لأول مرة أراها تتحدث في حوار تلفزيوني على قناةBBC العربية، فاجأني ما رأيت، ما أوقفني لثوان لأتمعّن فيها وأستوعب أنها هي ذاتها! صوتها، شكلها، كلامها وشعرها المحلوق حتى آخره، رغم تقدم مرضها إلا أنها ما زالت بعيونها الجميلة المليئة بالحُبّ، نعم هي الفنانة الفلسطينية ريم بنّا بكلّيّتها..
لفتتني حروفها التي تنشرها على صفحتها الشخصية على “فيسبوك” والقوة والأمل النابض بالحياة في كلماتها رغم إصابتها بمرض السرطان بمراحل متقدمة. تابعتها بشغف.. أرى في ما تكتب حياة مختلفة عن الحياة التي نحياها، ففي عيونها أجمل. توهب الحياة للصبح وتُزهر بصفاء حروفها الأيام..
ريم، التي تَصُفّ كلماتها بجمال لا مثيل له، بمهارة تسرق قلبك وتعلّقك بها! التي تغنّي وتناضل لأجل أرضها وتتحدى مرضها وتتمسك بخيوط الأمل والنور، وتعبق برائحة زهر الياسمين. لو تأملت وجهها سترى الندى وبشائر بخير كبير. من تحمل في داخلها وطن، وتنتمي له بكُلها.
اللافت في قضيتها هو إصرارها ومُضيّها قُدما رغم كل ما تمرّ ب من آلام وأوجاع جسدية ونفسية، لكنها تبث معاني الاستمرار في كل خطواتها وتقول للعالم: “كلما ضاقت علي الدنيا.. اتّسعت ابتسامتي.. كلّما ضاقت الأرض.. اتّسع قلبي.. كلّما ضاقت العتمة.. اتّسع خيالي.. وكلّما ضاق جسدي.. اتّسعت روحي.. كلّما ضاقت الحياة.. اتسع صوتي.. في كل مرحلة من حياتي.. صعبة كانت أم جميلة.. أعرف كيف أغرف من عمقي حزمة ضوء أنثرها لتُشعّ على العالم..”
وتتابع بنّا بعد حلقها لشعرها إثر علاجها: “كُلّما نظرت إلى نفسي في المرآة.. اكتشف كم هي التفاصيل التي نلهث خلفها خدعة وسراب.. وأن ليس كل شيء باق على ما كان.. وأن ما غاب.. سيأتي أجمل منه حتما.. وأعرف أن هذا الوجه المُتّشح بالنور.. قادر على الانتصار.. وأني لست مريضة بمرض يُدمن على المناورة.. هذا المرض الذي يُسمّيه الطب ‘سرطان ثدي’، وأسمّيه ‘مراوغ مُشاكس مسكين’، قابل للانكسار لحظة نقلب حياتنا رأسا على عقب.. نرفض كل ما يوجعنا في حياتنا.. نتمرّد.. نتحرّر من كل المعتقدات والمخاوف والخجل.. وكلّما تحرّرنا.. كلّما انتصرنا بشراسة.. انظروا إلى ما وراء الأفق.. تجدون الشمس”.
تقف على المسرح بالثوب الفلسطيني لتحكي للعالم عن وطن يصرخ، لتعلن بصوتها عن تمسكها وتمسك شعبها بكل ذرة على هذه الأرض. كل تفاصيلها تُرسلك معها لعالم أصيل ملون، بين الحداثة والأصالة، تُريك التراث الفلسطيني الذي يعلّقك ببلدك أكثر وأكثر، ليهفو قلبك أكثر للعودة.
تعرّف عن نفسها بقولها: “أنا فلسطينية.. أعيش في فلسطين.. أناضل وأكافح من أجل بلدي وشعبي.. كُل وجُلّ اهتمامي هو القضية الفلسطينية وكُل قضية إنسانية عادلة في العالم.. لي موقف واضح: المقاومة ضد الظلم والاحتلال والقمع.. مع الحرية والعدالة الاجتماعية.. ومن أجل تحرير فلسطين من العدو الصهيوني الغاشم.. همّي عودة اللاجئين وتحرير كل المعتقلين السياسيين في فلسطين والوطن العربي.. واسترجاع الأرض المحتلة على كامل ترابها.. ضد سفك دماء الأبرياء واعتقال البشر لأنهم مع الحرية.. أحبّ الحياة.. والحلم والجنون والحرية.. أحب الموسيقى والكتابة وكل ما يتعلّق بالإبداع.. أحبكم”.
القارئ لريم سيجد أن من مخاض الألم تولد الحياة. فهي التي لم تعرف كيف تقول لأولادها عن مرضها وتماسكت بالبداية إلا أنها انهارت وهي تحكي لهم حين سألها ابنها إن كان سيعرفها عند حلقها لشعرها ما حرّك فيها آلامها وأوجاعها وبكت بشدة، إلا أن بكائها لم يوقفها بل دفعها، لم يُجمّد روحها بل أطلقها وأشعلها وبثّ فيها القوة التي بات يستمد منها الكثيرين.
كم ريم نحتاج في داخلنا وكم جسد سليم يعيقه طريقة تفكيره عن المضي قُدما، وكم منا يرزح تحت وطأة الأغلال ويكبّل نفسه بنفسه؟