ثمة رأي يقول إن موافقة تركيا مؤخرًا على المشاركة في حملة التحالف ضد داعش بعد جولات طويلة من المفاوضات لم يكن في جوهره إلا ذريعة لإضفاء مزيد من الشرعية وللتغطية على حربها ضد قوات حزب العمال الكردستاني وامتداداته في سوريا، في الوقت الذي يقوم به الحزب بأدوار متصاعدة تتعارض مع المصالح التركية في الداخل والخارج وتحديدًا في سوريا.
وكانت تركيا قد وضعت في وقت سابق عدة شروط للسماح لطائرات التحالف باستخدام أجوائها والانطلاق من قواعدها، ومن هذه الشروط أن يتم مواجهة نظام الأسد من خلال إعلان منطقة حظر طيران، وأن يتم تحديد التفاصيل المتعلقة بتأهيل قوى المعارضة السورية من جهة، وأن يتم إعلان إستراتيجية حل شاملة للأوضاع في العراق وسوريا من جهة أخرى.
وتعد هذه الموافقة تغيرًا في الموقف التركي مع حالة عدم الإعلان عن تحقق الشروط التي وضعتها أنقرة سابقًا، لكن من المهم أيضًا الإشارة إلى حدوث متغيرات على المستويين الداخلي والخارجي، حيث لم يتمكن حزب العدالة من الفوز بعدد المقاعد اللازم لتشكيله الحكومة بمفرده، كما يضاف لهذا سيطرة وحدات الحماية الشعبية على المدن المحاذية للحدود التركية بمساعدة القصف الجوي للتحالف، وكذلك الحديث عن وجود علاقات كردية إيرانية متصاعدة.
وعلى كل حال فقد فتحت تركيا النار على داعش وعلى حزب العمال الكردستاني بعد تفجير مدينة سروج في 20 يوليو الماضي، ولكن ومن خلال رصد المواقف الأمريكية والغربية لضرب مواقع لحزب العمال الكردستاني من قِبل الجيش التركي فإن هناك عدة نقاط تستدعي التوقف منها إعلان واشنطن أن الضربات التركية لحزب العمال ليست ضمن الاتفاق، وأن المنطقة المتفق عليها بين مارع وجرابلس بعمق 50 كيلومترًا ليست منطقة آمنة بل منطقة خالية من داعش، ثم الحديث بأن الرد التركي على الأكراد يجب أن يكون متناسبًا.
وفي تفصيل هذه النقاط يمكننا القول إنه تزامنًا مع قيام تركيا بقصف مواقع للحزب أعلنت واشنطن أنها تعتبر الحزب منظمة إرهابية وقالت إنها تؤيد الضربات التركية له من أجل الحفاظ على أمنها، وفيما لم يجف حبر الاتفاق – إن كان مكتوبًا – بين أنقرة وواشنطن بخصوص مشاركة تركيا في التحالف ضد داعش، أعلنت واشنطن بالرغم من تصنيفها للحزب كمنظمة إرهابية أن قيام أنقرة بقصف الأكراد ليس له علاقة ولا صلة بالاتفاق الذي تم بينهما مؤخرًا والذي أعلنت تركيا بموجبه بعد اتصال هاتفي بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قبولها للمشاركة في التحالف وسماحها بفتح قاعدة إنجرليك أمام طائرات التحالف.
ولعل هذا التصريح الأمريكي لا يبدو قريبًا للتصديق خاصة أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما في زيارته لكينيا مؤخرًا ووفقا لتصريح مصدر مسؤول لرويترز كان قد أكد أن لتركيا الحق في التصدي للمتمردين الأكراد، كما جاء تصريح مشابه لهذا التصريح على لسان بريت ماكرجيك نائب المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف.
ومع ترجيح أن الضوء الأخضر الأمريكي قد أُعطي لأنقرة من أجل ضرب معاقل حزب العمال الكردستاني ضمن المباحثات التي قام بها الجنرال جون ألن في أنقرة فإن النفي الأمريكي لا يبدو منطقيًا من وجهين أحدهما أن قيام تركيا بعمليات قصف في العراق دون ضوء أخضر من واشنطن بالتزامن مع مشاركتها في التحالف غير متصور، أما الوجه الآخر فهو عدم تحقق أي من الشروط التركية السابق حيث لا يوجد حديث عن مكاسب تركية كبيرة من وراء فتح قاعدة إنجرليك التي بقيت أنقرة متمسكة بقرار إغلاقها في وجه قوات التحالف ضد داعش ما دامت شروطها .
لكن للأمر دلائل أخرى منها أن هذه التصريحات التي تجعل أمريكا في حل من التبعات المباشرة للتطورات الناتجة عن القصف التركي، تبقيها محافظة على علاقاتها مع الأكراد وتحديداً في سوريا، حيث ما زالت تعتبرهم أحد أهم القوى في مواجهة داعش في ظل الرفض الدولي للمشاركة بقوات برية، وهذه واحدة من نقاط التوجس في الاتفاق بين واشنطن وأنقرة.
وتكمن النقطة الثانية في الاستمرار في التأكيد أن المنطقة التي تم الاتفاق عليها مع تركيا ليس منطقة حظر طيران ضد نظام الأسد وليست منطقة خالية من الأكراد الذين تخشى تركيا من مطالبهم المتصاعدة بإنشاء كيان شمال سوريا، بل منطقة خالية من داعش، ويبدو أن كلا من الطرفين التركي والأمريكي يعد هذه المنطقة مهما اختلفت تسمياتها مقدمة لتطبيق أفكاره ورؤيته في المستقبل، حيث تراها واشنطن مدخلاً للاستفادة من المزايا التي توفرها تركيا للتحالف، فيما تراها أنقرة عائقًا أمام المشروع الكردي الذي يريد ربط كوباني بعفرين، ومنطلقًا للمعارضة السورية، ومع وجاهة هذا التصور إلا أن الواقع والترتيبات الحالية تؤكد تفوق رؤية واشنطن.
أما النقطة الثالثة والتي تلت بدء عمليات التحالف انطلاقًا من قاعدة إنجرليك، فهي دعوة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تركيا للرد بشكل “متكافئ” على هجمات حزب العمال الكردستاني الجارية إلى الآن والتي أوقعت عدة قتلى بين العسكريين الأتراك، ورد عليها سلاح الجو التركي بضربات جوية.
وفي هذه النقطة تريد واشنطن أن تبقي على علاقاتها مع الأكراد والاستفادة من وجودهم كورقة لمصلحتها في كل القضايا الإقليمية التي تديرها كما أنها لا تريد أن تقدم لتركيا التي فتحت قواعدها للتحالف سوى ثمن بسيط يتمثل في بضع عمليات تأديبية لبعض مواقع حزب العمال الكردستاني وليس الدخول في معركة تؤثر فيه بشكل كبير.
ويعزز هذا الكلام ما صرح به المفوض الأوروبي يوهانس هان من بروكسل “أن على الرد التركي على حزب العمال الكردستاني ألا يشكل خطرًا على الحوار السياسي الديمقراطي في البلاد”، خاصة بعد النتائج الجيدة التي حققها حزب الشعوب الديمقراطية وعبوره للحاجز الانتخابي لدخول البرلمان في يونيو الماضي، وفي هذا السياق فإن هناك قناعة متنامية لدى الرأي العام التركي أن حزب الشعوب الديمقراطية هو امتداد لحزب العمال الكردستاني وهو الجناح السياسي له وأن قادة الحزب من الممكن أن يتوجهوا للقتال في جبال قنديل في أي وقت من الأوقات إذا دعت الضرورة، خاصة مع نبرة تخلي الحزب عن عملية السلام التي بدأها مع حكومة حزب العدالة والتنمية.
ومع هذه القناعة المتنامية فإن الضوء الأخضر الأمريكي لفتح تركيا المعركة مع حزب العمال الكردستاني يعتبر النقطة التي رأت فيها تركيا مكسبًا في المفاوضات؛ فمن جهة تقوم بتأديب حزب العمال الكردستاني ومن جهة أخرى تكبح سرعة تقوية العلاقات الأمريكية الكردية التي كانت تلوح واشنطن بها كورقة ضغط بديلة في حال احجمت تركيا عن المشاركة، ولعل هذا هو ما شجع أنقرة على فتح قاعدة إنجرليك، ولعل هذا التفسير أيضًا أقوى من القول بأن تفجير سروج الذي قامت به داعش هو السبب الأساسي، ومع اعتبار أثر التفجير إلا أن دوره قد يكون عاملاً في تسريع تنفيذ الاتفاق، وهو ما يضع علامات استفهام كبيرة على ملابساته.
ومع النقاط الثلاثة التي ذكرناها للموقف الأمريكي من ضربات تركيا لاتحاد العمال الكردستاني فإن الضوء الأخضر المتقطع في الموقف الأمريكي بمثابة أحد الأضواء في إشارة مرور يتم التحكم بها من واشنطن، ولهذا يبقى السؤال مفتوحًا: هل تستطيع تركيا تحمل تبعات قرارها؟ وهل الإجراءات الوقائية والدفاعية التي تقوم بها ستجنبها الانزلاق لعدم الاستقرار أم تعزز الاستقطاب السياسي وتقودها إلى خسارة أكبر؟