تبدو منطقة سلوان في ولاية دياربكر المعروفة جنوبي شرقي تركيا أشبه بساحة حرب في سوريا، حيث استمرت المواجهات العنيفة فيها خلال الأيام الماضية بين حزب العمال الكردستاني وحركة الشباب الوطني الثوري الكردي من ناحية، وقوات الأمن التركية من ناحية أخرى، لتبدأ الحياة بالعودة إلى طبيعتها صباح الأمس باصطفاف طوابير الخبز أمام المخابز جنبًا إلى جنب مع العربات المدمرة والجدران المملوءة بآثار الرصاص الحي.
34 ساعة من حظر التجول مرت على المدينة لتختفي تمامًا مظاهر الحياة الطبيعية فيها في مقابل اشتداد القتال، وهو حظر مفاجئ لم يتسنى معه للسكان أن يشتروا ما يكفيهم، مما يفسّر امتلاء الشوارع فجأة بعد نهاية الحظر مباشرة، والاستثناء الوحيد كان صيدلية حي تَكَل التي ظلت مفتوحة أثناء المواجهات لإسعاف أي مرضى نظرًا لإغلاق المستشفيات أبوابها، حتى وصل الرصاص إلى أبوابها واضطرت للإغلاق.
“حين انتهى الحظر صباح اليوم وعُدت إلى المتجر الخاص بي، وجدت النيران تأكله، واتصلت بالمطافي ولكنها تأخرت كالعادة ولم يكن هناك ما يمكن إنقاذه، لقد فقدت ما قيمته 400،000 ليرة من الأقمشة ولا أدري من سيعوّضني الآن،” هكذا يقول أحد أصحاب محال الأقمشة في سلوان، والذي يقول السكان المجاورون له أن الرصاصات المتبادلة قد وصلت إلى متجره وأشعلت النيران.
هي رصاصات قوات الأمن بالطبع، هكذا يقول المتعاطفون مع المقاتلين أو الثوار، كما يسمونهم، من حزب العمال، أو رصاصات الإرهابيين كما يقول الرأي المضاد، والمتعاطف مع قوات الأمن والجيش التركي، والأغلبية هنا بالطبع متعاطفة مع حزب العمال في الآونة الأخيرة نظرًا للأحداث في سوريا وعودة الحكومة التركية لخطابها الحاد تجاه الأكراد، ولأول مرة في عهد العدالة والتنمية.
ماذا يحدث في دياربكر؟
“لا يمكن الفصل بين ما يجري هنا وما يجري لأكراد سوريا، فالحرب هناك هي الحرب هنا، وهي الحرب لأجل الكرامة الكردية،” هكذا تحدثت فَلَك هايمه التي ذهبت ابنتها سيلان لشمال سوريا للانضمام لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وثيق الصلة بحزب العمال، لمواجهة داعش، والتي هربت من تركيا عام 2008 بعد أن تلقت حُكمًا بالسجن لست سنوات لحملها صورة عبد الله أوجلان في مسيرة لحقوق المرأة بالمدينة.
“كل واحد منا فكّر يومًا ما في الانضمام لحزب العمال، ولكن الحرب في نظري ليست فقط أن تنتقل للجبال وتحمل السلاح، الحرب قد تكون هنا لاستعادة حقوقك وتحسين أحوالك،” هكذا قال شاب عشريني كردي يدرس الطب وهو جالس على إحدى المقاهي، رافضًا أن يعلن عن اسمه لكيلا يتم فصله، ومعبرًا عن التوتر الحاصل الآن في دياربكر وربما بين الأكراد أنفسهم، بين من يريد الاستمرار في المعركة المدنية لتوسيع هامش الحريات المكتسبة للأكراد في استخدام لغتهم وتنمية ولاياتهم، ومن يرى أن المعركة العسكرية لا بديل عنها في هذه المرحلة، كما رأت سيلان.
صورة سيلان على هاتف والدتها
الحكايات الشخصية تؤثر بطبيعة الحال، فالحُكم بالسجن على سيلان دفعها للحلول الراديكالية لا شك في ذلك، مثلها مثل الآلاف ممن تعرضوا لعُنف الشرطة التركية على مدار عقود، في حين هناك الملايين ممن يدركون أن مسار الحياة الطبيعية داخل الدولة التركية لا مفر منه، وأن الحرب في النهاية ستزيد الوضع تعقيدًا، وهو ما يراه عُمدة منطقة سور المركزية في دياربكر عبد الله دميرباش، والذي لا يزال يتعرض لضغوط كثيرة من الدولة منذ توليه منصبه.
معركة دميرباش هي معركة اللغة الكردية، والتي يحاول أن يُقنع السلطات أن تكون هي اللغة الأساسية المستخدمة في تسيير أمور المدينة ذات الغالبية الكردية، وهي لغة استخدمها بالفعل في طبع بعض المنشورات عن المنشآت الصحية لأهل المدينة في السابق، وكاد أن يحصل بسببها على عقوبة بالسجن، وهي عقوبة واجهها كثيرًا، ويقول محاميه أنه لو خسر كل القضايا التي رُفعَت ضده، لوصلت مدة سجنه إلى أكثر من أربعة قرون.
عبد الله دميرباش في حوار صحافي
يناضل دميرباش من أجل مناهج تعليمية أكثر دمجًا للروايات الكردية في التاريخ التركي، عوضًا عن المناهج الحالية والمنكفئة تمامًا على القومية التركية كما دشنها مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية، والشخص المكروه من غالبية الأكراد، وبشكل أوسع ربما ممن يتعاطفون مع حزب العمال، وإن كانت تلك الكراهية المشتركة من جانب الأكراد والإسلاميين قد دفعتهم للعمل سويًا على مدار العقد المنصرم، وفتحت باب عملية السلام بين أردوغان وأوجلان، فإن الأحوال قد تغيرت الآن على ما يبدو لا سيما وأن الكراهية كانت لأسباب مختلفة على الجانبين.
من طعن من في الظهر؟
كانت علمانية أتاتورك المتطرفة هي الأزمة الرئيسية للشرائح المحافظة الواسعة في الأناضول، والذين لم يبالوا كثيرًا بالقومية التركية، بل ويبدو أن الكثير منهم متلزم إلى حد ما بالأسس التركية للجمهورية، في حين كانت القومية بالطبع هي الأزمة الرئيسية للأكراد الذين تم قمع ثقافتهم ولغتهم وتمثيلهم في الحياة العامة باسم التجانس القومي التركي، وبينما اتحد الإسلاميون كممثلين للشريحة الأولى، والحركة الكردية كممثل لمعاناة الأكراد الطويلة، خلال السنوات الماضية، فإن الحسابات الآن قد اختلفت، وخلقت فجوة واسعة جديدة أعادت الحرب القديمة.
لم تعد هناك علمانية متطرفة إذن، وانتهت حرب المحافظين مع الدولة بانتصار المعسكر الأخير، في حين ظهر إلى السطح ملف الصراع في سوريا، والذي نجح حزب العمال الكردستاني عن طريقه في كسب دعم الأمريكيين بمواجهة داعش، وإرباك حسابات عملية السلام الجارية بين الدولة وحزب العمال داخل تركيا، وهو ما دفع تركيا لتغيير سياساتها والتي ترفض الآن وجود حزام لحزب العمال على حدودها الجنوبية، ومن ثم جرى ما جرى في كوباني وما بعدها، وتحول الرأي العام الكردي من تأييد حزب العدالة إلى الشعور بأنه قد طُعِن في ظهره من جانب أردوغان.
الطعن في الظهر هي حالة عامة متبادلة على ما يبدو، حيث يشعر الأتراك أيضًا بأن شرائح واسعة من المجتمع الكردي طعنت الدولة في ظهرها وذهبت لتحقيق حلم الدولة الكردية في سوريا بينما هي تتفاوض معها في نفس الوقت على عملية السلام، وهي مفاوضات لا يبدو أنها منعت حزب العمال من زرع العبوات الناسفة في طرق معيّنة بجنوب شرقي تركيا أثناء المفاوضات وقبل اندلاع الأزمة السورية، كما تشير الحوادث الجارية الآن على الأرض، والتي تُظهِر بجلاء ذلك المجهود المستحيل تنفيذه في الفترة القصيرة الماضية من عُمر الحرب.
نقاط التفتيش الخاصة بحزب العمال داخل تركيا كما نشر موقع روداو الكُردي
“لقد أرخت الدولة تمامًا من احتياطاتها الأمنية أثناء المحادثات، وهي فترة استغلها حزب العمال على ما يبدو لتعزيز خططه تحسبًا لفشل المفاوضات، ليقوم بالفعل بزرع عبوات ناسفة في أنفاق وجسور محورية لعبور القوات التركية حال عادت الحرب،” كذا قال أحد الخبراء العسكريين لصحيفة حريّت، والمحسوبة على التيار العلماني التركي الذي يميل لليسار، مشيرًا إلى وجود قنابل مزروعة من فترة ومدفونة باستثناء الأسلاك الضرورية لتفجيرها، وأن بعضها يمكن تفجيره باستخدام الهاتف المحمول عن بُعد.
علاوة على ذلك، وكما نشر موقع روداو المحسوب على الحركة الكردية، قام حزب العمال داخل تركيا بتدشين نقاط تفتيش خاصة به في منطقة دَرسيم (أو تونجَلي)، معلنًا عن “حُكم ذاتي ديمقراطي” كما قال بيان في إحدى التسجيلات الخاصة بالحزب والمنشورة على الموقع، وبينما تستمر الحكومة في اتهام حزب الشعوب بالعمل عن قُرب مع حزب العمال، يحار المرء فيما يقوم به حزب العمال وما إذا كان يضر في الحقيقة من محاولات حزب الشعوب جذب شرائح واسعة من الشباب التركي اليساري.
مسيرة مؤيدة لحزب الشعوب الكردي
***
على جانب إحدى الطرقات تقبع كومة من القمامة، ويبدو منها حذاء ضابط تركي مع قدميه، هو جسده المغطى بالقمامة أو ربما ما تبقى من جسده فقط لا ندري، وبينما من المُفتَرَض أن يقترب ضباط الجيش التركي لانتشال قتلاهم وجذب هذا الحذاء، فإنه يتحرى الدقة مؤخرًا قبل فعل ذلك نظرًا لانتشار تلك الخديعة من جانب حزب العمال، والذي يزرع دُمى في الحقيقة على هيئة أقدام ترتدي أحذية عسكرية إلى جانب عُلَب قمامة ناسفة لتنفجر في كل من أراد الاقتراب، مفترضًا بالطبع أنه سيكون الجيش التركي الحريص على أبنائه، وهو افتراض قد لا يكون صحيحًا بالطبع، ويفترض غياب أي دافع إنساني لدى الأكراد لانتشال جثة قتيل مجهول الهوية.
الكثيرون يفترضون إذن أن الآخر طعنهم في الظهر، ويفترضون في نفس ذات الثنائية الصلبة بين ذاتهم والآخر، وبين الأتراك والأكراد، أن فريقهم ينتمي لنفس الثنائية منزوعة الإنسانية تلك، وهو افتراض تكسره وقائع كثيرة على الأرض، ليس أقلها أن الحزبين المتناطحين الآن في ظل تلك الثنائية، وهما العدالة والتنمية الحاكم من ناحية والشعوب الديمقراطي الكردي من ناحية، يسقطان في الحقيقة تمامًا إن تحولت تلك الثنائية لحقيقة، إذ أن الأول لا تزال شرعيته مرهونة بالسلام مع الأكراد والتواجد في ولاياتهم، والثاني لا يمكن أن يحقق نجاحه السياسي دون التحول الكبير في صورته باعتباره حزب لتركيا كلها لا للأكراد فقط.
عدا ذلك، فإن أي انقسام فعلي يؤدي لظهور كيانين يعني فعليًا نهاية العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي في آن، وهيمنة القوميين في الغرب التركي ومقاتلي حزب العمال في الشرق الكردي، مع انهيار اقتصادي بطول البلاد وعرضها، ينال من الشرق أكثر من سواه، وهي نهاية لا يبدو أن أحدًا مستعد لها أو يريدها، على الرُغم من الدعايا المتطرفة التي تنشب بين الحين والآخر مطالبة بالاستقلال التام عن تركيا من ناحية، أو إبادة الأكراد من ناحية أخرى.