا الجامعة اعتادت أن تخزّن كميات صغيرة من هذه الأقلام، “لقد نفد مخزوننا” قال فريد، الشاب الكردي الذي يعمل في المكتبة، وتابع “قال لنا المورِّد بأنه لن يتم استيراد هذه الأقلام بعد الآن على الإطلاق”.
“ولكن لماذا؟” سألته مستغرباً، وأجاب “يقولون بسبب العقوبات، ولكنني لست متأكداً”، “العقوبات؟ وما دخل العقوبات بالأقلام؟” استفسرت متفاجئاً، وأجابني الشاب بهزة خفيفة بكتفيه دليلاً على الحيرة التي وقع بها.
الآن، وبعد ثماني سنوات، تبدو الأمور أكثر وضوحاً، ففي عام 2007، كنا ندخل ببطئ في حقبة حرمان عنيفة، ناجمة عن تشديد العقوبات المستمرة التي فرضها مجلس الأمن الدولي، والتي ستصبح بعد حين أسوأ حالة تعطل للحياة الإيرانية منذ الحرب الإيرانية – العراقية التي شهدتها في طفولتي.
الآن، وبعد حوالي عقد كامل من العقوبات، تم توقيع الاتفاق النووي بين إيران ودول الخمسة زائداً واحداً، وهو الاتفاق الذي يَعِدُ بوضع حد لحالة الخنّاق التي كنا نعاني منها؛ وبمستقبل أكثر إشراقاً لإيران، ومازال علينا الانتظار الآن لنرى إن كان ذلك صحيحاً أم لا.
العقوبات صاغت حياتي منذ نعومة أظفاري
أولئك الذين ولدوا بعد الثورة عاشوا حياتهم أغلبها في ظل العقوبات؛ ففي أعقاب الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر 1979، فرضت الولايات المتحدة الجولة الأولى من العقوبات ضد إيران، وباستثناء الفترة الوجيزة الممتدة من 1981 وحتى 1984، لم يتم رفع هذه العقوبات، وفي مارس 1995، وقع الرئيس بيل كلينتون أمراً تنفيذياً يقضي بتوسيع نطاق الحظر بشكل كبير، ومنع الشركات الأمريكية من التعامل مع إيران.
ولكن على الرغم من صعوبة القيود التي فُرضت في تسعينيات القرن الماضي، كانت الحياة لا تزال أسهل بكثير مما كانت عليه في العقد الماضي، وهي الحقبة الإيرانية التي عشت فيها طفولتي.
عندما كنت طفلاً، كانت الطوابير الطويلة التي تصطف للحصول على السلع الأساسية هي أمر روتيني جداً ومعتاد في حياتنا، وخلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، اشترى والداي كل شيء، الخبز والجبن واللحوم، باستخدام القسائم، وكانت بعض الأمور مثل الورق، المماحي، جوارب النايلون النسائية، هي أمور غالباً ما يصعب الحصول عليها، وعندما تزوج والداي وانتقلا إلى منزلهما لأول مرة في أوائل الثمانينيات، كان من شبه المستحيل تجهيز المنزل بالأدوات المنزلية الأساسية، وهو الوضع الناجم عن اجتماع الحرب مع العقوبات الأجنبية، اللذان نجم عنهما توقف الواردات والإنتاج المحلي على حد سواء، فعلى سبيل المثال، وبغية الحصول على ثلاجة للمنزل، قدّم والداي عقد زواجهما لمسجد الحي، والذي كان يعمد لأخذ عقود الزواج، ليحاول تأمين اللوازم المنزلية الضرورية للأزواج الجدد الذين يعيشون في الحي، وبعد هذا بسنوات قليلة كان مولدي.
لم يصل الهاتف الأرضي إلى منزلنا حتى أصبح عمري 4 سنوات، وعندما كان عمري 5 سنوات اشترينا أخيراً أثاثاً للمنزل مؤلف من طاولة وكرسيين، وطوال فترة الحرب سمعنا أخباراً عن شباب يافعين لقوا حتفهم على الخطوط الأمامية، وعائلات قضت بأكملها جرّاء القنابل، ولفترة من الوقت، أصبحت تفجيرات الشوراع أمراً متكرراً في حيّنا، وعندما كان يغادر والدي المنزل في الصباح، كانت والدتي تبقى متوجسة حتى حلول الظلام، خوفاً من أنه لن يعود.
ولكن بحلول الوقت الذي أصبحت فيه طالباً بالجامعة، كانت الحرب قد انتهت منذ فترة طويلة، وعلى الرغم من استمرار العقوبات، استطاع الإيرانيون إيجاد ثغرات ووسائل بديلة للحصول على ما يحتاجونه، وباختصار الفترة الأسوأ من الحرمان أصبحت حينها من الماضي، وأنا وزملائي جميعاً اختبرنا وعرفنا معنى الحياة الصعبة، ومازلنا نستذكرها، ولكنها أصبحت قصة أو رواية نرويها بلا كلل أو ملل أو صعوبة عندما نجتمع سوياً حول طاولة العشاء.
الوضع كان بتحسن مطرد لولا أحداث 11 سبتمبر
مع أنني لم أدرك ذلك إلا بعد سنوات، بيد أن أحداث 11 سبتمبر كانت اليوم الذي بدأ فيه الصعود الإيراني الذي حدث على مدى عقد من الزمان بالانهيار، وعلى الرغم من عدم وجود ما يثبت التورط الإيراني بالهجوم، بيد أن الغرب ضاعف عزلتنا باطراد، وعندما تم اكتشاف المصنع السري لتخصيب اليورانيوم في ناتنز في عام 2002، تم تكثيف الجهود الساعية لعزل إيران، حيث تم وضعنا على لائحة “محور الشر” التي ابتدعها جورج دبليو بوش، ومن ثم حوصرنا من خلال غزو الولايات المتحدة لأفغانستان الواقعة شرقاً والعراق الواقعة غرباً، وفي عام 2005، استطاع رئيس بلدية طهران السابق المحافظ محمود أحمدي نجاد، هزيمة الإصلاحيين في الانتخابات الرئاسية، وتسلم دفة الحكم في البلاد؛ مما أدى إلى تزايد نظرة الازدراء العالمية، وتحوّلت الحياة لتصبح أشد صعوبة.
كان من الصعب علينا للغاية التأقلم مع التغييرات التي تم إحداثها في تلك الفترة، حيث تم استبدال عناصر الأمن الجامعي الذين كنا معتادين عليهم، وكانوا بالغالب من شباب المحافظات، بعناصر حراسة صارمي المظهر لم نلتق بهم قط، كما أن كافتيريا الجامعة، حيث اعتدنا أن نجلس دائماً معاً لتناول الطعام، أصبحت مقراً لتطبيق الفصل ما بين الجنسين من خلال وضع ستارة زرقاء طويلة تقسم مكان جلوس الرجال عن النساء، كما سمعنا عن أساتذة جامعيين تم إجبارهم على التقاعد، وتم احتلال أماكنهم من قِبل أشخاص مجهولين مقربين من الإدارة رغم أنهم غير ملائمين أكاديمياً لشغل هذه المواقع.
كطلاب، لم نكن نشعر بأن أحمدي نجاد كان يمثلنا، وبذات الوقت لم نكن نشعر بأي ألفة أو تقارب مع الولايات المتحدة، كون الأول أحضر لنا موظفي أمن جدد إلى الجامعة، والثانية وضعتنا لعقود تحت الحصار، كنا نعرف عيوب بلادنا، ولكن من خلال النقاشات التي كنا نخوض بها لسنوات عديدة ضمن الكافتيريا، لم نكن نستطيع أنا وأقراني أن نبرر سبب خصنا واستفردانا بهذه العقوبات دوناً عن باقي الدول، ولماذا بدا العالم ببساطة وكأنه يمقتنا ويكرهنا.
في ذاك الوقت كنا نرى نجاد وبوش وجهان لعملة واحدة، سواء بخطابهما أو بممارساتهما، فكلاهما شوها صورة وهيبة شعوبهما في عيون العالم، ولكن سلوك الرئيس الأمريكي المحرج لم يُقابل بحظر كامل لبلده من الوصول إلى الغذاء والدواء، وعلى الرغم من دفعنا جميعاً لثمن عدم اكتراث أحمدي نجاد، بيد أن الإدانة الدولية لإيران تنامت وتوسعت.
في البداية حاولنا التركيز على التعلم، أو على تحسين درجاتنا، أو على الحب أو الفن أو الحياة، ولكن هذا كان صعباً للغاية، وحينئذ كان يزعم بعض المحللين، وما زالوا يزعمون حتى الآن، بأن العقوبات أضعفت الدعم الشعبي الإيراني تجاه الدولة، ولكن هذه النظرة لا تمثل كامل الحكاية، ولم نكن نشعر بأن هذا الزعم حقيقي على الأقل بالنسبة لي ولأترابي، بل لو كان هناك حقيقة واحدة تبدو صحيحة حينئذ، فإنها تتمثل بأننا بدأنا نردد ما كانت تقوله دولتنا: لماذا تُتبع سياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع إيران؟
في ديسمبر من عام 2006، توقفت حياتنا عن الاستمرار بشكل مفاجئ، وحينها رفضت حكومتنا مواصلة تنفيذ أجزاء من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وحدّت بشكل كبير من حقوق تفتيش موظفي الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضمن إيران، وتكررت هذه الحادثة مرة أخرى في مارس 2007، أكتوبر 2007، ومارس 2008، وانتقم مجلس الأمن حينها من إيران من خلال تكثيف العقوبات المفروضة عليها.
هذه الحظر الجديد أغلق بشكل فعّال جميع الثغرات التي سمحت للإيرانيين الاستمرار بحياتهم على مدى السنوات الـ10 الماضية، وبعد تطبيق هذه القرار لم نعد قادرين على شراء السلع التي كنا نستطيع الوصول إليها بسهولة سابقاً، وتم تخفيض عدد الرحلات الجوية إلى إيران أو توقيفها تماماً من قِبل شركات النقل الدولية، كما أن الصحف التي استطاعت أن تنجو رغم كل صعاب الحصار تهددت بالتوقف بسبب تكاليف الورق الباهظة، فضلاً عن أن صادرات النفط الإيرانية التي كانت تساهم بنسبة تتراوح بين الـ60% إلى الـ80% من عائدات البلاد، توقفت فجأة بعد أن رفضت أوروبا والولايات المتحدة شراء المنتجات النفطية من إيران.
داخل حدود الدولة، بدأ رجال غرباء لا يتمتعون بأي خبرة إدارية حقيقية بتشديد قبضتهم على جميع قطاعات الدولة تقريباً، كالاقتصاد، والفضاء الثقافي، وحتى منظمة التراث، وهي الهيئة الحكومية المسؤولة عن الحفاظ على المواقع التاريخية، وبدأت السياسات الرجعية لإدارة أحمدي نجاد المتلازمة مع العقوبات القاسية الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية، تصيب الدولة بالشلل التام.
لم ينج أحد من العقوبات الجديدة، ولا حتى مرضى السرطان
الآثار التي عكستها العقوبات على الأوساط الأكاديمية كانت مدمرة للغاية، حيث كنا نعاني من شح بجميع أنواع المعدات التقنية اللازمة للبحث، ولم يُسمح للجامعات في جميع أنحاء البلاد بتجديد اشتراكاتهم في المستودعات التي توفر مواد البحث، حتى في مجالات الطب والعلوم الإنسانية، كما أن منصة كورسيرا، وهي منصة على الانترنت تقدم دورات مجانية ومفتوحة، لم يعد من الممكن الوصول إليها من شبكة الإنترنت الوطنية، وفضلاً عما تقدم تم إغلاق الباب أمام الطلاب الإيرانيين لإجراء البحوث والمساهمة في المنح الدراسية حول العالم.
في الوقت الذي كان فيه جزء يسير من خريجي جامعة طهران يبقون في إيران للعمل، أثارت العقوبات الجديدة موجة نزوح جماعي وسط أصحاب الشهادات الجامعية، فلا أحد تقريباً أصبح يختار البقاء بعد إنهائه للدراسات الجامعية، وكنا نشعر بأن الأبواب أُغلقت دوننا في كل مكان حولنا، وبعد أول خيبة أمل لي في مخزن القرطاسية عند طلبي للأقلام الملونة، اختفت من السوق تدريجياً، وفي غضون أشهر معدودة، جميع أداوت الكتابة والرسم التي اعتدت على استعمالها.
تأثير العقوبات خارج المجال الأكاديمي كان أسوأ للغاية، حيث لم يعد من الممكن العثور على الفيتامينات في الأسواق، والمكملات الغذائية التي تستعملها والدتي تبخرت، وكذلك الفوط النسائية وخلطات الأطفال الأجنبية الصنع، وفي كل صيدلية مررنا عليها للسؤال كنا نصطدم بذات الإجابة: لم يعد يتم استيراد المادة الذي تريدها بسبب العقوبات، حتى أن قطرات العين الألمانية الصنع التي يستعملها جدي اختفت من الأسواق، والبديل الإيراني الصنع كان يحرق العيون.
الأهم من ذلك كله هو أن أدوية السرطان الضرورية أصبحت نادرة بشكل كبير، وبين عامي 2011 و 2014، وبينما كنت أزور أقاربي المرضى، التقيت بالمريض إثر المريض في المستشفيات ولاحظت أن جميعهم أصبحت حالتهم حرجة بسبب تأخر العلاج.
“هل يتوقعون مني أن أبيع منزلي لشراء الدواء؟ ومن ثم ماذا سأترك لعائلتي؟ فأنا سأموت بجميع الأحوال”، هكذا تسآل رجل طويل القامة، ذو شعر فضي التقيته بالمشفى في أحد الأيام، وكان قد بدأ لتوه العلاج الكيميائي، بعد أشهر من الوقت المحدد له، وفعلاً توفي في غضون أسابيع من ذلك.
حينها بدت المصائب وكأنها تأبى أن تأتي فرادى، حيث ارتفعت معدلات الإصابة بالسرطان بشكل غير مسبوق في إيران، وبعض الأطباء كانوا يلومون البنزين المحلي الجديد المنخفض الجودة المنتشر بالأسواق الإيرانية لتسببه بارتفاع معدلات السرطان، وعلى الرغم من أن طهران لطالما عانت من مشكلة تلوث الهواء، بيد أن هذا التلوث بدأ يشهد مستويات غير مسبوقة، وفي بعض الأحيان، وأثناء نظرك إلى الضباب الرمادي والأخضر الممتد ليغطي كامل المدينة، يصبح التنفس أمراً مستحيلاً.
أما على الجانب المالي، فلقد تم إخراج البنوك الإيرانية من جمعية سويفت (SWIFT)، وهي جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، مما أدى إلى قطع الاتصالات المالية بين إيران والدول الأخرى، والقطاع الخاص تضرر بشكل ساحق، حيث تضررت صناعات النسيج والسيارات بشكل خاص، نتيجة لتوقف بعض المنشآت عن العمل بشكل تام، وعلى صعيد الصناعات، أصبح الحصول على قطع الغيار للآلات، أو طلب صيانة لها، أمراً باهظاً للغاية، ومستحيلاً في بعض الحالات، وفضلاً عما تقدم، أهم الصادرات غير النفطية في إيران، والمتمثلة بالسجاد اليدوي العجمي والفستق الحلبي، بدأت بالتراكم ضمن المستودعات.
تكاتفت جميع هذه الأوضاع لتدفع الاقتصاد الإيراني نحو السقوط الحر، حيث أدت العقوبات الجديدة إلى وصول التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، 40% وفقاً لبعض التقديرات، وهو ما تسبب بدوره بالارتفاع المفاجئ في أسعار السلع الأساسية مثل الحليب والزيت النباتي، كما أن بعض البضائع الأساسية كانت متوفرة فقط في السوق السوداء، وليس هناك أي وسيلة، رسمية أو غير رسمية، لمعرفة مدى سوء حالة التضخم التي وصلت لها البضائع داخل هذه الأسواق.
ربما قد تمنح لكم الأزمة المالية الأمريكية التي حصلت في عام 2008 نافذة للشعور بما كان عليه الوضع في إيران، المقتنيات المالية للسكان تتهاوى خلال أيام، والمدخرات التي عانى الشعب لتجميعها في السنوات العجاف تبخرت في غضون أشهر؛ فوالداي اللذان أمضيا العقد الأول من زواجهما في حالة الحرب، أنفقا السنوات الـ15 اللاحقة في محاولة للاستفادة من الوقت الضائع، للتعويض عن جميع سنوات الحرمان التي عشنا ضمنها، ولكن في غضون أشهر، لم يتبقَ أي شيء تقريباً من الجهد الذي بذلاه طوال تلك الفترة.
عندما كنا نجتمع على طاولة العشاء، كنا نتحدث عن فترة الحرب، وكيف كان علينا أن نعيش معتمدين على حصص الإعاشة، وكيف استطعنا النجاة بتلك الموارد الشحيحة، وكنا نشعر بالفخر والاعتزاز عندما نتذكر قناعتنا بالنذر القليل حينها، وكيف كنا جميعاً نخوض في تلك الأوقات الصعبة سوياً.
ولكن هذه المرة لم تكن الأوضاع تمثل صراعاً جماعياً، فتحت وطأة العقوبات، استطاع الأشخاص الأشد مكراً ودهاءاً وانحلالاً أخلاقياً استغلال الحرمان الذي يعاني منه الآخرون لجني الأرباح، حيث كانوا يعملون كوسطاء وسماسرة، ويثرون على حساب احتياجات المواطنين وعوزهم، هؤلاء الرجال أصبحوا من الأثرياء، ولكن على حساب الناس العاديين الذي تألّبوا ضد بعضهم البعض، مما أدى إلى إحداث شرخ عميق في الحياة الأخلاقية والاجتماعية، وعلى سبيل المثال، أثناء الحرب، لم أكن أستطيع أن أطلب من والدي أن يشتري لي ذات الدمية الجميلة التي اشتراها زميلي، لأن جميع الأشخاص ببساطة كانوا يملكون، أو لا يملكون، ذات الأشياء، ولكن في ظل العقوبات، شهدت كيف كان يتم لوم أعمامي من قِبل أطفالهم لأنهم لم يدفعوا لبعض الوسطاء ليشتروا لهم ذات اللعبة الجديدة والبراقة التي حصل عليها بعض زملائهم.
الصفقة النووية جلبت الأمل، والتشكك أيضاً
في عام 2013، تم انتخاب الرئيس حسن روحاني بغية وضع حد لهذه الحلقة المفرغة، ولجلب السياسة التعقلية والمنفتحة إلى المشهد السياسي الإيراني، وعلى الرغم من العقبات الضخمة التي كانت تنتظره داخل وخارج إيران، بيد أنه نجح حتى الآن في تحقيق ذلك.
في 14 يوليو 2015، تم الإعلان عن صفقة بين إيران والقوى العالمية الست الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، حيث قيل لنا بأنه مقابل الحد من برنامجنا النووي، وإجراء عمليات تفتيش صارمة على منشآتنا النووية، سوف نرى نهاية لحقبة العقوبات.
وفي تلك الليلة رأيت جدي، الذي عايش الحرب العالمية الثانية، الثورة الإسلامية، الحرب، وسنوات العقوبات، وعندما ناقشنا الأخبار، ابتسم، ونظر في الأفق، مردداً بيتاً من قصيدة “نحن لسنا سوى أوراق شجر ترقص في مهب الريح”.
ليلة الإعلان عن الاتفاق، طفقت أقود سيارتي في شوارع طهران، محاولاً تقصي شعور المدينة تجاه هذا الحدث، وفي شارع ولي عصر، المعروف بكونه أطول شارع في الشرق الأوسط، حيث يخترق المدينة من شمالها إلى جنوبها، كانت أشجار الجميز الطويلة تغطي كامل امتداد الطريق، ولكنها الآن تنمو فقط في شمال ولي عصر، أي في أحياء طهران الأكثر ثراءاً، وفي ذلك المكان تجمعت الحشود، وأغلقت الاحتفالات حركة المرور، الناس خرجوا من سياراتهم، وصوت الموسيقى والصفارات والتصفيق ارتفع عالياً فوق الأشجار المتطاولة في ظلام طهران الدامس.
هناك، وفي هذا الحي الغني، تجمعت السيارات الفاخرة، أكبر تجمع في مكان واحد للسيارت الفارهة رأيته في أي وقت مضى في طهران، ليكزس، مرسيدس، وبي إم دابليو، وبين هذه العلامات الفاخرة كان يمكنني ملاحظة الدراجات النارية التي يستقلها شباب يافعون جاؤوا من أحياء الطبقة العاملة الفقيرة في جنوب طهران، وجودهم كان سهل التمييز على الفور بين هذا الحشد، بكنزاتهم الملطخة جرّاء يوم العمل الطويل والشاق، وأحذيتهم الرياضية من ماركة نايكي المزورة، ومع انطلاقي جنوباً، هدأ الصراخ والضجيج، وتناقصت الحشود السعيدة لتفسح المجال أمام سكون الليل المدلهم.
لقد انقضى من عمري في طهران ثلاثة عقود، ولدت بعد الثورة، وفي خضم الحرب، شهدت الاستقرار، الفوضى، سفك الدماء، الهدوء، وجميع الحالات التي تقع بينهم، ورغم الاتفاق وتباشيره، إلا أننا لا نتطلع للدخول إلى عصر الوفرة المريح، فحتى لو سارت الأمور وفقاً لما هو مخطط له، فإن إرث العقوبات الجائرة لا يمكن أن يُمحى، وكما يقول خبير اقتصادي تعرفت عليه من جامعة طهران “فرض العقوبات على دولة ما، يشبه إعاقتك لإنسان بشكل دائم، قد تتوقف عن إلحاق الأذى به، ولكن الضرر الذي سبق وأحدثته سيبقى معه إلى الأبد”.
أتساءل اليوم عمّا إذا كان كل هذا صحيحاً، كل ما تم وعدنا به كأثر لهذه الصفقة، المزيد من الاستقرار، الانتعاش المالي، الفضاء السياسي والاجتماعي الأكثر انفتاحاً، جميع ذلك كان بحوزتنا ولكننا فرطنا به سابقاً، من يستطيع أن يضمن لنا بأننا لن نضيّعه مرة أخرى؟ نحن الذين شهدنا الآلام والتعافيات خلال هذه العقود الثلاثة الماضية، نعلم بأن الكثير مما وُعدنا به يعتمد على نزوات عالم بعيد عن ولايتنا أو رقابتنا، عالم يجبرنا ويحنينا ولكن لا نستطيع أن نجبره أو نحنيه، وبالنسبة للكثير من الإيرانيين، رفع العقوبات ليست أكثر من نهاية فصل آخر من رواية التشكك الهائلة، التي لا تزال في طور الإنتاج، نكتبها ونحن نعيش، ونقرأها ونحن نمضي.
المصدر: فوكس