ساهم تدهور الأوضاع في ليبيا إثر الإطاحة بنظام القذافي في جلب أنظار الحاملين للفكر التكفيري خاصة مع ما مثلته من سوق مجانية للسلاح المتناثر في مختلف المناطق ومع انهيار الدولة؛ ما خلق حالة من الهجرة “التكفيرية” ضمن استراتيجية كاملة لتركيز موطن قدم في شمال أفريقيا.
ورغم اختلاف التقديرات في مرحلة أولى حول جدية الخطرالإرهابي في ليبيا في خضم التناحر الأهلي بين حكومتي الشرق والغرب والميليشات التابعة لها، مثلت حادثة ذبح الأقباط المصريين مُنعرجًا هامًا في مستوى جدية التعاطي مع انتشار هذا الفكر وتمكّنه من كسب مساحات هامة في المشهد السياسي والعسكري، وعلى نحو دراماتيكي، وجد كلا طرفي النزاع الداخلي الليبي نفسيهما أمام لاعب ثالث له ميليشياته وأرضه، خاصة مع إعلان سيطرته على مدينة سرت الواقعة على مسافة 450 كم شرقي العاصمة طرابلس، ومع إعلان عدائه لكليهما وفتحه جبهات قتال مفتوحة على مُختلف الواجهات.
حكومة طرابلس تعلن النفير العام
وبالرجوع إلى آخر مستجدات الوضع الليبي، قام طيران رئاسة الأركان التابع لحكومة الإنقاذ الوطني (حكومة طرابلس) الأربعاء بقصف مواقع لداعش في مدينة سرت الساحلية بعد الإعلان عن عملية عسكرية لاستعادة المدينة، الأسبوع الماضي.
وشنت طائرات حربية غارات استهدف بعضها فندق الميناء الذي يتمركز فيه قناصة للتنظيم، حسب مواقع إخبارية ليبية، وكانت وزارة الدفاع في حكومة الإنقاذ الوطني بطرابلس أعلنت أمس بدء ما أسمتها عملية تحرير مدينة سرت من تنظيم الدولة الذي يسيطر عليها منذ شهرين.
ودعت الوزارة القوات المسلحة وكتائب الثوار التابعة لها إلى المشاركة في استعادة سرت، ووفقًا للوزارة، فإن العملية بدأت بهجوم نفذه أهالي المدينة تدعمهم ضربات جوية لسلاح الجو الليبي؛ ما خلف عددًا من القتلى والجرحى في صفوف التنظيم، وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع محمد عبد الكافي إن الوزارة تعلن حالة النفير العام في صفوف القوات المسلحة والثوار، وتهيب بكل الكتائب المنضوية تحت رئاسة الأركان العامة الاستعداد والمشاركة في هذه المعركة.
ووفقًا لمصادر ليبية، فإن حكومة الإنقاذ استنفرت ما يصل إلى أربعة آلاف عسكري للمشاركة في عملية استعادة سرت، بالتوازي مع مواجهات بين سكان المدينة وميليشيات التنظيم، كما ذكرت تقارير إعلامية أن المجلس العسكري لمدينة مصراتة الواقعة على مسافة 200 كم شرقي العاصمة طرابلس، أعلن حالة الاستنفار القصوى، تمهيدًا لبدء العملية العسكرية في سرت بالتعاون مع الكتيبتين 136 و166 وكتائب متمركزة في مناطق قريبة من المدينة.
حكومة طبرق تطالب العرب بالتدخل وتشارك في القصف الجوي
على صعيد آخر، أصدر البرلمان الليبي قرارًا يقضي بالسماح للحكومة المؤقتة المنبثقة عنه برئاسة عبد الله الثني، طلب توجيه ضربات محددة تستهدف تنظيم “داعش” الإرهابي خلال جلسة مندوبي الدول العربية المخصصة لتدارس الوضع الليبي.
وأفاد بيان لمجلس الوزراء أن حكومة الشرق طلبت من الدول العربية توجيه ضربات جوية ضد التنظيم، وقال بيان الحكومة الليبية إن “الحكومة الموقتة تناشد الدول العربية الشقيقة ومن واقع التزاماتها تجاه الأخوة العربية، وتطبيقًا لقرارات الجامعة العربية بشأن اتفاقات الدفاع العربي المشترك، بأن توجه ضربات جوية محددة الأهداف لتمركزات تنظيم داعش الإرهابي في مدينة سرت بالتنسيق مع جهاتنا المعنية”.
وأفاد نشطاء في مدينة سرت بأن مسلحي المنطقة أقاموا غرفة عمليات موحدة لقيادة العمليات العسكرية ضد مسلحي تنظيم الدولة، يشرف عليها ضباط في الجيش وفي أجهزة الأمن، مشيرين إلى أن شباب المدينة قاموا بإغلاق الطرق المؤدية إلى أحيائهم وتمكنوا بعد اشتباكات ضارية من طرد عناصر داعش من عدة مواقع منها ميناء المدينة.
وأكد نشطاء المدينة أن طائرات حربية تابعة للحكومة المؤقتة في طبرق وأخرى تابعة للحكومة الموازية في طرابلس شنت غارات على مواقع للتنظيم منها مجمع قاعات واغادوغو ومبنى الأمن الداخلي، كما قصفت الطائرات المقاتلة رتلاً لهم خرج من بلدة النوفلية في اتجاه سرت.
دول كبرى تقطع الطريق أمام فرضية التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا
وفيما يُشبه استباقًا لرد الجامعة العربية على مطلب حكومة طبرق بالتدخل الأجنبي، أصدرت 6 دول غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة بيانًا مشتركًا في ساعة متأخرة أول أمس ندد بالأعمال “الهمجية” التي ارتكبها داعش الإرهابي في ليبيا لكنه رفض التدخل العسكري لحل النزاع هناك.
ووقعت على البيان الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا، مُطالبين بتشكيل حكومة وحدة وطنية هناك، بحسب ما نقلته وكالات أنباء عالمية، وعبر البيان الذي نشرته وزارة الخارجية الأمريكية عن “قلق المجموعة الدولية من الأنباء المتداولة حول قصف التنظيم لمناطق ذات كثافة سكانية في سرت وارتكابهم أعمال عنف بلا تمييز لترهيب الشعب الليبي”.
وشددت الدول الـ6 الموقعة على البيان على أن “الحل العسكري للنزاع في ليبيا غير مطروح حاليًا”، في الوقت الذي تبحث فيه جامعة الدول العربية يوم غد الثلاثاء في اجتماع طارئ إمكانية رفع حظر السلاح عن الجيش الليبي من جانب الدول العربية لدعم الحكومة المؤقتة في حربها على الِإرهاب، لاسيما بعد الاعتداءات والانتهاكات بحق المدنيين في مدينة سرت على يد تنظيم داعش.
عدو عدوي صديقي، ما الذي يعيق التفاهم إذن؟
على الصعيد السياسي الذي تقوده بعثة الأمم المتحدة لليبيا، الأونسميل، تتواصل جهود المبعوث الأممي برناردينو ليون للتوصل إلى تسوية سياسية ملامحها العامة حكومة وحدة وطنية تُنهي حالة الانقسام والاقتتال.
هذا وأفادت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أن الأطراف الليبية المشاركة في جولة الحوار بجنيف أعربت عن تفاؤلها بالمصادقة رسميًا على الاتفاق السياسي في أواخر سبتمبر المقبل، وقال بيان للبعثة الأممية الأربعاء الماضي إن الأطراف الليبية أكدت إصرارها على الانتهاء من عملية الحوار وصولاً إلى اعتماد اتفاق التسوية السياسية بشكل نهائي في غضون الأسابيع الثلاثة المقبلة، بعد مصادقة الأطراف عليه في أواخر سبتمبر المقبل.
وأشار البيان الذي صدر في أعقاب يومين من الحوار السياسي في مقر الأمم المتحدة بجنيف إلى أن المباحثات التي ترأسها المبعوث الأممي إلى ليبيا برناردينو ليون جرت في أجواء إيجابية، وأن الأطراف أكدت خلالها على “ضرورة وضع المصالح الضيقة جانبًا وإعلاء المصالح الوطنية الليبية العليا”، مجددة إيمانها الراسخ بعدم وجود بديل للسلام في ليبيا خارج إطار عملية الحوار هذه التي تضع الأسس لتسوية سياسية شاملة تحقق من خلال التوافق.
وفي الحقيقة، ليست هذه المرة الأولى التي تتحدث فيها بعثة الأمم المتحدة بمثل هذا التفاؤل، فمنذ أشهر تتحدّدت مواعيد لإنجاح المسار السياسي دون احترامها، وهو ما يرجع حسب مراقبين إلى غياب أرضية مشتركة صلبة بين طرفي النزاع، خاصة أمام تواصل دعوات برلمان طبرق للتدخل الأجنبي الذي تدعمه مصر، وهو ما يتعارض مع جدية الانخراط في مسار التسوية السياسية.
هذه الأرضية الغائبة يبدو أن داعش تكفلت بلا قصد بتشكيلها، فللمرة الأولى يتوحّد طرفي النزاع في موضوع ما وهو محاربة هذا الكيان الذي يُهدّد الجميع تحت غطاء “عدو عدوي صديقي”، إلا أن هذه الأرضية تظل هشة طالما لم يلتزم برلمان طبرق بمسألتين: الأولى تتعلق بإنهاء طلباته المتكررة بتدخل أجنبي فيما يُشبه المُغالبة والانطلاق في مرحلة التفكير من داخل ليبيا لا من خارجها، والثانية تتعلق بتشكيل أجندته الوطنية والتخفف من ارتباطاته الإقليمية التي يبدو أنها تدفع الأمور نحو الأسوأ كلما اقترب تحقيق الحل الشامل، وخاصة فيما يتعلق بارتباطه بنظام السيسي.