قاعدتا التنمية في آسيا وأوروبا، بهذه الكلمات وصف الرئيس الصيني شي جينبينغ ما تعنيه الصين وألمانيا لمحيطيهما في زيارته لبرلين العام الماضي، معربًا عن أهمية توطيد العلاقة بين قطبي القارتين الأهم في العالم، وتقديره وامتنانه لعلاقة بلاده الوثيقة بالفعل مع الألمان، والتي تستفيد منها الصين كثيرًا في رفع جودة منتجاتها، أملًا أن يحظى شعار “صُنِع في الصين” بنفس الصيت والثقة التي يتمتع بها نظيره “صُنِع في ألمانيا،” لتتقلص الفجوة بين الجودة الصينية والألمانية، على حد قوله.
العلاقة الوثيقة والمتنامية بين برلين وبكين ليست بالطبع في اتجاه واحد، فإن كان الصينيون يستفيدون من خبرات القارة العجوز ويحصلون على منتجاتها واستثماراتها، فإن الألمان يتسفيدون أيضًا بشكل كبير، لا سيما وأن اقتصادهم يعتمد على التصدير بشكل رئيسي، مما يجعل السوق الصيني الكبير بطبقته الوسطى البالغ تعدادها أكثر من نصف مليار، والتي تتطلع بالطبع للسلع الأوروبية المستوردة، أحد أهم شركائه، ويجعل الصين كلها الشريك التجاري الثاني لأوروبا بعد الولايات المتحدة، وربما قريبًا الشريك التجاري الأول، كما يأمل الطرفان.
أوروبا والارتكاز الصيني
في عام 2004، فوجئت الولايات المتحدة بقيام كل من ألمانيا وفرنسا بإلغاء إحدى قرارات حظر تصدير الأسلحة للصين، والتي كانت الدول الغربية قد أصدرتها بعد مذبحة تيانَنمن ضد نشطاء الديمقراطية في بكين، وهو قرار كان مدفوعًا بالطبع برغبة القطبين الأوروبيّين في استغلال حاجات الجيش الصيني للتقنيات الأوروبية المتقدمة عسكريًا لكيلا ينكفئ على التكنولوجيا الروسية ونقاط ضعفها، لا سيما وأنه بطبيعة الحال محجوب عن التكنولوجيا الأمريكية والهندية نتيجة العداوات الجيوسياسية بين بكين من ناحية، وواشنطن ودلهي من ناحية.
على عكس شريكها الأمريكي، لا تطل أوروبا على المحيط الهادي، وبالتالي لا تشارك الأمريكيين حساباتهم الاستراتيجية التي تضع الصين بشكل تقليدي في مصاف المنافسين، إن لم يكن الأعداء، فهي قارة بعيدة جدًا عن الصين، ولا توجد بالتبعية أي عداوة جيوسياسية بينهما نظريًا، كما أن عدوها الرئيسي حاليًا، وهو روسيا، يختلف في ملفات كثيرة مع الصين وإن بدا أن هناك علاقة وطيدة بينهما، أضف لذلك أن التنسيق الروسي الصيني يقوم على تعزيز كل منهما للآخر في ملفات تتعلق بالمنظومة العالمية ككُل، لا نتيجة تقارب في الرؤى على المستوى الإقليمي في آسيا الوسطى مثلًا، إذ تتباعد الرؤى بين الطرفين في الحقيقة كلما تركنا العالمي واتجهنا للإقليمي والمحلي.
تباعًا، تُدرك أوروبا أن الشراكة بين الصين وروسيا ليست مسألة حتمية، وأن بكين اختارت موسكو لأنها الطرف الدولي الوحيد المهتم بالوقوف مع المواقف الصينية في ملفات عديدة داخل المؤسسات الدولية بوجه الولايات المتحدة، وأن الاتحاد الأوروبي لو استطاع تقديم ما هو أفضل للصين، فإنه سيضعف بالتبعية العلاقة بين موسكو وبكين، وإن كان الاتحاد الأوروبي بالطبع محدودًا في قدرته على معاداة الولايات المتحدة كما الحال في موسكو، فإن ثقل مؤسساته، ونفوذه في المنظومة الدولية التقليدية نفسها، سيجذب الصينيين كثيرًا، لا سيما وأنه لم يعد على وفاق تام مع واشنطن كما كان في السابق.
لم يكن غريبًا إذن أن تتجاهل اقتصادات أوروبا الكبرى كل الجهود الأمريكية لإقناعها بمقاطعة بنك البنية التحتية الآسيوي الذي أسسته الصين، والتي تحاول خلق منظومة مالية واقتصادية منافسة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث أعلنت كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا الانضمام للبنك الصيني بعد أيام قليلة من لقاء جمع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الألماني والتر شتاينماير حاول فيها الأول الضغط على الأخير لترفض ألمانيا الانضمام، ولكن دون جدوى، إذ ترى ألمانيا أنها لا يمكن أن تظل خارج مبادرة اقتصادية بهذا الحجم فقط لأجل تحالفها الغربي.
خريطة توضح الدول الأعضاء في بنك البنية التحتية الآسيوي (بالأحمر) إلى جانب الدول التي رُفِضَت عضويتها (بالأخضر)
للمفارقة، وفي نفس الوقت الذي يتحمس فيه سياسيو ألمانيا وأوروبا للبنك الآسيوي الجديد وطموحات الصين لإنشاء طريق الحرير الاقتصادي عبر آسيا الوسطى وتركيا وإيران ومن ثم إلى أوروبا، يبدو وأن اتفاق التعاون والشراكة الأطلنطي، والذي تجري المفاوضات بشأنه بين واشنطن وبروكسل لرسم إطار التجارة بين الولايات المتحدة ودول اليورو خلال العقود المقبلة، يعاني من معارضة شديدة من مختلف الاتجاهات السياسية في القارة، بدءًا من اليمين القومي المتطرف المعادي لمشروع اليورو أصلًا وبالتالي يرفض أي تعاون سياسي مع قوة تبعُد آلاف الأميال عن أوروبا، وحتى اليسار المتحفظ على الرأسمالية الأمريكية، والسياسيين الرافضين لهيمنة الشركات على حساب تقلص سلطان مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
في هذا السياق، يمكن فهم الاهتمام الكبير من جانب الألمان والفرنسيين بالاتفاق النووي مع إيران، إذ تُعَد الجمهورية الإسلامية الآن، إلى جانب تركيا، حجر الأساس في مشروع طريق الحرير، علاوة على قدرتهما بالتنسيق مع الصين تنمية آسيا الوسطى وفتحها للأسواق العالمية، وهي مسألة ستقلّص من النفوذ الروسي في آسيا بالطبع وتعزز من ضغوط أوروبا على موسكو، وإن كان مشروع كهذا سيتطلب بالطبع جهود دبلوماسية كبيرة من جانب الصين وأوروبا لتقريب أنقرة وطهران فيما يخص آسيا الوسطى، علاوة على ضخ استثمارات كبيرة في وقت تمر فيه منطقة اليورو بأزمة في بلدانها الجنوبية، كما تعاني فيه الصين من تحولات اقتصادية كما سنشرح الآن.
ماذا تستفيد الصين إذن؟
إلى جانب مكتسباتها التقليدية من الاستثمارات الأوروبية وتوطيد العلاقة مع قوة سياسية غربية كُبرى، تبدو أمامنا مميزات جديدة يمكن للصين الحصول عليها من بروكسل: أولًا، دخول قوى اقتصادية ثقيلة إلى بنك البنية التحتية الآسيوي بشكل يرسخ شرعيته كقطب اقتصادي عالمي، على العكس من الحالة لو كان المشروع آسيويًا صِرفًا، وثانيًا، الحماس المشترك تجاه مشروع طريق الحرير الاقتصادي، والذي لا يمكن بالطبع أن تشرع فيه الصين منفردة، فأوروبا ستكون مكمّلة للنفوذ الاقتصادي الصيني بشكل أو آخر، فإن كانت الصين ستغزو المنطقة بسلعها الكثيرة والرخيصة، فإن أوروبا ستفتحها على الاقتصادات الغربية ذات منتجات الجودة العالية وأحدث ما وصلت له التكنولوجيا، ثم أن وجود الصين وأوروبا في معادلة واحدة هو فقط الكفيل بجذب تركيا وإيران ليتجاوزا خلافاتهما الإقليمية، مما يعزز من موقف الصين.
المسألة المهمة أيضًا بالنسبة للصين هي الاستفادة من خبرات أوروبا الاقتصادية والمؤسسية بينما تنتقل هي من مرحلة الاقتصاد السريع الرخيص إلى اقتصاد الدول المتقدمة، وهو تحوّل سيؤثر عليها لعقود طويلة نتيجة الضغوط التي ستتعرض لها الدولة الصينية من متطلبات تقديم الخدمات التعليمية والصحية على مستويات مناسبة للطبقة الوسطى، بالإضافة إلى تقديم المعاشات للأجيال المتقاعدة في ظل معدلات شيخوخة متزايدة تشهدها البلاد منذ سنوات، وهو ما سيخلق حاجتها إلى بلورة دولة رفاهة على مستوى المؤسسات، وفي ظل مجتمع يفوق المليار، فإنها بالقطع ستكون بحاجة للخبرات الأوروبية الأكثر خبرة في مجال دول الرفاهة وجمع واستثمار الضرائب في المنظومة الاجتماعية، لا سيما وأن منظومة جمع الضرائب في الصين تعاني من الضعف الشديد والفساد، وفي هذا الصدد يمكن للألمان بالتأكيد أن يمدو يد العون لبكين.
***
في المُجمَل، وبغض النظر عن وجود مبالغة من عدمه فيما يخص “المحور الصيني الأوروبي” أو “الصيني الألماني” الذي تنبأ به أحد الباحثين قبل عدة أعوام، فإن هناك اتجاه واضح في أوروبا بشكل عام، وألمانيا بشكل خاص، بالاتجاه نحو الشرق، أولًا للبحث عن حلفاء يشاركونها التوجس من روسيا في الملفات الإقليمية، وثانيًا لفتح أسواق جديدة وضخ استثمارات خارج القارة، وثالثًا لخلق شراكة على المستوى الدولي تعوّض الفراغ الذي ستخلفه الولايات المتحدة، وهو فراغ سيحدث عاجلًا أم آجلًا لأسباب عدة، منها الرغبة في تخفيف الاعتماد المُطلَق على واشنطن، وانعدام الثقة المتبادل بين واشنطن وبروكسل مؤخرًا نتيجة ملفات مثل التجسس واتفاقية الشراكة الأطلنطية، وأخيرًا تركيز واشنطن الرئيسي الذي يتجه للمحيط الهادي على حساب الأطلسي، بشكل يحتم على أوروبا أن تبحث عن ذاتها منفردة، وهي كلها عوامل تجعل من الصين شريكًا مناسبًا في المرحلة المقبلة.