العراقيون التركمان: بين المطرقة والسندان

Turkmen%20JOHN%20OWENS2

ترجمة وتحرير نون بوست

كتب جوزيف أتامان وجون أوينز

في عام 1991 اشتعل التمرد في كافة أنحاء العراق، وحينها ترك التركمان منازلهم وحملوا السلاح لخوض حرب ضد قوات صدام حسين القمعية، ولمقاومة حملة الإبادة الجماعية التي شنها الأخير ضد الأقليات في العراق، واليوم وبعد 12 عامًا من سقوط صدام ما زال التركمان في العراق يقاتلون من أجل تحصيل حقوقهم والبقاء على قيد الحياة.

أحفاد العثمانيين الذين كانوا يسيطرون فيما مضى على كامل العالم العربي، التركمان المعتزون بلغتهم وتاريخهم المشرّف، يناضلون منذ فترة طويلة لاكتساب حقوقهم المسلوبة داخل العراق الحديث.

وكالكثير من مجموعات الأقليات الأخرى، سقط التركمان ضحية للتقدم السريع للدولة الإسلامية (داعش) عبر سورية والعراق في الصيف الماضي، وحاليًا، تتمثل خطوط الجبهة بين قوات البشمركة الكردية وتنظيم داعش بالأراضي التركمانية التاريخية، والتي تمتد من سورية وحتى إيران؛ ففي الوقت الذي نجت فيه كركوك من قبضة داعش، لا تزال المدن ذات الأغلبية التركمانية، مثل تلعفر، في أيدي تنظيم الدولة، ولا يملك المجتمع التركماني أن يفعل شيئًا سوى الصلاة من أجل سلامة إخوانهم وأخواتهم القاطنين في تلك المدن.

ولكن بعيدًا عن الخطوط الأمامية، مازال التركمان يواجهون معركة أخرى، المعركة الضروس التي يخوضونها ضد الأكراد، والتي حاربوا ضمنها وماتوا لأجلها في عهد صدام؛ ففي وقت سابق من هذا الشهر، أصدرت الهيئة العليا لإنقاذ التركمان، وهي مجموعة تركمانية ناشطة، بيانًا يدين محافظ كركوك الكردي لسياساته التمييزية، التي يُزعم بأنها تهدف لاجتثاث الوجود التركماني من المدينة، وفي الوقت الذي تضرب فيه جذروهم بالأرض العراقية منذ زمن ينوف عن الألف عام، يشعر المجتمع التركماني اليوم بأنه أكثر ضعفًا من أي وقت مضى.

قنبلة موقوتة

“لترجمة أفكارهم على أرض الواقع، وللحصول على النتائج التي خططوا لها، أعتقد أن الأكراد مستعدون لمهاجمة التركمان أو العرب أو أي فئة أخرى”، قال سامي كولسوز، وهو شخصية بارزة في حزب حق التركماني لصحيفة ميدل إيست آي، وتابع موضحًا “جميع ما عانيناه، والأوقات الصعبة التي واجهناها في عهد صدام، والتمييز الذي مورس ضدنا؛ كعدم إمكانية شراء منزلًا لأنك تركماني، أو عدم حصولك على وظيفة لذات السبب، جميع ذلك عشناه وعانينا منه سويًا مع الأكراد”، ولكن مع ذلك يشعر كولسوز بأن التركمان يواجهون تمييزًا أكبر تحت حكم الأكراد مما كان عليه الوضع في ظل حملة صدام لتعريب كركوك.

واليوم، ومع عدم الاستقرار التي تشهده العراق منذ العام الماضي والوضع السيء بالمنطقة على وجه العموم، طفت هذه المظالم على السطح وبرزت في الواجهة.

مكتب قاسم قازانجي في مقر الجبهة التركمانية العراقية، تم استهدافه بالطلقات النارية من سيارة تحمل أكرادًا على متنها في وقت سابق من هذا العام، ولكنه يشير إلى أن الملاحقات القضائية لمثل هذه الهجمات أصبحت عسيرة بشكل متزايد

منذ فرار الجيش الوطني عند مواجهة داعش الصيف الماضي، أصبحت كركوك بالكامل تحت سيطرة البشمركة، مما أثار غضب العديد من التركمان، “الأكراد ينحدرون من نفس مدينتنا، ولكن هذا لا يعني أن يسيطروا على كركوك بالكامل عندما يأتون لحمايتها”، قال قاسم قازانجي، عضو مجلس مدينة كركوك من الجبهة التركمانية العراقية، وأضاف موضحًا “نحن ضحينًا بـ50 أو 60 شهيدًا في الرمادي، ولكن هذا لا يعني أن نسيطر على المدينة ونبقيها تحت حكمنا”.

سيطرة البشمركة على المدينة بشكل كامل، أسفر عن منع وحدات التعبئة الشعبية المدعومة حكوميًا من الدخول إلى حدود المدينة، ولكن اللواء التركماني في وحدات التعبئة، عبد الحسين، يقلل من شأن التوترات القائمة بين الميليشيات الكردية والتركمانية حيث يقول “نتمتع بعلاقات جيدة مع البشمركة، ولا يمكننا أن نقول بأننا لسنا سعداء، بل إننا سعداء لأننا لسنا بحاجة لهم”.

ومن وجهة نظره، يبدو حسين مرتاحًا تجاه مستقبل مدينته، حيث يوضح قائلًا “بالطبع إذا تم حل جميع المشاكل المتعلقة بداعش، فإن جميع السكان سيعودون إلى أراضيهم كما كانوا قبل عام 2014، ليروا ما يقرره الساسة هنا، وعندها سيتسلمون المناصب في مدينتهم”.

ريناد منصور، الباحث في الشأن العراقي في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، يعتقد بأن ضعف الحكومة المركزية في بغداد يصب في مصلحة التطلعات الجيوسياسية لأربيل الكردية، “السياسة العامة لحكومة إقليم كردستان العراق تُظهر بأنها تعمل بمثابة حامية للأقليات، وهذا هو الخطاب العام الذي تحاول الحكومة الكردية الترويج له، ولكن من الواضح أننا لا نستطيع أن نسبغ على مقاربات الحكومية الكردية صفة الإيثار والغيرية، لأن هذا يهمل تمامًا العنصر الجيوسياسي في سياستهم” يقول منصور.

ويستطرد منصور قائلًا “بالنسبة للعديد من القيادات الكردية قضية حكم كركوك لم تعد مطروحة على طاولة المفاوضات بعد الآن، ففي وقت مبكر من يونيو من العام الماضي قال رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، كركوك هي بلدنا”، وإن كل هذا التمسك والإصرار مرتبط بما قاله يومًا جبل الطالباني، الذي أطلق على كركوك في أحد الأيام اسم “قدس الأكراد”.

لا اندماج بدون تمثيل

ولكن المظالم التركمانية لا تقتصر فقط على أربيل؛ فمنذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، فشلت الحكومات العراقية المتعاقبة بمعالجة مسألة التمثيل السياسي لهذه الأقلية.

“نحن نخضع لضغطين متلازمين، ضغط من بغداد، وضغط من أربيل” يقول كولسوز، ويتابع “الضغط من بغداد يهدف إلى مصادرة المزيد من حقوقنا كبشر وكمواطنين عراقيين، ولكن الضغط من أربيل ينقسم إلى شقين، الأول يهدف إلى سلب حقوقنا، والثاني يضغط علينا لقبول كركوك كأحد الممتلكات المشروعة لأربيل”.

النقص الواقع في الخبرة السياسية التركمانية، وهي نقطة الضعف القاتلة لدى هذه الفئة، يرجع جذوره إلى التمييز التاريخي الذي مورس ضدهم؛ حيث يقول كولسوز “نظام صدام حسين لم يسمح لنا بإقامة الأحزاب السياسية، لذلك لا نتمتع بخبرة سياسية مقارنة بخبرة الأكراد في هذا المجال”.

حاليًا، يشغر السياسيون التركمان حوالي 20% من مقاعد مجلس مدينة كركوك، ولكن القادة التركمان يشيرون إلى أن القومية التركمانية تشكل حوالي ثلث المدينة.

سامي كولسوز من حزب حق التركماني يلقي باللوم على الحكومة العراقية لتقصيرها بتحرير الأراضي التركمانية التي لا تزال محتلة من قِبل داعش

من وجهة نظر عضو مجلس مدينة كركوك، قازانجي، فإن ضعف تمثيل التركمان يمتد إلى الإدارة العامة للبلاد، “نحن لا نريد نظامًا طائفيًا داخل القواعد العسكرية، أو داخل الشرطة، أو داخل أي مبنى حكومي، ولكن هذه الأشياء أصبحت أمرًا واقعًا”، يقول قازانجي، ويتابع “لذلك نحن نريد أن يكون كل شيء متوازنًا عرقيًا، حتى نتمكن من العمل معًا والعيش معًا ضمن هذا البلد”.

التضحية الكبرى، والمكافأة النهائية

تعبون ومرهقون من تجاهلهم المستمر من قِبل حكومتهم ومن قِبل المجتمع الدولي، يتحول التركمان الآن إلى الملاذ الأخير، السلاح؛ ففي الوقت الذي لا يفكر فيه أي منهم بالثورة، يأمل العديد من التركمان بأن القوة العسكرية التركمانية الخاصة سوف تستقطب الاحترام والاعتراف والحماية التي يتطلبها مجتمعهم.

“حتى الآن لم يكن لدينا قوة عسكرية خاصة، لدينا بعض العناصر في الجيش، ولكن ليس ضمن النسبة التي نحتاجها” قال قازانجي، واستطرد موضحًا “قرانا وأرضنا تم احتلالها من داعش، ونحن بحاجة إلى هذا النوع من القوة لحماية أراضينا، ممتلكاتنا، وعائلاتنا”.

بشكل عام، جميع قادة التركمان الذين التقينا بهم كانوا يصرون على أن القوة العسكرية التركمانية الخاصة هي أمر ضروري في خضم سعي المجتمع التركماني لتحصيل حقوقه والاعتراف بها، حيث يتطلع الشعب الآن للحصول على دعم رسمي من حكومة بغداد، ويقول كولسوز “نحن لن نؤسس لأي ميليشيا خارج إطار القانون، ونحاول الحصول الآن على اعتراف من الحكومة لإنشاء قوة واحدة تنتمي إما لوزارة الداخلية أو لوزارة الدفاع”، ويستطرد كولسوز موضحًا، “نحن نؤمن بعراق موحّد، عراق واحد، من زاهو إلى الفاو، وإذا احتاجت أي منطقة في العراق للحماية، فإننا سوف نكون هناك لأجلهم”.

سارع التركمان فيما مضى للانخراط في قوات الحشد الشعبي التي يسيطر عليها شيعة العراق، بغية الدفاع عن الأراضي العراقية، حيث لاقى العشرات من التركمان حتفهم في كافة أنحاء البلاد، ويأمل حسين، قائد التركمان في الحشد الشعبي، أن تؤدي تضحية مجتمعه إلى منحهم بعض من مطالبهم التي طال أمد مناداتهم بها من قِبل الحكومة المركزية في بغداد، “لا يزال لدينا العديد من التركمان الذين يحاربون في محافظات مختلفة”، يقول حسين، ويتابع “إذا كانوا يريدون منا أن نذهب للقتال في الموصل، نعم، يمكننا أن نذهب للقتال هناك، وسنذهب حيثما يريدوننا أن نذهب”.

سحب مظلمة تغطي سماء المستقبل

الأحزاب التركمانية متشتتة ومنقسمة حول العديد من القضايا، فالسياسة العرقية للجبهة التركمانية العراقية، وحزب حق التركماني الأكثر انعزالية، يقفان بشكل منفصل أمام الاستقطاب العلني الذي يحرزه الاتحاد الإسلامي لتركمان العراق، في حين تحبط الرابطة الوطنية التركمانية المدعومة من الأكراد قوى جميع هذه الأحزاب، وبالنتيجة يؤدي هذا التشتت إلى ارتباك الصوت السياسي التركماني وانقسامه على نفسه.

بعض التركمان الموالين للأكراد نادوا بتقديم بعض التنازلات مقابل الحكم الكردي، ولكن خبير الشؤون العراقية منصور يعترف بأن مسألة دعم التوسع الكردي هي مسألة مثيرة للجدل ما بين التركمان، حيث يقول “بعض التركمان يريدون ربما أن يتسلم تركماني منصب نائب رئيس حكومة إقليم كردستان، ولكن المشكلة هي إمكانية أن يتم اختيار هذا المسؤول من قِبل الأكراد، ليصبح دمية بين أيديهم”.

العلم الأزرق مع الهلال الذي يمثل تركمان العراق يظهر إلى جانب العلم الفضي والأحمر لحزب حق التركماني، ويعلوهما العلم العراقي 

على الرغم من أن تركيا لطالما دعمت تركمان العراق، بيد أن التحول الجيوسياسي الحاصل مؤخرًا في إدارة أنقرة من قِبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حول تركيا باتجاه دعم الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، مما أدى لإحداث تداعيات خطيرة على تركمان كركوك؛ فتركيا هي سوق كردستان الرئيس لتصدير النفط وللتجارة، لذا تلاشت بغضاء وأحقاد الماضي ما بين الغريمين، بغية تحقيق المكاسب الاقتصادية، وهو الأمر الذي يعلق عليه كولسوز قائلًا “بالنسبة لتركيا السياسة الاقتصادية تأتي أولًا، ومن ثم السياسة السنية، ونحن نأتي في المركز الثالث”.

سبق للقوات الخاصة التركية الاضطلاع بعمليات تدريب الجنود التركمان في الماضي، ولكن منذ صعود داعش، خفتت قضية التركمان لتصبح غير ذات أهمية ضمن إستراتيجية تركيا الإقليمية الجديدة، وبدون داعمين أقوياء، فإن تركمان كركوك لا يتمتعون سوى بعدد قليل من الحلفاء.

بعد سنوات من توقفه عن القتال، لا يزال كولسوز يحمل مسدسًا مدسوسًا ضمن الحافظة المصنوعة من الكتان المعلقة على خصره، “العراق مكان خطير اليوم”، وخلال انتقاله للحديث عن المستقبل، ازدادت تعابيره القاتمة، واعتلت وجهه نظرة ألم، حيث قال “لا نعرف ماذا يخبئ لنا المستقبل، ولكنه سيكون سيئًا للغاية بالنسبة لنا، التركمان لن يستطيعوا تغيير أي شيء، وسوف يتحولون إلى رماد”.

المصدر: ميدل إيست آي