(1)
“بدأ كابوس الكنديين طارق اللوباني وجون جريسون عندما سألا عن الطريق في إحدى نقاط التفتيش التابعة للشرطة أثناء عودتهما إلى الفندق بعد محاولتهما مساعدة المصابين في مظاهرات رمسيس في أغسطس الماضي (…) وقال جريسون، إنه عقب وصوله إلى سجن طرة تعرض للضرب والركل حتى حُفرت إحدى الكدمات على ظهره، وكذلك صديقه اللوباني تعرض لذات المعاملة الوحشية (…) وأضاف، “أنهما كانا يتخذان الوضع الجنيني لحماية أنفسهما من الضرب، وأنه ظل يشعر بالألم لحوالى أسبوع”…
… ينام الـ 38 سجيناً على الخرسانة وبينهم صنبور واحد فقط، وبحسب قول اللوباني كانت الرعاية الطبية يرثى لها، فقد وصل أحد المساجين وإحدى قدميه مصابة بكسر لم يتم علاجه لمدة ثلاثة أسابيع حتى تدهورت الحالة وتم بتر القدم”. (تفاصيل باقي الكابوس في الشروق نقلاً عن الجارديان 12/10/2013)
*******
“… بعد دقائق ازداد عدد رجال الأمن، وتم فتح باب الغرفة مرة ثانية، كرر الطبيب طلبه بإغلاق الباب حتى يُكمل عمله، فرد عليه الضابط “افرض إن العيان هرب”، أوضح الطبيب أن الغرفة ليس بها سوى شباك صغير مُغلق بالحديد (…) لم يهدأ الضابط الذي صرخ في وجه الطبيب “شوف شغلك وأنت ساكت”، وتطورت الأمور لمشادة كلامية، ثم دخل الضابط واعتدى على الطبيب بالضرب المُبرح، كما أكدت د. “منى مينا” أن هذا الاعتداء طال كل من حاول تهدئة الأمور من فريق المستشفى، حيث تم الاعتداء أيضاً على ممرضة وطبيبين آخرين، قام الضابط وقتها بوضع الحديد في يدي الطبيب “محمد مسلم” وسحله على بلاط المستشفى من غرفة الخياطة بالاستقبال حتى “بوكس” الشرطة أمام أبواب مستشفى المنيرة…”. (من شهادة لجنة نقابة الأطباء التي جمعت شهادات واقعة اقتحام الشرطة لمستشفى المنيرة وسحل طبيبها في صحيفة الوطن 12/10/2013)
*******
“أدانت حملة «التحرش بالمتحرشين»، احتجاز الشرطة لعدد من أعضائها بنقطة شرطة سان ستيفانو على خلفية قيام الحملة بنشر أعضاء لها بمحيط أحد المولات التجارية لمنع حالات التحرش؛ التي ارتبطت بالأعياد. وأشارت الصفحة الرسمية للحملة إلى أنه تم احتجاز خمسة من أعضاء الحملة بنقطة الشرطة…”
(صحيفة الشروق 16/10/2013)
*******
“وصلت جثث 37 من أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، والذين قتلوا في سجن أبو زعبل، اختناقاً بالغاز، وفق ما أفادت التقارير الطبية الصادرة من مشرحة زينهم، والتي أوضحت أن القتلى أصيبوا بحالة اختناق شديدة تسببت في وفاتهم، وتبين من مناظرة الجثث وجود اسوداد بالوجه والجسم نتيجة الاختناق”. (المصري اليوم 19/8/2013).
“… بدأت رحلة الموت بحشر 45 سجينا فى سيارة ترحيلات لا تسع أكثر من 24 فردا، وصلت إلى السجن العسكرى بأبو زعبل فى الساعة السابعة إلا الربع، ثم تركوا السيارة مغلقة عليهم لمدة عشر ساعات فى فناء السجن، وحسب رواية بعض الناجين (8) أن السجناء وهم مكبلون بالقيود، بدأوا يتساقطون إما مغشياً عليهم أو صرعى بعد ساعة واحدة من توقف السيارة فى فناء السجن، وجاء الختام المروع لهذه المأساة بهجوم شنه ضباط المأمورية ومجنديها بالغاز على السيارة دون سبب معروف حتى الآن حيث تم الإجهاز باختناق الغاز على من لم يمت باختناق الزحام وانعدام التهوية”. (رسالة والد المرحوم شريف صيام إلى عمرو الشوبكي فيالمصري اليوم 1/10/2013).
“وحدثت الكارثة عندما اقترح أحد الضباط أن تطلق قنبلة غاز داخل السيارة للسيطرة، ولم يفكر لحظة في أن الأمر يمكن أن يؤدى إلى مصرعهم لضيق السيارة والزحام بها وقلة التهوية.” (من تحقيق بصحيفة الوطن نقلته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع شهادات أخرى لعدد من الأهالي 23/8/2013).
*******
(2)
عزيزي القارئ، تلك الأسطر السابقة هي “كوكتيل” من جرائد ومواقع مصرية مختلفة لأحداث قتل وعنف تورطت فيها الداخلية خلال أقل من شهرين من الزمان، كان يمكن لواحدة منها فقط أيام مبارك أو مرسي أن تقيم الدنيا ولا تقعدها، وأن تصبح مادة رئيسية للصحافة وبرامج التوك شو لعدة أيام دون أن تنضب.
هذه الوقائع مجرد عينّة… غيض من فيض، لم أجد أي عناء في جمعها، فأثناء تصفحك اليومي للأخبار يمكن أن تقع عينك بين الفينة والأخرى على خبر من تلك النوعية، تحاول الصُحف إخفاءه على استحياء في ركنٍ قصي، تستحث ألاعيب “اللاوعي” الكثيرة كي تتجنب عناء التفكير فيها، فلدينا الآن – وياللسخرية – حكومة “ثورة”. لكن أبداً… الأحرف المكتوبة بالأسود تظل هناك… تملأ الشاشة وتنزاح لترى خلفها أماً تبكي وبيتاً استحال كئيباً.. وابناً تيتم.. ومُهندساً لن يذهب لشركته في الصباح، و”ديسكاً” في الجامعة لن يخط عليه صاحبه أي كلمة بعد اليوم، ووطناً يسير حثيثاً لمصير “القرى الظالمة”.
*******
(3)
ربما لاحظتَ، عزيزي القارئ، أن العيّنة التي انتقيتها خلت من أخبار قتل المتظاهرين، نحن لا نتحدث هنا عن مظاهرة خرجت فأردت الداخلية بعضاً من المتظاهرين قتلى، فتلك العينة من الأخبار يبدو وكأنها استحالت “مسألة” عادية، ومادام المقتول من مؤيدي مرسي، فلم لا؟ انسَ إذن مسألة قتل المتظاهرين، حتى لو تحدثت المنظمات الحقوقية والشهادات الصحفية عن استخدام الداخلية للذخيرة الحية والعنف المفرط كما حدث يوم 6 أكتوبر وفاضت أرواح 51 مصرياً لبارئها، انساها تماماً، كما نسينا مذبحة رابعة، وحدثني عن أي مبرر أو سبب يستدعي إغفال تلك العينة السابقة من البشاعة والظلم؟
تنوّع الأنباء وتواليها فيه ردٌّ كامنٌ على من يحاول أن يعزلها فرادى، فهي تنضح بالمنهج، وتفصح عن عقلية مؤسسة كاملة، لا عقلية أفراد موتورين أو متوترين. فإن تفاديت قراءة خبر في بشاعة وهول ما حصل من تعذيب للطالب المرحوم “عمر خليفة” المعتقل في معسكر السلام على خلفية تظاهره في يوم 6 أكتوبر مع أنصار المعزول، ثم ادعت الداخلية أنه مات غرقاً، فربما لن تتفادى – ومن أجل التنويع والترفيه على الأقل – خبر اعتقال أمن الدولة لسيدة وابنتها (12 عاماً – يعني طفلة) بتهمة حيازة صورة الرئيس المعزول مرسي في منزلهم. وربما تنتهي مثلاً عند خبر اعتقال بعض النشطاء الذين أحيوا وقفة التضامن مع خالد سعيد في أثناء نظر قضيته بالإسكندرية، لكي تتأكد أن حكماً نهائياً بنهاية الظلم الميري في هذا البلد لم يصدر حتى بعد عامين ونصف على قيامها في العيد الميري 25 يناير، وثلاثة أعوام على ارتقاء روحه.
الأحرف المكتوبة بالأسود، خرجت من المطبعة واضحة تتكلم بالحقيقة، يمكن أن تغيّر حجم الخط حسبما يرغب رئيس التحرير، وبإمكانك أيضا أن “تكبّر” أو “تصغّر” أثرها على ضميرك بأسئلة لا تختلف كثيراً عن نوعية الأسئلة المُؤمنة: “إيه اللي ودّاها هناك؟” لكن رغم حجم الخط أو حجم الضمير، تظل البشاعة كامنة في حجمها الطبيعي، تخبر عن الحاضر، وتنبئ بالمستقبل.
********
“قالت امرأةٌ في المَدينة
مَنْ ذلكَ الأمَوي الذي يتباكى على دمِ عُثمان!
مَنْ قالَ إنّ الخِيانة تنجبُ غيرَ الخيانة؟”
********
(4)
الأعيب النفسية التي يمارسها عقل الإنسان الباطن تهدف إلى نزع فتيل الأزمات وإخمادها، فرؤية الظلم تؤلم الضمير الحيّ، وتستتبع عدداً من الأسئلة عن كيف؟ ولماذا؟ وإن كان الواقع كذلك، فما الحيلة؟ الـ “خِفة” التي يمنحها الإنكار والتجاهل والتبرير قد تليق بالتشبث بها ملاذاً للتحليق بعيداً عن الواقع الثقيل، والشعور بالـ”ثِقل” الذي يتبع الرؤية والمُعاينة والتدبر، شعور لا يستهان بألمِه.
إحدى تلك الألاعيب تتمثل في الصراخ المتناثر: ألا ترى قتلى الشرطة والجيش، من ضحايا العمليات الإرهابية في سيناء وغيرها؟ ثم يكاد يختم كما جنرالات هتلر: شايسِه.. شايسِه.. شايسِه! وهو صراخ يدل على أن أصحابه لازالوا في حيز الألاعيب العقلية، فوجود الوحوش لا يبرر تحولك إلى وحش، ووجود عصابات مجرمة لا يبرر تحول الدولة إلى ميليشيا مسلحة، تنتهج أساليب وحشية وغير قانونية، وبإمكان كلّ منا أن يقول للظالم لا، “كلٌّ على قدِّه”، لم يطلب أحد من الجميع أن ينزلوا الشوارع ليستغل وجودهم الإخوان ويقفزوا على أكتافهم في معركة تدور – حتى الآن – بين باطلين، أو أن يتحولوا إلى الرجل الوطواط منقذ البشرية من الظلم والدمار، لكن استمرار التجاهل والتبرير يُعجّل بالهاوية التي تجرنا إليها الداخلية جراً.
الحديث عن إرهاب بعض العصابات يملأ الصحف ويحتل العناوين الرئيسية، وإذا رغبنا في التفكير النقدي فعليك، على الأقل، أن تسمع شيئاً مختلفاً من حين لآخر، لأن الخفة التي تظن أنها ستحلق بك بعيداً لن تستمر طويلاً، ولن تنجيك من الطوفان حين يأتي أوان الأمم الظالمة.. أمّا ثِقل وعناء الأسئلة المؤلمة، فهي تنقلك بعد حينٍ من الألم إلى حيز الثقة وسلامة الضمير، وهي الضمانة الوحيدة للنجاة من الهاوية.
(5)
الهاوية.. أن تأتي لحظة يُسائل الناس فيها أنفسهم: “أليس لها من دون اقتحام الداخلية كاشفة؟” يبدو هذا السؤال في هذه اللحظة خيالاً، لكن المسألة “بهذا الأداء” ليست سوى مسألة وقت، ولا تحتاج إلى عرّافين للتنبؤ. فالثورة التي قامت في عيد الشرطة وكان من رؤوس أهدافها إصلاح هذا الجهاز، فشلت وعجزت حتى الآن عن إصلاحه، بل استمر في ظلمه وأدائه الوحشي بدرجات متفاوتة، بعد أن أحاط ساكنوه أنفسهم، رُعباً، بالأسوار في شوارع وسط البلد خشية من مستقبل توالت نبوءاته.
سيستمر الظلم ويتسع ليشمل طبقات متفاوتة سياسية واجتماعية، تظن الداخلية أنها عادت سيدة للشعب لا خادمة للقانون، وستتسع دوائر الغضب والإحباط. وإذ تغيب وتموت أي آمال لتحقيق “العدالة الانتقالية” في مصر، فإن آمالاً أخرى ستملأ فراغ الإحباط قد يكون من بينها “العدالة الانتقامية”. وحين تستنفذ الأشهر والسنون وتزهق الأرواح وتتراكم المظالم، ويتجذّر الشعور بالعجز عن الإصلاح، فإن الرغبة في عدالة مؤسساتية تنصهر، بفعل القمع، وتتوجه إلى وسائل صرف عشوائية، قد تتكثف في لحظة ثورية أخرى تشبه لحظات “محمد محمود” لكن تفوقها حجماً وعدداً… وفداحة.
*******
وبعد…
إذا كان مبدأ “المحاسبة على ما مضى” هو ما يخيف البعض في الداخلية، فلماذا لا تقوم “وزارة العدالة الانتقالية” بمهمتها في إيجاد تسوية عبر حوار مجتمعي، يقوم أولاً على ثلاثة مبادئ: الاعتراف، الاعتذار، التعويض، مع ترك مسألة المحاسبة خاضعة للنقاش المجتمعي المطّول؟ هناك تجارب عديدة ناجحة، أُعليتْ فيها ثلاثية الاعتراف والاعتذار والتعويض على مبدأ المحاسبة الذي لا يخلو من طوباوية. (وهي مُقاربة لا يتسع السياق لتفصيلها، لكن تجد سنداً لها في الفلسفات النقدية الحديثة للعقوبات الجنائية، كما تجد سنداً لدى الأصوليين في قراءتهم للنصوص: “إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم”) لكن حتى ذلك المسار، وإن أخفقت القوى الثورية في طرحه جذرياً، يحتاج إلى عقليات مختلفة وإرادة سياسية لم تتوافر حتى الآن في حكومات متعاقبة كانت سكناً للعجز وعنواناً للضيم والبخس.
الطرُقُ إلى دولة العدل سويّة مستقيمة، قد تكون طويلة، وشاقة، لكنها واضحة.. بيد أنه حتى ذلك الاعتراف البسيط، والاعتذار اليتيم المنشود، صار حلماً داسته بيادات “كهنة” الداخلية طوال عامين ونصف من التكذيبات المتهافتة عن استخدامها للذخيرة، ونفيها لارتكاب أي جُرم. وهي تبدو مصممة – إذن – على الاستمرار كما خلقتها دولة يوليو 52 في أسوأ تقويم، ما يقول إننا نحث الخطى في طريق الفوضى، إذ من العسير التصور أن مجتمعاً في القرن الحادي والعشرين، وبعد حراكٍ ثوري كحراك يناير الأعظم لم يخمد طوال عامين ونصف، يمكن أن يعود إلى بيوته ضارباً كفاً بكف، مكتفياً بالتأفف. فالأغلب والمرجح أنه طالما استمر الظلم فسيأتي اليوم الذي تظن الجموع فيه إنه “ليس لها من دون اقتحام الداخلية كاشفة”..
إن لم تخشوا ربّ السماء.. فخافوا ربّ الفوضى.