ترجمة وتحرير نون بوست
وسط انشغالنا بالمعارك الثورية الدائرة في السنوات الأخيرة، من السهل أن نغفل ولا نلاحظ التغير المناخي الجذري الجاري في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على قدم وساق، هذا التحول التدريجي، حتمي الوقوع والذي يصعب تجنبه في جزء كبير منه، يهدد بتهجير الملايين، إن لم يكن عشرات الملايين، وبتغيير وجه المنطقة بشكل يصعب معه بعدها التعرف عليها، وكالمعتاد في نطاق الأعمال التجارية، ستعمد فئات النخبة الغنية لاستغلال الدمار الذي سيلحق بالأغلبية الفقيرة، ولكن المستقبل العادل قد يكون أمرًا ممكنًا، إذا كافحنا من أجل تحقيقه.
الصيف الذي حل مبكرًا هذا العام جلب معه تذكرة بالعنف المصاحب والناجم عن التغير المناخي، كون ارتفاع درجات الحرارة قد يؤدي إلى الموت، حتى لو كان الطقس الحار يبدو طبيعيًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ فموجات الحر مثل التي حدثت في شهر مايو، عندما وصلت درجات الحرارة في القاهرة إلى 43 درجة مئوية، قد تبدو مزعجة ولكنها غير ضارة، ولكن على الطرف الآخر من العالم أسفرت موجة الحر عن موت 760 شخصًا في تسعة أيام في الصيف الماضي، حيث كانت أعلى درجة وصلت إليها الحرارة في لندن 33 درجة مئوية.
والسؤال كم من الأشخاص يموتون كل صيف في مصر، وهو البلد الذي يتميز بدرجات حرارة أعلى بكثير من بريطانيا ونظام صحي أضعف؟ الإحصاءات حول هذا الموضوع في مصر غير متوافرة، ونحن لا نعرف أسماء الأشخاص الذين لقوا حتفهم نتيجة للحر، نظرًا لكون العديد منهم يعيش في الشوارع وينحدر من الطبقة الدنيا في مصر.
هذا الموضوع يتعدى بشكل كبير مجرد حصول ظواهر جوية قاسية، فما بين عامي 2006 و2010، دمر الجفاف الشديد في شرق سورية سبل معيشة 800.000 شخص وأدى إلى نفوق 85% من الثروة الحيوانية، حيث تم هجر أكثر من 160 قرية بالكامل قبل حلول عام 2011، كما أن ارتفاع مستويات البحر في دلتا النيل أجبر المزارعين على هجر منازلهم مرارًا وتكرارًا في السنوات الأخيرة؛ ففي قرية ساحلية زرتها في أبريل 2014 قرب رشيد، أخبرني القاطنون عن تغييرهم لمكان استقرارهم ثلاث مرات نتيجة لغمر أراضيهم.
الموضوع لا يتمثل بانتقام الطبيعة كما يتم تصويره، كون العنف الناجم عن تغير المناخ تتم صياغته بطريقة طبقية بشكل يتحمل معه الفقراء العبء بالنيابة عن الأغنياء، ولكننا لا نستطيع تمييز الوحشية الكامنة خلف التغير المناخي، كون الطرح المهيمن على ساحة النقاش العام يخفي هذا الموضوع، ويحوّل المسؤولية عنه إلى الكوارث الطبيعية والطبيعة المادية للأرض، لذا لم يكن هناك حاجة لموت أي شخص في القاهرة عندما انخفضت درجة الحرارة في ديسمبر أو ارتفعت في مايو الماضي، وكانت هذه الوفيات نتيجة للقرارات التي اُتخذت في لندن وبروكسل وواشنطن العاصمة ودبي، ومحليًا في لاظوغلي، مصر الجديدة، والقطامية، وكانت هذه القرارات تنبع من غاية واحدة هدفها الحفاظ على حرق الوقود الأحفوري، وحماية الأغنياء بدلًا من الفقراء.
في مصر والدول المجاورة لها، النجاة من ظروف التغير المناخي القاسية تعول على إيجاد طرق للتكيف مع موجات الجفاف، العواصف، الفيضانات، وتلف المحاصيل، حيث يتم الترويج للخطط والحلول من قِبل الأكاديميين والمؤسسات الحكومية والسلطات الرسمية، ولكن هذه الخطط بمعظمها إما تقدم القليل من الحلول الحقيقية وبعد فوات الأوان، أو تهدد بإحداث المزيد من الدمار، كما أن هذه الحلول والتدخلات ليست معزولة عن التأثيرات السياسية أو الاجتماعية، فمثلًا بناء الجدران البحرية للدفاع عن المنتجعات السياحية، وتوسيع الزراعة المعتمدة على رأس المال، يعملان على إعادة التأكيد على الخطط الهادفة لمراعاة المصالح التجارية للشركات الكبرى، وهذه المسارات المعتمدة للتكيف تخلق فضاءات جديدة لتسمح للنخبة بتكديس المال والأرباح والسيطرة على الأرض والمياه والطاقة، فضلًا عن أن الحلول القائمة على مبدأ السوق تزيد وترسخ من حدة الاستغلال الذي سبق وأن تم اخضاع الفقراء له، زد على ذلك أن الإطار النظري للبحوث المتعلقة بهذا الموضوع لا تشكك بالهياكل الاقتصادية والسلطوية التي تصوغ الطريقة التي نتكيف من خلالها.
هذه المادة تحاول التحقيق بشكل دقيق بالكيفية التي تلعب بها الطبقة الاجتماعية دور الوسيط ضمن الآثار التي يحدثها التغير المناخي والكيفية التي يتم بها التكيف مع هذه الآثار، فنحن بحاجة لتسليط الضوء على المحاولات الجارية لاستخدام التغير المناخي كوسيلة لتحقيق الربح وترسيخ اللامساواة، والحجم الهائل الذي تحوزه هذه الأزمة يعوزنا لتحول جذري عن الهياكل السلطوية الموجودة حاليًا والقائمة على الاستبداد ومبادئ الليبرالية الجديدة.
أحيانًا يخيل لنا بأن طابع العجلة والحاجة الملحة الكامن خلف هذا الموضوع لا يعطينا الوقت الكافي لتغيير النظام القائم، ولكن في الحقيقة إن الاعتماد على الأنظمة القائمة سوف يودي بنا إلى الرجوع خطوتين إلى الوراء مع كل خطة نتقدمها إلى الأمام؛ لذا، وبدلًا من ذلك، يتعين علينا أن نركز عملنا على الحركات الاجتماعية والمجتمعات التي تقبع على خط المواجهة وتقاوم، ونعمل على بناء مسارات ديمقراطية بغية النجاة والبقاء على قيد الحياة في العالم الذي يزداد حرارة وسخونة.
تدمير دلتا نهر النيل
من المتوقع أن يعمل التغير المناخي على إعادة صياغة وتشكيل كوكبنا بشكل جذري، حيث سيتم إنفاق مئات المليارات في محاولة لإعادة موازنة وضبط الطبيعة المادية للأرض والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ولكن كيف سيبدو هذا التحول في مصر؟
الاقتراحات والتحليلات الحالية ما زالت محدودة للغاية، بطيئة، ومحافظة لدرجة لا تستطيع معها مجارة التغيير الحاصل، وبغض النظر عن بعض الاستثناءات المهمة القليلة، فإن جميع ما كُتب حول هذا الموضوع يعتمد نهجًا فوقيًا متجهًا من الأعلى إلى أسفل، ويركز على الموضوع فقط من خلال العدسة الأمنية، هل ندرة المياه ستشكل خطرًا على الدولة؟ هل ستقوض الهجرة الأمن؟ ما هي الحلول التكنولوجية التي تضمن استمرار استزراع الأراضي؟ كم من المال ستخسر صناعة السياحة؟ وكما فعل المستشارون التنمويون على مدى العقود الماضية، خبراء اليوم يلقون باللوم بضعف مصر على الجغرافيا الطبيعية لها، فهي بالنسبة لهم بلد صحراوي مع مصدر رئيسي واحد فقط من المياه العذبة، ودلتا مسطحة ومغمورة بالمياه، وعدد كبير من السكان، وهذه النظرة تعني بأن التهديد يمكن تجنبه باستخدام التكنولوجيا، من دون إحداث تغييرات على النظام الاجتماعي.
أحد أهم وأكثر الأبحاث حظوة التي تحاول استكشاف السياق السياسي للتغير المناخي في المنطقة، يطلب منّا أن نثق بالنخب المحلية والمؤسسات الليبرالية الجديدة لتحديد وصياغة النماذج التي نعتمدها للتكيف، هذا البحث هو من تأليف جون واتربوري وبعنوان “الاقتصاد السياسي لتغير المناخ في المنطقة العربية”، وتم نشره العام الماضي ضمن تقرير التنمية البشرية العربية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ونظرًا لمحدودية الأبحاث الموجودة حول هذا الموضوع في المنطقة، انتشرت هذه المقالة على نطاق واسع، ومن المرجح أن تشكل أساسًا للأبحاث التي ستجري حول الموضوع في المستقبل، ومن خلال تقصي الحجج التي تعول عليها الدراسة، يمكننا أن نلمس النقص في الطروحات القائمة حول موضوع الاحتباس الحراري في المنطقة، وفي مصر على وجه التحديد.
على سبيل المثال، العديد من أبحاث السياسات في هذه الموضوع تعول على توقعات مفرطة بالتفاؤل تسعى للتقليل من شأن التهديد، حيث يؤكد بحث واتربوري التوقعات التي وضعها الدكتور عمران فريحي عام 2003، والتي تشير إلى أن ارتفاع مستوى سطح البحر لن يتجاوز الـ50 سم فقط في مصر بحلول عام 2100، وهذا الارتفاع على ما يبدو يمكن السيطرة عليه بالأرصفة البحرية ومصدات منع تآكل الشواطئ، وبالمثل، في عام 2011، تبنت خطط معهد بحوث الشواطئ في مصر التقديرات المثيرة للجدل للفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ لعام 2007 حول أن ارتفاع مستوى سطح البحر لن يتجاوز الـ59 سم بحلول نهاية القرن، علمًا أن المجتمع العلمي تجاهل هذه الأرقام ووصفها بغير الواقعية بالكاد بعد أن تم الإفراج عنها، ومع ذلك فإن معهد بحوث الشواطئ استمر في استخدامها لسنوات لاحقة، وذلك في الوقت الذي أصبحت فيه مجمعات البحوث العلمية تقدر متوسط ارتفاع مستوى سطح البحر في العالم بمتر واحد إلى مترين على أقل تقدير بحلول عام 2100، وفي الوقت الذي دعا فيه محمد الراعي، وهو خبير بارز في تخصص ارتفاع مستوى سطح البحر في مصر، لتأسيس خطط التنمية استنادًا إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بمترين، قرر مركز أبحاث الإسكندرية للتكيف مع تغير المناخ مباشرة عمله بتوقعات ارتفاع تتراوح ما بين 140 إلى 200 سم.
وبالمحصلة يمكن القول إن التركيز على السيناريوهات غير المحتملة أو أفضل السيناريوهات المحتملة هو إجراء مضلل وغير مسؤول في أفضل وصف له، فحتى ضمن أدنى التقديرات، دلتا النيل قد تصبح مكانًا مختلفًا، إذ إن ارتفاع مستوى سطح البحر سوف يسارع من وتيرة التآكل ويزيد من توغل مياه البحر، مدمرًا بالنتيجة الموارد الاقتصادية والطبيعية لهذا الجزء الحيوي من مصر.
من سيتكيّف؟
في هذا السياق من التغير المناخي، وبغض النظر عن بعض الاستثناءات، يكون بعض الأشخاص أكثر تأثرًا تجاه التغير المناخي من غيرهم، وهذا أمر مسلم به على نطاق واسع، ولكن الأسباب الكامنة خلفه يتم تجاهلها من قِبل صناع السياسة في مصر؛ فالضعف والمقاومة ليسا عشوائيان ولا طبيعيان، بل إنهما نتاج اجتماعي ظهر إثر عقود وقرون من النزاع والتفاعل داخل وبين السكان المحليين، الدولة، الرأسماليين، والقوى الاستعمارية، فضلًا عن الجغرافيا الطبيعية.
الطريقة التي تأثر بها الأشخاص في دلتا النيل تتبلور من خلال تجربتهم الموروثة في نزع الملكية وسرقة الأراضي والقمع، حيث تم تشريع هذه الممارسات أثناء الاحتلال البريطاني من خلال سياسة التوسع في زراعة القطن وخلق فئة من العمال غير مالكة للأراضي، وأيضًا من خلال قانون الإصلاح الزراعي الذي أصدره الرئيس المخلوع حسني مبارك عام 1992 والذي عمد إلى تسليط كبار ملاك الأراضي وطرد مئات الآلاف من صغار المزارعين من أراضيهم، وقد أشرف على كلتا العمليتين اللتين تمتا تحت مسمى التنمية والحداثة، ائتلافات مختلفة من الأعمال التجارية المحلية، عمال المكاتب الإدارية، والقادة العسكريين، والذين عملوا بالتحالف مع رأس المال الدولي والقوى الاستعمارية الجديدة، سواء تلك المتمثلة بالإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر، أو وكالات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في أواخر القرن العشرين.
أولئك الذين يضعون ويصوغون خطط الاستجابة لظاهرة الاحتباس الحراري لا يعترفون بهذه الجذور التاريخية للظلم المناخي، بل إن الدرس المستفاد من التاريخ بالنسبة للمسؤولين الحكوميين وبعض الأكاديميين، هو أن سياسات التكيف الهيكلية المطبقة في ثمانينيات وتسعينات القرن المنصرم أثبتت فعالية الضغط الخارجي، والفكرة تتمحور هنا حول تكرار هذه العملية، حيث ستعمد النخب المحلية إلى التوسع بالزراعة المعتمدة على رأس المال والمخصصة للتصدير الخارجي، والتوسع بتجارة الكربون الإقليمية، موجهة ومرغمة على ذلك من قِبل خبراء الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي، والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، ولكن ذات هذه المصارف العامة تموّل مشاريع الملكية الخاصة التي تتهرب من الضرائب، وتشجع برامج خصخصة الخدمات الأساسية مثل المياه والنقل، كما تقدم إعانات لصناعة الوقود الأحفوري الملوِّث، بما في ذلك التنقيب عن النفط في مصر ومشاريع التكسير الهيدروليكي المحتملة في تونس، وفي الوقت عينه يسعى الاتحاد الأوروبي لتأمين السيطرة على الغاز من خلال توسيع خطوط الأنابيب في أسيا الوسطى وعبر الصحراء، بالتوازي مع منعه للأشخاص من اتباع ذات الطرق، وعسكرته للبحار المحيطة به، مما يتسبب بإغراق الآلاف من المهاجرين في البحر المتوسط كل عام.
المؤسسات المصرية هي جزء من هذه العملية، فمعهد بحوث الشواطئ الذي يتخذ الإسكندرية مقرًا له يضع في قمة أولوياته مقترحات التكيف التي تحمي السياحة والمصالح التجارية الكبيرة، ويعتبر جذب رؤوس الأموال من الأهمية بمكان بحيث أن موظفي المعهد ينتقصون من أهمية خطر تغير المناخ، “إذا قلنا إن لدينا مشكلة كبيرة فإن المستثمرين سيسحبون أموالهم ويضعونها في مكان آخر، وبهذا لن تتطور المنطقة الساحلية، وهذا ضد سياساتنا، نحن بحاجة لتطوير هذه المناطق، وبحاجة إلى أشخاص مهتمين بها، ولا نريد أن يساورهم الخوف في أي وقت من الأوقات”.
هذا النهج التكيفي في مصر يتفق مع العقيدة السائدة بين مستشاري السياسة المناخية ذوي الرواتب العالية، الذين يزعمون بأننا نستطيع التعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري من خلال تعزيز السياسات القائمة، ويروّجون للحلول القائمة على مبدأ الفوز على كافة الأصعدة، التي تسمح باستمرارية النمو وتحد من المخاطر السياسية، ويتجاهلون عمدًا الأخبار والتبنؤات السيئة وينعتونها بأنها مجرد أقوال “مثيرة للقلق”، كما يصورون المستقبل منخفض الانبعاثات الكربونية على أنه على بعد خطوة واحدة منا فحسب، ومن وجهة نظرهم الإصلاحات التقنية وأدوات السوق قادرة على تحييد هذا التهديد، وهذه مرحلة جديدة يصفها راي بوش بأنها “اعتداء أيديولوجي مستمر على الحكومات الأفريقية بما يضمن انصياعها للإصلاح السياسي الخارجي والتحرر الاقتصادي”.
الأشخاص الذين يرسمون سياسات التكيف في المنطقة يفشلون بالغالب في الإجابة على السؤال “من سيتكيف؟”، فخطط التكيف القائمة على التدخلات التكنولوجية ليست محايدة سياسيًا أو اجتماعيًا، فمثلًا تدابير التكيف مع ارتفاع مستوى سطح البحر في دلتا النيل يمكن أن تشمل إعادة توزيع الأراضي لأولئك الذين هم في أشد الحاجة إليها، وبنفس الوقت يمكن أن تشمل إجراءات الإخلاء القسري الجماعي لصغار المزارعين؛ بغية أن يحل مكانهم ما يُفترض أن يكون الصناعات الزراعية الأكثر كفاءة، كما يمكن أن تشمل هذه الخطط بناء الجدران البحرية لحماية المنتجعات السياحية والبنية التحتية للنفط، أو بناء الأسوار البحرية لحماية السكان والإنتاج الغذائي المحلي، وبذات الطريقة التناقضية، إعطاء الأولوية بإمدادات المياه لأولئك القادرين على دفع مبالغ أكبر، أو توفير توزيع للمياه أكثر إنصافًا.
جميع ما تقدم يعتمد على أيديولوجية المؤسسة التي تقدم المقترحات؛ كون سياسات التكيف يمكن أن تتراوح ما بين إدخال آليات السوق التي تمنح الأولوية للشركات الكبيرة، أو تنفيذ برامج جماعية تهدف للدعم المتبادل، والتكيف من هذا المنظور قد ينطوي على نجاح فئة اجتماعية واحدة على حساب فشل فئة أخرى، ولكن السؤال هل سيكون التكيف عادل؟ مربح؟ ديمقراطي؟ فاشي؟
اختلالات كبرى في الحضارة
على أرض الواقع، التحول الجذري للعلاقات السلطوية الحالية، ليس مبررًا فحسب، بل إنه أمر لا مفر منه أيضًا، فوفقًا لدراسة حديثة نُشرت في مجلة نيتشر المعنية بتغير المناخ، منع ارتفاع درجة حرارة الكوكب بدرجتين مئويتين لم يعد ممكنًا ضمن القيود السياسية والاقتصادية التقليدية الحالية، علمًا أن معظم الحكومات تعتبر هاتين الدرجتين على أنهما عتبة يصبح بعدها تجنب التغير المناخي أمرًا مستحيلًا، كما أن هذا المستوى من درجات الحرارة يهدد بحصول اختلالات رئيسية كبرى في الحضارة.
وفقًا لكيفن أندرسون وأليس باوز، من مركز تيندال لأبحاث التغير المناخي، الصمت على مخاطر استمرار النمو يرجع إلى “تغلغل مخالب الاقتصاد في علم المناخ”، ويقول العالمان بأن “التصريحات العلمية والسياسية المريحة والمتفائلة بسذاجة تتغافل عن الانقطاع الحاصل ما بين علم تغير المناخ والهيمنة الاقتصادية”، ويصفان استحالة القدرة على خفض الانبعاثات الكربونية بشكل كافٍ في ظل النظام الاقتصادي القائم، وصعوبة تحقيق التكيف العادل بدون تغيير النخب التي تصنع القرارات.
التغير المناخي اليوم يدمر المجتمعات في كل مكان، مسفرًا عن مقتل 300.000 شخص سنويًا، ومع ذلك، فإن 99% من الضحايا هم من النصف الجنوبي للكرة الأرضية، وفي مصر بالتحديد، الطقس الأشد حرارة يعني زحف المرض، من خلال انتشار المياه والحشرات الحاملة للأمراض القادمة من المناطق المدراية لتصل إلى الملايين من البشر في مصر الذين لم يتعرضوا لهذه المعضلات مسبقًا.
المصريون قد يواجهون الجوع المميت مع احتمالية تدمير المحاصيل ونفوق الثروة الحيوانية، والمدن الساحلية الكبرى مثل الإسكندرية تواجه خطر الغمر، وحتى إذا ضرب الجفاف أو الفيضانات الدول الخارجية، فإن سكان المدن المصرية الذين يعتمدون على المواد الغذائية الأساسية المستوردة مثل القمح والأرز سيكونون عرضة لتقلب الأسعار، مما قد يتركهم غير قادرين على إطعام أنفسهم.
ارتفاع درجات الحرارة والإجهاد الحراري قد يقتل الآلاف، خصوصًا العمال الريفيين الذين لا يستطيعون تجنب العمل الشاق والعمل في الهواء الطلق تحت حرارة الشمس المحرقة، والبنية التحتية الضعيفة تعني أن الشعب سيكون أكثر عرضة للتأثر بموجات الجفاف والعواصف والفيضانات، مع احتمالات إجلاء محدودة.
باختصار، الكوارث تقتل أعدادًا كبيرة من الفقراء، وأعدادًا أقل للغاية من الأغنياء، كون الطبقات العاملة الريفية والحضرية تفتقر إلى الموارد التي تمكّنها من البقاء على قيد الحياة، بما في ذلك المساكن الآمنة، المياه النظيفة، والقدرة على السفر، وبالمقابل، الطبقات الغنية الحاكمة لا تبقى على قيد الحياة فحسب، ولكنها أيضًا تستفيد من الكوارث، وذلك من خلال استغلالها لفرصة تشريد السكان وإعادة الإعمار لفرض النظم التي تلبي مصالحهم، ومن داخل مجتمعاتها المغلقة والمكيّفة، تستخدم طبقات النخبة تجارة الكربون، الأراضي المستولى عليها، وتحويلات المياه، لزيادة سيطرة القطاع الخاص على الموارد التي كانت عامة، مثل الهواء والماء والأرض، ومع ذلك، هناك بدائل تسمح لنا بتحقيق تكيف عادل، بعيدًا عن مبدأ الربحية.
النضال لتكيّف أكثر عدلًا
الغالبية العظمى من الكتابات حول التغير المناخي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تأتي على ذكر القمع أو المقاومة، محاولة بذلك إخفاء النضالات الشعبية الجارية في الداخل على قدم وساق؛ فالفقر والحرمان وصلا إلى درجات قاسية وشديدة في مصر منذ فترة طويلة، وكانا المحرك الرئيس لثورة 25 يناير، فمن ميدان التحرير إلى بورسعيد وأسوان، كانت هتافات “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية” تتردد متعالية على مدى السنوات الثلاث الماضية، ولا أحد كان يفكر في المناخ في خضم المواجهة مع قوات الأمن المركزي، ولكن الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية هم نقاط انطلاق جيدة لتحقيق تكيّف عادل.
التكيّف مع التغير المناخي يعني البقاء على قيد الحياة في وجه المحن والمصاعب، والمزارعون في مصر لطالما أصروا على البقاء على قيد الحياة رغم القمع الشديد الذي تمت مواجهتهم به، وذلك من خلال المقاومة السرية والعلنية لملاك الأراضي والدولة الذين حاولوا قصارى جهدهم لمصادرة أراضي الفلاحين، كما استثار قانون الإصلاح الزراعي الذي أصدره مبارك عام 1992 معارضة هائلة في الريف المصري خلال التسعينات، مع قيام المستأجرين بالنهوض للدفاع عن أرزاقهم، وقيام اللجان الفلاحية المقاومة للقانون 96 بتنظيم ما لا يقل عن 200 مؤتمر ريفي لتحدي السلطات، على الرغم من القمع الذي مارسته الدولة ضدهم والذي أسفر عن أكثر من 100 قتيل، وخلال ذات الفترة، رفض المزارعون في شمال الدلتا الامتثال للتعليمات الحكومية التي تهدف إلى الحد من زراعة المحاصيل الغذائية المحلية مثل الأرز، لتحويل إمدادات المياه للمحاصيل الزراعية الصناعية والقابلة للتصدير، ولكن المزارعين عارضوا الدولة من خلال تكثيف زراعة الأرز، وقابلتهم الحكومة حينئذ بإصدار عقوبات تتراوح بين الغرامة بمبلغ 250.000 جنيه مصري إلى التهديد بالسجن.
بطبيعة الحال لم يخسر الشعب جميع المعارك، فالصيادون والمزارعون في جزيرة القرصاية في القاهرة منعوا الجيش المصري من مصادرة أراضيهم؛ ففي الوقت الذي اقتحم به الجيش أولًا الجزيرة الواقعة ضمن النيل بالجرافات وبقوة عسكرية مقدرة بـ100 جندي في عام 2007 في محاولة لطرد القرية بأكملها، قاوم السكان المحليون هذه الحملة، فضلًا عن مقاومتهم لعمليات التوغل المتكررة التي حدثت في السنوات التالية، ورفضوا مغادرة منازلهم، وبعد أن قتل الجيش الصياد المصري محمد عبد الموجود البالغ من العمر 20 عامًا خلال غارة وحشية في نوفمبر من عام 2012، أقام السكان المحليون الحواجز على طول طريق البحر الأعظم، واشتبكوا مع الشرطة، وبعدها سرعان ما انضم نشطاء من حركات لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين، حركة شباب 6 ابريل، وكذلك حركة مصرّين، إلى نضال سكان الجزيرة بعد أن تم سجن بعض المواطنين بتهم ملفقة، وبالمحصلة تمكن شعب القرصاية حتى الآن من الاحتفاظ بأرضه، وكذلك فعل المزارعون في جزيرة الدهب المجاورة، الذين قاوموا محاولات مشابهة لسرقة أراضيهم منذ عام 2001.
بالإضافة إلى ما تقدم شهدنا موجة إثر الأخرى من موجات المقاومة الشعبية لمشاريع البنية التحتية التي تهدف لاستخراج الوقود الأحفوري واستهلاكه؛ ففي عام 2011 و2012، حشد تحالف واسع من الصيادين والسكان المحليين القدرات لمواجهة مصنع أسمدة موبكو في دمياط، واشتبكوا مع الشرطة حتى استطاعوا إغلاق المصنع، وبعد تضرر أو انهيار حوالي 70 منزلًا في قرية فارس قرب أسوان نتيجة لأعمال التكسير والحفر التي قامت بها شركة دانة للتنقيب عن النفط في مكان قريب من القرية، أغلق القرويين الطريق الصحراوي وهاجموا موقع الحفر.
كما استمرت الاعتصامات وتجمعات الشوارع والاحتجاجات في إدكو طوال عامي 2011 و2012 حتى اضطرت شركة النفط بريتيش بتروليوم لتجميد بناء محطة الغاز لأكثر من سنة، قبل أن تننازل عن مشروعها وتتعهد بعدم بناء المحطة بأي مكان بالقرب من المدينة.
وفي أوائل عام 2014، ضمت حركة “مصريون ضد الفحم” قواها مع قوى المجتمع في وادي القمر في الإسكندرية في المعركة المستمرة ضد التلوث الناجم عن مصنع لافارج للأسمنت، وفي مارس، هددت اللجنة الشعبية المحلية بإجراء اعتصامات بعد أن أعلن وزير الصناعة أن مصانع الأسمنت سيُسمح لها باستخدام الفحم.
إذن، في مصر يكافح المواطنون ويقاتلون على الخطوط الأمامية في معركة التغير المناخي، وإننا عندما نرفض أن نرى الصلة التي تربط هذه الصراعات بتخفيف آثار التغير المناخي والتكيّف معه، لا يبقى أمامنا إلا أن نعترف بأن التغيير سيأتي من الخبراء أو بطريقة فوقية تنتهج مسلكًا يعالج الموضوع من أعلى إلى أسفل.
تخيّل وبناء مستقبل جديد
فشلنا الجماعي في منع حدوث التغير المناخي الكارثي أو في التكيف معه له أسباب عديدة، وتشمل العوامل الرئيسية لهذا الفشل علاقات القوة غير المتكافئة والخيال غير الخلاّق، فمعظم الكتابات المرتبطة بهذا الموضوع في الدول العربية تجسد هذا الفشل، كونها مازلت أسيرة للاقتصاديات الليبرالية الجديدة الخاضعة للنهج الجيوفيزيائي الذي يتجاهل وجود النضال على أرض الواقع، وبغض النظر عن وجود بعض الاستثناءات القليلة، فإن نهج “الواقعية السياسية” الذي تتبعه هذه الكتابات يقدم تحليلات وحلول مربحة لأعمال الشركات التجارية.
أندرسون وباوز يحثاننا على “ترك اقتصاديي السوق يتحاربون فيما بينهم لتحديد السعر المناسب للكربون، لأن العالم يتحرك إلى الأمام، ونحن بحاجة لأن نتمتع بالجرأة اللازمة للتفكير بشكل مختلف وتصور مستقبل بديل”، ويتطلب ذلك تخيل مستقبل خارج إطار المفاهيم الليبرالية الجديدة والمفاهيم السلطوية، كما يتطلب فهمًا للكيفية التي يتداخل ويتقاطع فيها المناخ مع الطبقة الاجتماعية والسلطة.
وهذا النهج يتطلب وجود بحوث في الاقتصاد السياسي المعني بتغير المناخ في المنطقة العربية تحقق في العلاقات القائمة ما بين صناعات الوقود الأحفوري، النخب الإقليمية، ورأس المال الدولي، وبالفعل باشر مالمو وإسماعليان هذا العمل من خلال تحدي الصياغة ذات النظرة الجيوفيزيائية المحدودة التي تميز معظم الكتابات الأكاديمية التي تتحدث عن التأثيرات المناخية في مصر، وفي خضم التطوير الجاري لخطط التكيف، وضخ الأموال في المشاريع الهندسية الكبيرة، ينبغي لنا أن نسأل عن المصالح التي يتم الدفاع عنها؟ والأشخاص المستفيدين من هذه المقاربات؟ وعن الكيفية التي سيتم من خلالها السيطرة على توزيع المياه والأراضي في سياق ارتفاع درجات الحرارة العالمي؟
التغير المناخي سيحث التحول الأكثر عمقًا في الذاكرة الحية في مصر، وربما في ذاكرة الجيل القادم أيضًا، وإذا انحصرت معركة تحديد طرق التكيف في مصر ما بين القوات العسكرية والقوى الليبرالية الجديدة، فمن ثم سيكون الشعب هو الخاسر الأكيد، ولكن هذا الاندفاع المتهور لزيادة تعويل مجتمعاتنا على الوقود الأحفوري يمكن منعه وإيقافه، وهناك سبب وجيه يحبذ إمكانية الوصول إلى التكيف العادل، فعلى الرغم من تصاعدة قوة العسكر والحرس القديم الذي نشهده حاليًا، بيد أن الثورات العربية أظهرت بأن التصدعات ضمن هذه الأنظمة هي أمر ممكن.
الحركات الاجتماعية المصرية التي تناضل من أجل إعادة التوزيع العادل والتعاون والعدالة، قادرة على بلورة إستراتيجيات تحولية للتعامل مع التغير المناخي، وهذا المستقبل البديل لن يتم ابتداعه في أبراج النايل سيتي، أو في المؤتمرات العالمية التي تُعقد تحت رعاية البنك الدولي، أوفي مؤتمرات القمة التي تعقدها الأمم المتحدة، وبدلًا من ذلك، النقاشات الأصيلة والحقيقية حول التكيف العادل يمكن أن تنبثق من الملايين التي تعيش في الأحياء الفقيرة والقرى الصغيرة، هناك حيث الأسئلة حول السلطة هي عميقة للغاية وتنخر في صميم المجتمع ويستحيل تجاهلها، في فضاءات تشبه المجالس الشعبية التي ملأت شوارع إدكو، والتي ناقشت مستقبل الطاقة بدون وجود شركة بريتيش بتروليوم.
الجماعات الشعبية في أجزاء أخرى من العالم تعمل أيضًا على التأسيس لحلول ناجحة، ففي عام 2013، تبين أن لجان الاستجابة للإعصار التابعة لجمعية سلفادور المانغروف هي أكثر فعالية من خطط حكومة الولايات المتحدة للإخلاء، وفي ذات العام وحّدت الجمعية الكبرى للمتقاعدين في لندن الكبرى جهودها مع الناشطين في مجال المناخ للمطالبة بمنازل دافئة ولمعارضة البنية التحتية الجديدة للغاز، كما أن أعضاء الاتحاد الوطني لعمال المعادن في جنوب أفريقيا يؤسسون بفعالية لشبكات عمال دولية تناصر الانتقال العادل.
مبادرات الجماعات الشعبية هو المكان الصحيح الذي يجب أن نبحث فيه عن سبل البقاء على قيد الحياة في مصر، ورغم أن إيجاد طرق تكيف عادلة وديموقراطية ستحمل في طياتها العديد من الصعوبات، نتيجة لردود الفعل المكثفة والعنيفة التي قد تصدر عن أصحاب الأعمال التجارية الكبرى والجيش، اللذان سيحاول كل منهما فرض رؤيته للمستقبل، مدفوعًا بسياسات التربّح والاستغلال، بيد أن هذا هو السبيل الناجح الوحيد البديل عن الدمار.
المصدر: جدلية