تُقصف المدينة ذاتها كل مرة من قِبل الطيران الأسدي دون التفريق بين مدني وعسكري وبين رجل وامرأة وبين شاب ورضيع، موقعة عشرات القتلى ومئات الجرحى والعالم يقف مذهولاً لا يحرك ساكنًا، فها هي مدينة دوما المنكوبة الواقعة بالريف الدمشقي والتي تسيطر عليها المعارضة السورية تضرب موعدًا جديدًا مع مجزرة جديدة ارتكبتها طائرات الجيش السوري الذي شتت جمعهم وفرق شملهم ودمر ديارهم قبل أيام موقعة بينهم نحو مائة قتيل ومئات الجرحى في مذبحة جماعية تُعد من بين الأكثر دموية منذ بداية الحرب سنة 2011.
21 أغسطس هو اليوم الذي لم ينسه كل سكان غوطة دمشق ونسيه العالم عندما قُصفت المنطقة بالأسلحة الكيماوية التي بلغ عدد القتلى فيها 355 قتيلاً حسب منظمة أطباء بلا حدود و1466 وفق ما أكدته المعارضة السورية.
تضاربت الروايات عن المتسبب في جريمة الحرب وتقاذف طرفا النزاع التهم ولكن منظمة هيومن رايتس ووتش قالت إنها تملك أدلة تشير بقوة إلى أن هجومًا بغاز سام على مقاتلين من المعارضة السورية نفذته قوات الحكومة السورية وذلك بعد تحليل العديد من المعطيات الهامة.
مجزرتان ارتكبتهما قوات النظام في عامين أوقعت فيهما مئات القتلى وآلاف الجرحى والعالم يكتفي بالتنديد والوعيد وببيانات التضامن والوقوف إلى جانب الشعب السوري الذي أضحى نصفه مهجرًا تحت أعين الأمم المتحدة التي عبّرت فقط عن ذهولها.
هول المجزرة يصفه المصور الصحفي لوكالة الأنباء الفرنسية “فرانس برس” الذي قال إن ما رآه في المدينة كان أشد قسوة مما شاهده بعد قصف المدينة بالسلاح الكيميائي قبل عامين، وروى كيف أن سكان الحي المنكوب أُصيبوا بحالة هستيريا وهم ينقلون الجرحى إلى مستشفى ميداني وكان عدد كبير منهم ملقى على الأرض لعدم وجود أسرة كافية.
المجزرة الأخيرة التي استهدفت سوقًا شعبية في قلب المدينة المحاصرة زادت السوريين ألمًا وزادت النظام الدولي بهتة وصمتًا أمام ما يرتكبه النظام من فضائع على مرمى ومسمع منه والذي اكتفى كعادته بالتنديد والاستنكار لاستهداف المدنيين العزل دون أن يتحركوا كما عهدناهم إبان الثورة الليبية حين أسرعوا بالتدخل الجوي لقصف الميليشيات الموالية لنظام معمر القذافي وقصف مخازن الأسلحة الإستراتيجية التي يملكها العقيد لكي لا تقع بيد المتمردين المتطرفين.
أكثر من 130 ألف قتيل سقطوا جراء “الحرب الأهلية السورية” التي دخلت عامها الرابع وخرجت من طورها السلمي المنادي بالحرية والديمقراطية إلى طورها المسلح المنقسم بين جماعات مقاتلة على الأرض منها من ينادي بالديمقراطية والعلمانية ومنهم من ينادي بالشريعة الإسلامية.
4 سنوات مرت ومازال الشعب السوري يعاني ويلات الحمم التي أهداها له النظام عن طريق طائرات الميغ والبراميل المتفجرة والصورايخ الموجهة روسية الصنع.
كل هذه الهدايا التي وصلت السوريين كانت مصدرها روسيا التي لم تبخل يومًا ما على النظام من أجل تزويده بكل وسيلة تزهق الأرواح وكان آخرها تزويده بـ 6 طائرات ميغ 31 حديثة روسية الصنع وفق اتفاقية تسليح مبرمة بين البلدين وذلك حسب ما أعلنته وكالة سبوتنيك الروسية للأنباء.
المصدر نفسه أكد حصول دمشق على دفعة جديدة من صورايخ كورنت 5 متطورة ومدفعية من عيار 130 مم وذلك ضمن خطة التسلح التي تم توقيعها بين البلدين منذ 3 سنوات.
الحلفاء الروسيون لم يبخلوا على النظام السوري طيلة الصراع المسلح في سوريا بل قدموا كل خبراتهم من أجل تدريب عناصر من الجيش السوري حيث يتواجد عدد من الضباط والخبراء العسكريين الروس على الأراضي السورية منذ بداية الثورة بل كشفت فيديوهات مسربة في سنتي 2012 و2013 عن وجود عناصر من الجيش الروسي تقود المعارك في سوريا رفقة حزب الله والميليشيات الشيعية.
إن كبار الخبراء الإستراتيجيين يؤكدون أن روسيا هي المستفيدة الأولى من تردي الأوضاع السياسية في كل من طهران ودمشق لما سينعكس من إيجابيات على قطاع الطاقة والنفط خاصتها وازدهار مبيعاتها للأسلحة للبلدين.
هذه الأسباب وغيرها جعلت قائد قوات الإنزال الروسية الفريق الأول فلاديمير شامانوف، يعلن يوم الثلاثاء 4 اغسطس، أن القوات الخاصة ستقوم بمساعدة الحكومة السورية في حربها الحالية ضد الإرهابيين، إذا تلقوا الأوامر بذلك وقال شامانوف للصحفيين، ردًا على سؤال حول استعداد قواته لتقديم المساعدة العسكرية للحكومة السورية، في محاربة الإرهاب “تلك القرارات تتخذها الحكومة، ونحن بطبيعة الحال، سننفذ المهمة إن كلفنا بها”.
العلاقة الجيدة بين الجانبين الروسي والسوري لم تكن بسبب صداقة متينة تربط بلدين بقدر ما هي مصالح مشتركة بينهما؛ ففي الحالة السورية تتعاظم المصالح الروسية ولعل أبرزها محافظة روسيا على موقعها الوحيد في المنطقة العربية من خلال الأهمية الإستراتيجية لقاعدة طرطوس البحرية السورية التي تستخدمها القوات البحرية الروسية والتي تعتبر قاعدة التموين الوحيدة للأسطول الروسي في منطقة البحر المتوسط.
الدب الروسي لا يهتم بالدماء التي تسال في سوريا بسبب تأجيجه ودعمه المستمر للنظام الحالي فليس غريبًا على روسيا التي قتلت عشرات الآلاف من القوقازيين أن تلتزم الصمت أمام جرائم الإبادة الجماعية التي تُرتكب على مرمى ومسمع العالم والتي قد عصفت بالسلم الأهلي السوري الذي لن يعود إلى سابق عهده ولو بذلت المعارضة المسلحة أضعاف ما تقوم به الآن من بسط الأمن في مناطق نفوذها لأن العشائرية والطائفية والأخذ بالثأر سيكونوا أبرز عناوين مرحلة ما بعد رحيل الأسد الذي سيظل في سلطانه إلى حين اتفاق القوى الإقليمية الكبرى على البديل المناسب الذي سيشغل منصبه.
الروسيون مازالوا يقتلون الشعب السوري والمشارك أو المتستر عن الجريمة والمؤجج لها في القانون الدولي يعاقب وإن كانت العقوبات متفاوتة ولكن قانون العقوبات في العالم اليوم يسري على الضعفاء الذين لاحول لهم ولا قوة في مواطن صنع القرار بل هم خاضعون إلى ما تقرره القوى الكبرى في مجلس الأمن وهذه القوى لا تجتمع على مصلحة الشعوب بقدر ما تجتمع على مصلحة الجيوب الممتلئة بالأموال الطائلة التي حصدوها جراء الدماء الطاهرة التي سالت في العالم بأسره و ليس في المنطقة العربية فقط بل في كل منطقة وصلها نفوذ القوى الكبرى وإن كانت جزيرة نائية يعيش بها بدو خارجون عن سلطتهم المستبدة.
هكذا شاءت الأقدار أن يعيش الشعب السوري بين نار النظام المدعوم من عدة أطراف إقليمية وبين نار المعارضة المسلحة المدعومة أيضًا من قوى كبرى والخاسر الوحيد ذلك السوري الطامح برغيف خبز يسد به رمق جوعه وشربة ماء لم تتلوث بما يلقيه النظام من أسلحة كيماوية متنوعة.
لا يسعنا أن نقول في الأخير إلا رحم الله كل من سقط من المدنيين في هذه الحرب السورية المتواصلة وآخرهم أبرياء مجزرة دوما التي كشفت لكل عاقل زيف الدعاوى المرفوعة من القوى الإقليمية الكبرى من احترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها والعيش الكريم التي ظلت حبيسة اتفاقيات دولية ومواثيق أممية لم يكتب لها التطبيق في ظل قانون الغاب السائد في هذا العالم.