البداية كانت بتجدد الاشتباكات في مدينة سرت الليبية – التي تقع على بعد 450 كيلومترًا شرق العاصمة طرابلس – بين مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذين يقطنون بالمدينة وبين بعض سكانها إثر محاولة التنظيم السيطرة على الحي السكني الثالث الواقع في وسط المدينة بعد أن حاصره من كافة الاتجاهات، حدث ذلك بعد ثلاثة أيام من إعلان وزارة الدفاع في حكومة الإنقاذ الوطني بطرابلس بدء ما أسمتها عملية تحرير مدينة سرت من تنظيم الدولة الذي يسيطر عليها منذ شهرين.
هذه العملية بدأت بهجوم مسلح نفذه أهالي المدينة بدعم من سلاح الجو الليبي وهو الأمر الذي أدى لاندلاع اشتباكات خلفت أعددًا من القتلى والجرحى في صفوف مقاتلي تنظيم الدولة والمقاتلين من السكان المحليين، وهو الأمر الذي دعا مسلحي تنظيم الدولة إلى تنفيذ قصف عشوائي على سكان سرت بالأسلحة الثقيلة وكذلك إجراء بعض الاعتقالات العشوائية في صفوف السكان وصلبهم وقتلهم.
كان للأمر هذا صدى دولي حيث أدانت حكومات الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وبريطانيا ما أسموها “الأعمال البربرية” التي ارتكبها تنظيم الدولة في سرت وذلك عبر إصدار بيان مشترك، فيما تعهدت القوات الموالية للمؤتمر الوطني بمواصلة حملتها على التنظيم في المدينة.
هذه ليست المرة الأولى التي تشتبك فيها عناصر تنظيم الدولة مع الكتائب المختلفة المحيطة بسرت، إذ اندلعت اشتباكات دامية مع الكتيبة 166 التابعة لرئاسة الأركان وكتائب عسكرية من مدينة مصراتة، وأعلنوا سيطرتهم بعد ذلك على المدينة وبلدات قريبة منها، ولكن هذه المرة الأمر حظي باهتمام إقليمي ودولي أوسع، وهو ما يشي بالترتيب لأمر ما.
من مظاهر هذا الاهتمام أيضًا طلب أرسلته الحكومة الليبية المؤقتة في طبرق لعقد اجتماع غير عادي لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين لاتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في سرت رغم سيطرة التنظيم على المدينة منذ أكثر من شهرين في ظل وقوف حكومة طبرق موقف المتفرج، وهي الدعوة التي لاقت استجابة فورية خرجت بنتيجة مفادها ضرورة دعم الحكومة الليبية في مواجهة ما أسمته الجامعة العربية بالإرهاب، رغم أن القوات الموالية للمؤتمر الوطني هي التي تشن حملات على تنظيم الدولة لتحرير مدينة سرت.
وكانت الحكومة الليبية في طبرق قد دعت الجامعة العربية لتنفيذ ضربات جوية بحق تنظيم الدولة، وقد ردت الجامعة العربية على هذا الطلب بمطالبات بتفعيل القوة العربية المشتركة، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، للتدخل السريع في ليبيا للتصدي لتنظيم داعش، كما ادعت الجامعة العربية في بيانها.
قرار الجامعة العربية يعني باختصار دعم طرف حكومة طبرق سياسيًا وعسكريًا أمام طرف المؤتمر الوطني رغم علم الجامعة العربية جيدًا بوجود انقسام حاد ومفاوضات قائمة لمحاولة لم الشمل بين الأطراف المتنازعة، ولكن هذا القرار العربي تجاهل طرفًا من طرفي الأزمة وهو حكومة المؤتمر الوطني في طرابلس ما سيعني تعميقًا للخلاف قد يتطور إلى مواجهات مع أي قوة عربية تتدخل لدعم حكومة طبرق تحت ذريعة مواجهة داعش.
فالقرار سيعني ضخ مزيدًا من الأسلحة إلى ليبيا رغم خضوعها لحظر من مجلس الأمن على توريد الأسلحة، وقد سبق للحكومة المؤقتة أن طالبت برفعه لتمكينها من التصدي بشكل أفضل للمسلحين وقوبل هذا الطلب بالرفض لحين إقرار حل سياسي أولاً.
هذا القرار بحسب متابعين نابع عن رغبة مصرية إماراتية للتدخل العسكري في ليبيا، علمًا بأن الدولتين حليفتين لحكومة برلمان طبرق وقد سبقا لهما أن تدخلا عسكريًا ضد قوات فجر ليبيا التابعة للمؤتمر الوطني وليس ضد تنظيم داعش كما تنتوي الجامعة العربية، وهو الأمر الذي دعا بعض الأطراف الليبية لوصف القرار بأنه غير واقعي ولا يحمل أي مصداقية، ويُعد خطوة سياسية لبعض الأطراف المتنفذة في الجامعة العربية ليس إلا.
وفي مقابل ترحيب حكومة برلمان طبرق بهذه الخطوات اعتبر المؤتمر الوطني العام في طرابلس طلب حكومة برلمان طبرق بالعدوان على السيادة الوطنية الليبية، مؤكدًا أن قواته ستتحمل مسؤولية إخراج تنظيم الدولة من مدينة سرت، كما أكد أن المعارك قائمة بين كتائب المؤتمر الوطني وعناصر تنظيم الدولة.
وقد أتى موقف الإخوان المسلمين في ليبيا أحد فصائل المؤتمر الوطني العام في طرابلس معبرًا عن الموقف العام؛ حيث عبر المسؤول العام لجماعة الإخوان المسلمين بليبيا “بشير الكبتي” في تصريحات صحفية عن رفضه واستغرابه لقرار الجامعة العربية الصادر بشأن دعم حكومة طبرق سياسيًا وعسكريًا، وقد حذر الكبتي من أي محاولات لإرسال قوات خارجية إلى ليبيا، حيث أكد أن هذا التصرف سوف يعتبره الليبيون غزوًا خارجيًا سيتصدون له، مؤكدًا على ما أكد عليه المؤتمر الوطني العام من قدرة الليبيين بمفردهم على التصدي لداعش.
الفصائل المكونة للمؤتمر الوطني أشارت إلى نوايا دول عربية بعينها وسعيها عبر إطار الجامعة العربية لدعم موقف الفريق خليفة حفتر بهذا القرار الصادر من قِبل الجامعة بعد فشلها في دعمه وحدها، وهو الأمر الذي اعتبره البعض قرار مضاد للحوار الوطني، مؤكدين أن ثمة استغلال إعلامي لأحداث قتال داعش لتمرير مثل هذا القرار الذي سيقضي تنفيذه على الحلول السياسية الممكنة في ليبيا حالًا.
الوضع في درنة كان شبيهًا بسرت حاليًا وربما أعقد من ذلك فقد كانت كتائب ثوار درنة تواجه مسلحي داعش على الأرض وطيران حفتر في السماء ورغم ذلك استطاعت الكتائب تحرير مدينة درنة من تنظيم الدولة، وهو الأمر الذي يأمله الليبيون في سرت، ولكن ثمة ذرائع تتخذ تنظيم داعش في سرت تكأة لتنفيذ مخططات أخرى.
وما يثير مزيدًا من الشكوك حول نوايا مثل هذا القرار الصادر عن الجامعة العربية هو تزامن القرار مع جولة خارجية للواء المتقاعد خليفة حفتر التي بدأها بباكستان مرورًا بالأردن لبحث ما أسمته حكومة طبرق آليات دعم الجيش الليبي بالرغم من حظر التسليح المفروض على قواته بقرار الأمم المتحدة، وهو ما يشي بأن قرار الجامعة العربية سيصب في مصلحة قوات حفتر بلا أدنى شك.
فهناك ترويج من القوات الموالية لحفتر بأن نقص الذخائر والأسلحة هو السبب الرئيسي في تراجع قواته أمام محاربة الإرهاب، لكن الواقع يقول إن هناك خطوط إمداد مصرية إماراتية تصل إلى كتائب حفتر دون نتيجة على الأرض، والواقع يقول إن حفتر يروج لوهم يسميه “الجيش الوطني الليبي”، وفي الحقيقة لا وجود إلا لبعض الكتائب المقاتلة غير المحترفة أو النظامية وقد أتت أنباء أنه تمت الاستعانة من قِبل قوات حفتر بمرتزقة أفارقة من حركة العدل والمساواة السودانية أو من التابو التشاديين.
فثمة قرابة 300 ألف مقيدين على جدوال ما يسمى بالجيش الوطني الليبي يتقاضون رواتبهم لكنهم لا يشاركون في أي أعمال قتالية وليست هناك أي رقابة عليهم، وقد اشتكت الكتائب التابعة لحفتر من ذلك الأمر، وهو الأمر الذي يتضح في معارك حفتر سواء في بنغازي أو المدن المحيطة بها حيث تظهر حروب عصابات بعناصر مدنية ولا يوجد أثر لما يسمى بالجيش الوطني الليبي.
يرجح البعض قرار الجامعة العربية بوصفه ترجمة لسعي مصر والإمارات الحثيث لتشكيل تحالف من دول عربية وغربية تحت مظلة أممية وبقيادة مصرية من أجل التدخل عسكريًا في ليبيا، الهدف المصري الإماراتي المشترك ليس استهداف تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا بقدر ما هو استهداف عسكري للمعاقل البارزة للإسلاميين المسلحين في بنغازي وطرابلس بقيادة المؤتمر الوطني العام التي تجمعهم، وقد رفضت الجزائر والسعودية في السابق مثل هذا التحالف.
فيما أكد تقرير سابق للأمم المتحدة أن الإمارات ومصر قامتا بتزويد حكومة طبرق في ليبيا بالأسلحة المختلفة، وهو ما عدته الأمم المتحدة اختراقًا لقرار حظر توريد السلاح إلى ليبيا المفروض منذ الثورة الليبية منذ ثلاث سنوات، حيث أوضح التقرير أن عمليات التهريب الإماراتية المصرية لم تشمل فقط الذخائر والأسلحة الخفيفة بل تم تهريب طائرات مقاتلة مصرية إلى قوات خليفة حفتر والجيش الليبي الموالي لها، وهو ما يؤكد عدم صحة أسباب تدخل القوات العربية المشتركة المزمع والتي قررت الجامعة العربية تدخلها لعدم مقدرة حكومة طبرق المعترف بها التصدي لداعش بسبب نقص الذخائر والأسلحة، وهو الادعاء الذي تكذبه الأمم المتحدة بتقريرها.
هذا الدعم الذي طلبته حكومة طبرق هو بمثابة إعلان الفشل العسكري أمام تنظيم الدولة الإسلامية وكذلك أمام قوات فجر ليبيا المدعومة من المؤتمر الوطني، فبعد كل أشكال الدعم المقدم إليها من الخارج لم تستطع إنجاز أي تقدم على الأرض ودأبت على استدعاء القوى الخارجية لمساندتها بالتدخل المباشر تحت دعاوى “محاربة الإرهاب”، ومن المعتقد أن تقوم هذه القوة العربية المشتركة بما قام به التحالف المصري الإماراتي مسبقًا، الذي سبق له أن وجه ضربات مماثلة لمواقع تابعة لعملية فجر ليبيا بالعاصمة الليبية طرابلس في هذا الوقت من العام الماضي.