تحولت الرؤية الاستراتيجية لأنقرة تجاه تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” فجأة، فقررت تركيا الانخراط في الحرب على التنظيم بعدما وقفت موقف الرافض للدخول في حرب صريحة على داعش مع بقية التحالف الدولي ضد التنظيم، وهو ما أثار حفيظة القوى الغربية تجاه السياسة التركية.
ففي تحرك سريع ردًا على هجوم انتحاري طال منطقة حدودية تركية مع سوريا، انقلبت تركيا على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وشنت الطائرات التركية أولى ضرباتها الجوية ضد التنظيم في سوريا، فيما يبدو أنه إعادة تقدير من الأتراك لموقفهم السابق في ظل تصاعد المشكلة الكردية، وهو ما رأته القيادة التركية فرصة مناسبة للتدخل في سوريا بنفسها بعدما كان هذا القرار مؤجل إلى حين.
البعض رأى في هذه الحملة التركية على التنظيم مجرد جولة تركية جديدة في سوريا تحت عنوان داعش ولكن الهدف الأساسي التركي سيكون ممثلًا في الأكراد ونظام الأسد، وهو ما يقول عنه محللون أنه اتضح في المطلب التركي بمنطقة عازلة على الحدود التركية السورية وهي خطوة لا شك بأنها استباقية أمام الأكراد والنظام السوري.
بدخول داعش في خط المواجهة مع الأتراك فقد التنظيم أحد ممرات أفراده الآمنة بعدما شنت السلطات الأمنية التركية حملة مداهمات واسعة في مدينة مانيسا والعاصمة أنقرة اعتلقت خلالها عددًا من المشتبه بهم بدعم وتجنيد أعضاء لصالح تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” كما قامت الخارجية التركية بتشديد إجراءات الحصول على تأشيرات لدخول تركيا في عدد من البلدان التي يُرجح أنها تصدر مقاتلين إلى التنظيم.
فيما تبنت الحكومة التركية هجمات واضحة وصريحة على مواقع التنظيم التي تقع بالقرب من الحدود التركية السورية أسفرت عن خسائر فادحة للتنظيم، وكذلك سمحت تركيا للولايات المتحدة باستخدام قاعدة “أنجرليك” العسكرية الجوية لضرب تنظيم “الدولة الإسلامية” وهو بالتأكيد سيعطي لهذه الضربات أثرًا وقوة أكبر من ذي قبل، كما أرسل الجيش التركي تعزيزات إلى بلدة قارقامش في إقليم غازي عنتاب المقابلة لمدينة جرابلس بريف محافظة حلب السورية، والخاضعة لسيطرة مسلحي التنظيم، وهو ما يعني مواجهات أكثر ضراوة.
فبعد أن استفاد تنظيم الدولة الإسلامية من تركيا طوال الفترة الماضية قرر أن يفتح جبهة أمام الأتراك دون مبرر، وبهذا سيكون التهديد التركي للتنظيم صريح وبشكل أكثر جدية من ذي قبل، فلن تعود تركيا ملجأ آمن لتهريب مقاتلي التنظيم وسيتم تشديد الرقابة على الحدود، كما سينضم خصم عسكري عنيد كالجيش التركي إلى المواجهة الدولية المفتوحة مع داعش وهو الجيش الأقرب من سوريا القادر على إيلام التنظيم أكثر من الضربات الجوية الدولية العشوائية إلى حد كبير بفضل الاستخبارات التركية المنتشرة على الحدود السورية التركية، كما تزامن هذا مع النظرة السلبية التركية إلى داعش بسبب هزائم التنظيم أمام الجيب الكردي في سوريا وهو السبب الرئيسي لصمت تركيا عن داعش في السابق.
أما بالنظر إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية المستفيد كثيرًا من تركيا فإنه قرر أن يضم تركيا إلى قائمة أعدائه بشكل غريب، فقد بث المكتب الإعلامي في “ولاية الرقة” التابع لتنظيم الدولة الإسلامية إصدارًا مرئيًا يحمل عنوان “رسالة إلى تركيا”، يهدد التنظيم في رسالته الحكومة التركية ويتوعدها بالانتقام بعد قصف الطيران التركي مواقع عدة للتنظيم، وقد بثت الرسالة عبر عناصر تركية ينتمون إلى التنظيم.
اتهم هذا الإصدار الداعشي المصور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بموالاة الأمريكان والأكراد، كما اتهموا الجيش الحر بالولاء لتركيا، كما دعا الإصدار المصور الشعب التركي إلى “التوبة” من تأييد أردوغان وحزبه ومن ثم قتاله بعدما أكد أنه يعمل على تسليم ما أسمها “القسطنطينية” إلى ما أسماهم “الصليبيين”.
بهذا يكون التنظيم قد دخل في طور العداء الصريح مع الدولة التركية وسيسخر التنظيم إمكانياته للرد على القصف التركي لمعاقله، فأبرز الأوراق التي يلعب بها التنظيم ضد تركيا هي مسألة استهداف السياحة التركية، فبعد استهداف مواقع داعش في سوريا من قبل الجيش التركي، انتشرت دعوات بين أنصار التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو مقاتلي التنظيم إلى إرسال ما أسموهم “السياح الجدد” إلى تركيا في إشارة إلى الانتحاريين، فيما حذروا من ذهاب السياحة التركية إلى مصير السياحة التونسية بعد استهداف التنظيم لها.
فسلاح تنظيم الدولة وتهديدها الرئيسي لتركيا هو استهداف الداخل التركي بعمليات انتحارية موجعة وهو الأمر الذي تدركه تركيا جيدًا، فقد شنت السلطات التركية حملة اعتقالات واسعة في الأيام الماضية، عقب مقتل جندي تركي على الحدود مع سوريا، حيث اعتقلت في اسطنبول وحدها 103 أشخاص متهمين بالانتماء إلى تنظيم الدولة ومنظمات كردية، هذا وقد أوضحت السلطات في تركيا، أن من بين الذين تم توقيفهم، هم “خالص بايانجوك” الملقب بـ”أبو حنظلة”، وهو مشتبه به في تكوين خلية تنتمي للتنظيم في مدينة اسطنبول التركية.
كما أعلنت تركيا في السابق أنها ضبطت قرابة 30 حزام ناسف في النصف الأول من هذا العام ربما تعود هذه الأحزمة إلى عناصر من تنظيم داعش داخل تركيا كانوا يخططون لاستخدامها في أهداف داخل تركيا.
فاستهداف السياحة هو المصدر الرئيسي لتهديدات داعش ضد تركيا الآن لما تشكله السياحة من أهمية للاقتصاد التركي، إذ يستقبل الداخل التركي أكثر من 40 مليون سائح سنويًا من جنسيات مختلفة حول العالم، كما تمثل السياحة في اقتصاد تركيا أيضًا رقمًا مهمًا للغاية، حيث يصل رقم الدخل السياحي إلى ما يقارب 40 مليار دولار، وتحتل تركيا المرتبة السادسة عالميًا في مؤشر السياح القادمين إليها، وبالطبع فأي عمليات إرهابية انتحارية كالتي تنتهجها داعش سوف تؤثر بشكل بالغ السلبية على هذا القطاع الحيوي المتأثر بطبيعة الحال من الأحداث السياسية الإقليمية.
لذا تعمل السلطات التركية الآن على تأمين جبهتها الداخلية بعد أن فُتحت عليها جبهتي حرب في آن واحد من جانب تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من جهة وواشتعال الصراع مع الأكراد من جهة الأخرى، كما يعلم الأتراك جيدًا أن تنظيم الدولة الإسلامية يمثل تهديدًا جديًا لهم وأن الحرب ضده لن تكون من طرف واحد كما يتوقع البعض، وهو ما دعى الجيش التركي لإعداد مخطط لاحتمال إقامة “منطقة عازلة على الحدود الجنوبية للبلاد في مواجهة تهديد عناصر تنظيم “داعش” في كل من العراق وسوريا وإن كان للأمر مآرب سياسية أخرى.