على الرغم من الأزمات السياسية العميقة بين تركيا وروسيا والتي تتمثل في الاختلاف الروسي التركي العميق في القضية السورية؛ حيث تعد تركيا ما يحدث في سوريا ثورة حرية بينما تتجه روسيا للادعاء على أنها مؤامرة دولية تهدف لإسقاط النظام الممانع لبعض الأنظمة الدولية الاستعمارية، والاختلاف الروسي التركي عميق في القضية الأوكرانية أيضًا؛ حيث تعد تركيا ما يحدث في أوكرانيا هو تدخل سافر من روسيا في الشؤون الداخلية لأوكرانيا بينما ترى روسيا أن من حقها الطبيعي التدخل في أوكرانيا من أجل حماية أمنها واستقرارها القومي وبأن الكثير من الولايات الأوكرانية مثل القرم ودونتيسك ولوغانسك هم من أرادوا الانضمام لروسيا بمحض إرادتهم.
ولكن على الصعيد الاقتصادي لا يبدو الأمر كذلك أبدًا، بل هناك توافق وتحالف وتعاون اقتصادي قوي بين تركيا وروسيا، إلى ماذا يُعزى هذا التعاون الاقتصادي بين الدولتين؟
في حقيقة الأمر هناك عدة مصالح مشتركة بين الدولتين تجعلهم يحذون الحذو النيوليبرالي في السياسة الخارجية والذي ينص على فصل الاختلاف السياسي عن العلاقات الاقتصادية وخط سيرها ويقضي بضرورة تطوير العلاقات الاقتصادية الاتحادية للحد من الاختلاف السياسي وإيجاد حل تعاوني له، هذه هي السياسة التي تسعى تركيا على وجه الخصوص إلى تحقيقها مع روسيا الغنية بالغاز الطبيعي وكما تسعى روسيا إلى تسيير خط اقتصادي إيجابي مع تركيا لحاجتها المُلحة لتركيا بعد خسارتها لأوكرانيا الخط الواصل بينها وبين أوروبا في السابق.
إذًا هناك مصالح اقتصادية مشتركة بين تركيا التي تحتاج إلى غاز روسيا الطبيعي وروسيا التي تحتاج إلى الخدمات اللوجستية التي تتمتع بها تركيا الواصلة بين أسيا والقوقاز وأوروبا، هذه الحاجة إلى التبادل الاقتصادي تم إعلانها بشكل مباشر وواضح بتاريخ 22 ديسمبر 2014 بعد توقيع اتفاقية اقتصادية شاملة بين هرمي الدولتين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين.
من ضمن مبادئ هذه الاتفاقية كان هناك تخفيض بنسبة 6% من أسعار الغاز الطبيعي من روسيا لصالح تركيا كمحفز إيجابي لها حيث كان هناك تلميح روسي بمد روسيا لعدة خطوط نقل غاز روسي تمر من تركيا لأوروبا فأرادت روسيا من خلال هذه الخطوة تقديم إكرام استباقي تثمر نتائجه في حين قبول تركيا لعرض روسيا مد خطوط الغاز الطبيعي.
واستمرت هذه التلميحات من رجال الدولة الروس من خلال الخطابات الرسمية وغير الرسمية، فقد ذكر أحد الخبراء العاملين في المجلس الروسي المختص بالعلاقات الروسية الألمانية ألكسندر راخر في تصريح صحفي أنّ “من الممكن جدًا أن نستعين بتركيا كبديل عن أوكرانيا لنقل غازنا الطبيعي إلى دول شرق الاتحاد الأوروبي”، دول شرق الاتحاد الأوروبي مثل اليونان ومقدونيا والمجر ودول البلقان عمومًا.
وتمت ترجمة هذه التلميحات للواقع من خلال طرح شركة غازبروم الروسية المنتجة والمصدرة للغاز الأممي الروسي الموضوع على الجهات التركية بشكل رسمي بعد الزيارة التي قامت بها في أعقاب زيارة الرئيس بوتين لتركيا، وخلال هذه الزيارة وبعد عدة محادثات استطاعت غازبروم بتاريخ 23 يونيو 2015 الحصول على إذن تركي رسمي للبدء بتحضير الدراسات الهندسية الخاصة بخط نقل الغاز من روسيا لأوروبا مرورًا بتركيا.
وذكر موقع ترك برس الإخباري المختص بالشؤون التركية بأن خط النقل سيكون اسمه “خط السيل التركي” وسيتكون من 4 خطوط نقلية: الخط الأول منه سيكون مخصص لتلبية طلب تركيا في الغاز الطبيعي وستكون الكمية التي ستخصص لتركيا حوالي 15 مليار مكعب، وأفادت وزارة الطاقة التركية في تصريح صحفي متعلق بهذا الخصوص بأن هذه الكمية إلى جانب الكميات التي حصلت عليها تركيا من كردستان العراق وإيران ستكون كافية بما فيه الكفاية لتلبية الطلب التركي وسيكون هناك فائض في عرض الغاز الطبيعي في تركيا الأمر الذي سيخفض سعر الغاز على المستهلك التركي وسيطور الصناعة التركية التي تعتمد على الغاز الطبيعي.
وجاء خط السيل التركي كبديل لخط السيل الجنوبي الذي تم تدشينه عام 1997 من خلال البحر الأسود والذي كان يُخطط استخدامه لنقل الغاز لأوروبا عمومًا ولكن بعد الأزمة الأوكرانية عارض الاتحاد الأوروبي عربدة روسيا في أوكرانيا واحتكارها للغاز الطبيعي، فعمل على مقاطعة الغاز الطبيعي الروسي الأمر الذي جعل روسيا تضطر للتباحث مع تركيا لمد خط السيل التركي على أراضيها ليصل لليونان ومن هناك إلى شرق أوروبا ودول البلقان.
هذا الخط ستكون له عدة فوائد على الجانبين التركي والروسي، حيث سيحقق كل منهما العديد من الفوائد والمصالح المشتركة، وسيترجم هذا الخط مدى احتياج روسيا لتركيا التي أصبحت بمثابة الجسر الواصل لها لأوروبا.