احتشدت الأيام الماضية بتكهنات صاخبة وغير منتظمة حول مسألة استقالة الرئيس الفلسطيني “أبومازن” من رئاسة السلطة وطلب المغادرة من المقاطعة صوب البيت والعائلة، فحين ذكرت مصادر بأن الاستقالة باتت تلوح في الأفق، أجابت مصادر أخرى بأنها قراءات إسرائيلية بحتة وتهدف إلى إحباط الرأي العام الفلسطيني، وحين تكررت الأنباء عن نفس المسألة، ردت مصادر مقربة وعاجلة أيضًا بأن أبو مازن ليس من الذين يهربون أمام مسؤولياتهم، وفي كلا الحالتين كانت الأجوبة مقبولة، لاسيما وأن الحكومة الإسرائيلية لم تكف يومًا عن مواصلة مساعيها الرامية إلى إزاحة الرئيس إلى الجانب بعد أن سئمت مواقفه بشأن التسوية السياسية وبعد أن عافت خواطره باتجاه المؤسسات الدولية، حيث داومت على وصفه بأنه لم يعُد شريكًا في عملية السلام ولم يعُد موثوقًا به باعتباره غير قادرٍ على إبرام اتفاق سلام، كما وأنه لا حول له في لجم الفلسطينيين ومنعهم من مواصلة نشاطاتهم الاحتجاجية والمُقاوِمة ضد الإسرائيليين، إضافة إلى- وهذا الأسوأ -، حين بات لديها متهمًا بغض الطرف عن بعض الأنشطة السابقة، بُغية تحقيق مكاسب.
ومع الاستمرار على نفي تلك الأنباء، وتأسيسًا على أن لا أحقية لأعضاء اللجنة التنفيذية في الاستقالة قبل يوم انعقاد المجلس الوطني، لكن تحديثاتها تدل على أن استقالة الرئيس باتت مؤكدة، وخاصةً حين وفرت ما يفيد بقرب استقالته و7 أعضاء آخرين، وإن كانت تحت بند عدم التقدم مرة أخرى لعضوية اللجنة كما في حالته أو على بند الاحتجاج على أوضاع داخلية خاصة كما في حال الأعضاء، وذلك لإيجاد مسوغ قانوني- حسب الدستور الفلسطيني – لتوجيه الدعوة لانعقاد المجلس الوطني، لانتخاب لجنة تنفيذية جديدة.
وما دامت الأمور حول هذه المسألة تسير على هذا النحو، فإن أحدًا لن يكون مُتفاجئًا فيما لو تحققت على الواقع، بسبب تراكم الكثير من المؤشرات بشأنها، لاسيما بعد أن كان “أبومازن” يحاول الإقناع بأن الجلوس في البيت يجعل من الانتقال إلى مرحلة جديدة أمرًا سهلًا، وخاصةً في ظل اطمئنانه على أن تلك المرحلة لن تفلت قيادتها من أيدي حركة فتح، والذي استلم رئاستها منذ وفاة الرئيس “أبوعمار”، وبأن الأوضاع السياسية وأمور الناس الحياتية ستسير كما يرام.
ولا شك، فإن الحق معه بكامله، إذ ليس من المحتمل ولا يَرِد إلى بال أحد بأن تحدث تغييرات جوهرية أو ذات قيمة مُلفِتة بشأن سياسة السلطة، كما أنه من غير المتوقع ولا في أحسن الأحوال أن يتم انتقالها إلى “عبدالرحيم ملّوح” عن الجبهة الشعبية، أو “نايف حواتمة” عن الديمقراطية أو “جميل شحادة” عن الجبهة العربية أو غيرهم، بسبب ما تمثله حركة فتح من أغلبية وما يُحيط بها من أثقال سياسية على مدى تاريخها، والتي تضمن مكوثها على رأس السلطة في الضفة الغربية على الأقل وبقائها على رأس السياسة الفلسطينية لدى العالم.
لكن الذي يجب علينا عدم نسيانه أو تجاوزه، هو الخيال الإسرائيلي الذي سيكون حاضرًا على مدار الساعة لتأكيد دوره الكبير باتجاه ضبط الأمور سواء كان ذلك مباشرةً أو بطرقٍ مؤثرة أخرى، حيث سيتعين على المرشحين الجدد، اتباع الرقابة الذاتية الصارمة والحرص عليها إلى جانب مراعاتهم متطلبات المرحلة بالنسبة لإدارة الصراع مع إسرائيل، فضلًا عن ضرورة المحافظة وبأقصى قدرٍ ممكن على مواصلة تشغيل ملف التنسيق الأمني، وذلك ترتيبًا على اتفاقات أوسلو، وهو الذي لا يزال العمل به ساريًا وبالقدر الذي يُعطي إسرائيل جانبًا مهمًا من الحكم.
قد يكون ما سبق قوله غير مقبول أو مبالغ فيه، ولكنه بالتأكيد يُعتبر مؤكدًا، لاسيما وأن إسرائيل ومن يقف على رأسها على قناعة بضرورة فرضها سلطة ما، وإن كان بحجة أن السلطة الفلسطينية ضعيفة وستكون ضعيفة أكثر إذا ما غاب الدور الأمني الإسرائيلي، سواء من أمام حركات جهادية مُقاوِمة، كحركة حماس والجهاد الإسلامي في هذه الأثناء، أو من أمام الدولة الإسلامية (داعش) في المستقبل.
ويدل على ذلك أن إسرائيل بنفسها هي من تقوم بتنبيه السلطة في كل مرة أو حتى الصدّ عنها لدى كل طارئ، ومن ناحية ثانية، فإنها ترى مبدأ تواجدها في المكان باعتباره حتمي، وفي ضوء تكاثر النشاطات الفلسطينية ضد إسرائيليين ومستوطنين، وقوات الجيش الإسرائيلي على نحوٍ خاص.
إننا أمام اتجاهين مختلفين، إما أن يمضي أبومازن باتجاه الاستقالة، لإنهاء مسيرة ولإفساح المجال أمام قيادة فلسطينية جديدة، وإما أن يقوم بتقويض تكهنات الكاهنين، من خلال قيامه باستبدالها بقفزة نوعية – مُفاجئة – تهدف إلى تحسين واقع، كالإعلان عن دولة فلسطينية تحت الاحتلال، والتهديد بحل السلطة، وبرغم أن من السهل التخمين بحصول واحدة منهما، لكن لا أحد يمكنه الجزم، في شأن معرفة إلى أين ستقود الأوضاع التالية، أي ما بعد الاستقالة أو ما بعد القفزة.