ترجمة وتحرير نون بوست
تتعاظم شكوك سكان الأحياء مع قدوم الغرباء الذين يسألونهم الأسئلة أو يتلقطون الصور، السواتر الأسمنتية والحواجز الأخرى التي تحتشد في الشوارع أصبحت مظاهر مألوفة، ومرتادو وسائل النقل اعتادوا على تغيير مسارهم لتجنب المرور بازدحام الحواجز الأمنية التي تصبح أمرًا لا مفر منه بعد كل انفجار جديد.
إثر عامين من تصاعد التفجيرات ضمن وحول العاصمة المصرية، يتغير شعور السكان في العاصمة تدريجيًا، حيث حصل الانفجار الأخير الذي تبنته مجموعة تابعة للدولة الإسلامية (داعش) في الساعة 2 صباحًا، مستهدفًا مقر أمن الدولة، وأسفر عن إصابة 29 شخصًا على الأقل.
“الشوارع فارغة، والمحلات فارغة، والناس لا تغادر منازلها بسبب التفجيرات”، تقول دينا أبو السعود، صاحبة مقهى ومطعم في وسط القاهرة، وتضيف “نشعر بآثار ذلك كل يوم”.
اجتمع حشد من الناس بعد انفجار قنبلة في القاهرة في وقت مبكر من صباح يوم الخميس، حيث انفجرت سيارة مفخخة بالقرب من مبنى الأمن في القاهرة بتاريخ 19 أغسطس من عام 2015.
كانت القاهرة على مدى عقود من الزمان معقلًا للاستقرار والأمان، لا سيما بالمقارنة مع عواصم عربية أخرى مثل بيروت أو بغداد، ومن ثم اندلعت انتفاضة الربيع العربي في مصر، والتي أطاحت بالرئيس حسني مبارك في عام 2011 مؤججة موجات لا نهائية من الاحتجاجات في الشوارع، واليوم، وإبان الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي، التابع لجماعة الإخوان المسلمين، قبل عامين، وصل العنف المناهض للحكومة إلى مرحلة جديدة كليًا، حيث أدت سلسلة التفجيرات المتلاحقة إلى انصراف المستثمرين، وتبديد الآمال بانتعاش القطاع السياحي، كما أدت – وفوق كل اعتبار – إلى تعزيز الحملة الحكومية لقمع أي معارضة تقريبًا باسم مكافحة الإرهاب.
يلقي المدافعون عن حقوق الإنسان باللوم على التكتيكات الخرقاء التي تتبعها الحكومة المصرية، والتي تعمل على إطالة أمد دوامة القمع؛ مما يدفع بعض المعارضين غير العنيفين نحو التشدد والعنف، وحتى المؤيدون الأكثر حماسًا للحكومة الحالية يرون بأن لا نهاية تلوح في الأفق لسلسة التفجيرات المتكررة التي تشهدها الدولة المصرية.
من جهتهم، يركز سكان القاهرة على الطابع المحدود للعنف الذي يضرم بالعاصمة المصرية حتى الآن؛ ففي المقابلات التي أجريناها يوم الخميس، أكد لنا أغلب السكان بأن أيًا من هذه الهجمات لم يتسبب – حتى الآن – بخسائر بشرية واسعة النطاق في صفوف المدنيين المصريين، حيث استهدفت التفجيرات الشرطة أو المباني الحكومية والمسؤولين القضائيين أو الأمنين، أو الأعمال التجارية والمرافق العامة الفارغة.
ولكن مع ذلك فهناك بعض الاستثناءات التي لا تحمد عقباها؛ ففي ربيع هذا العام، كان سيتم استهداف معبد مزدحم بالسياح في الأقصر، لولا إحباطه ضمن موقف للسيارات، كما عمد متشددون في الأسبوع الماضي إلى إعدام موظف كرواتي تابع لشركة طاقة فرنسية، تم اختطافه على طريق سريع قرب القاهرة.
الاتجاه الذي يمكن ملاحظته بشدة ضمن القاهرة، يتمثل بتجاهل الكثير من المصريين لنمط التفجيرات التي تتم على درجة منخفضة من الأهمية، حيث يرونه مجرد إزعاج آخر ضمن المدينة المحمومة التي يقطنها أكثر من 20 مليون نسمة، “هناك نوع من التطبيع مع هذه التفجيرات”، تقول السيدة أبو السعود، صاحبة المقهى الذي خلا من رواده يوم الخميس، وهو أحد الأيام التي يشهد فيه مقهاها ازدحامًا شديدًا، كونه يتصادف مع بداية عطلة نهاية الأسبوع المصرية، وتتابع قائلة “ولكن يبدو أن ذاكرة الشعب قصيرة للغاية؛ فغدًا سوف يعود المقهى إلى سابق عهده مرة أخرى”.
تشير أبو السعود بأنها كانت تشعر بالخوف في عهد حكومة مرسي، حيث توجست من قيام الإسلاميين بفرض قواعدهم الأخلاقية الصارمة والمتشددة على المصريين الآخرين في يوم من الأيام، ولكن الحقيقة الواقعة اليوم هي أن أبو السعود تشعر بانعدام الأمان بشكل أكبر في هذه الأيام.
“ما الذي أخاف منه اليوم؟ أن يُزج بي في السجن”، تقول أبو السعود، مشيرة إلى أن القلق الذي انطلق وتنامى مع استمرار التفجيرات خوّل الشرطة والأجهزة الأمنية وأطلق يدها لتمارس الاعتقالات التعسفية أو المسيسة باسم الأمن العام.
تضيف أبو السعود شارحة “الشرطة اليوم يتصرفون كما كانوا يفعلون في عهد مبارك، لديهم السلطة لاعتقال أي شخص، وبعد أحداث مثل أحداث الليلة الماضية، يعمل الخوف الذي يُخلق نتيجة لهذه التفجيرات على تغذية قدرة الشرطة للاستمرار بممارساتهم القمعية”، وتتابع بعدها قائلة “الكثير من أصدقائي والعديد من زملائهم يقبعون اليوم في السجون، القوانين الجديدة وعدم الوضوح الذي يكتنفها يجعلها مخيفة للغاية”.
وائل إسكندر، وهو مدون وناشط، كان مع عائلته في منزله الواقع في حي الدقي في الجيزة، حينما سقطت نوافذ المنزل نتيجة لانفجار يوم الخميس، “والداي قالا، نعم، لقد سمعنا التفجير، وطفقا عائدان إلى ما كانا يفعلانه”، يقول إسكندر.
عندما بدأت التفجيرات في عام 2013، “شعرت بالخوف، وكنت أفكر فيما يجب علينا القيام به” يشرح إسكندر، ويضيف مستدركًا “ولكن الآن أعتقد أن الناس أصبحوا يشعرون بالإحباط والملل أكثر من شعورهم بالخوف”.
يوضح إسكندر بأن المصريين المهتمين بالسياسة ينتابهم القلق بشأن الحملة الأمنية التي ستمارسها الحكومة بعد كل تفجير، حيث يقولون لأنفسهم “ما هي الممارسات التي ستقوم بها الحكومة ردًا على هذا التفجير؟” قال إسكندر مؤكدًا على ما سبق وقالته أبو السعود، وأضاف “لكن على المستوى الشخصي، وبالنسبة لمعظم الأشخاص، أصبح الموضوع عاديًا بطريقة أو بأخرى”.
مروة بركات، الباحثة في مجال المناطق الحضرية، ترى الموضوع من وجهة نظر أخرى، حيث تشير إلى أن التفجيرات تغيّر من “الوجه العمراني” للمدينة من خلال تراكم الحواجز المضافة، وإغلاق الطرقات لحماية السفارات والدوائر الحكومية ومراكز الشرطة وغيرها من الأهداف المحتملة، وبعد كل تفجير، “انتشار الأمن في المنطقة المحيطة يسفر عن جعل الحركة المرورية مزدحمة إلى حد الجنون” كما تقول بركات.
ولكن التغيير الأكبر، وفق ما تقوله بركات، هو “الشك المتزايد الذي أصبح يتسلل إلى نفوس المصريين العاديين، المتخوفين من حصول هجمات إرهابية ضمن أحيائهم”، حيث تشير إلى أنه وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، حاول سكان أحد المناطق إيقافها واعتقالها لأنها كانت تلتقط صورًا من فوق الجسر، “لقد كان الناس يقولون لي، هذا أمر ممنوع ، وليس قانونيًا، كما لو أن التصوير من فوق الجسر يشكل مصيبة عظمى”.
الصحفيون، صانعو الأفلام، الناشطون الاجتماعيون، وغيرهم ممن يطرحون أسئلة في الشارع، غالبًا ما يواجهون اتهامات مماثلة لتلك التي واجهتها بركات،”هذه التفجيرات تؤدي إلى بزوغ العديد من الشكوك الضحلة في أنفس الأشخاص”، قالت السيدة بركات، وتابعت موضحة “وهذا يؤدي إلى تقليص المساحة العامة أمام السياسة والمجتمع المدني والتي انفتحت إبان الثورة التي أطاحت بمبارك في عام 2011، ولكن الأشخاص لا يرغبون بالمشاركة بعد الآن، والتفجيرات هي أحد الأسباب”.
موجة التفجيرات بدأت في مصر قبل حوالي العامين تقريبًا، وذلك بعد سلسلة من عمليات إطلاق النار الجماعي التي مورست من قِبل قوات الأمن، وأسفرت عن مقتل أكثر من ألف متظاهر معارضين لاستيلاء الجيش على السلطة؛ ففي 5 سبتمبر 2013، انفجرت قنبلة في الصباح الباكر ضمن شارع مزدحم في القاهرة في محاولة فاشلة لاستهداف وزير الداخلية وموكبه، وفي يوم 24 ديسمبر، حدث تفجير آخر أمام مقر قيادة الشرطة في مدينة المنصورة في دلتا النيل، مما أسفر عن مقتل 16 شخصًا، وفي 24 يناير 2014، استهدف تفجير ثالث مقر قيادة الشرطة في القاهرة محدثًا أضرارًا جسيمة في متحف الفن الإسلامي.
هذه التفجيرات الثلاثة أصبحت أحداثًا تاريخية محفورة بعمق ضمن ذاكرة الشعب المصري، ولكن منذ ذلك الحين أصبحت التفجيرات أمرًا روتينيًا للغاية، حيث استهدفت الجماعات الإسلامية التي ظهرت حديثًا مراكز الشرطة، مرافق توليد ونقل الكهرباء، وواجهات المحال التجارية التي يُعتقد بأنها تدعم الحكومة، وفي هذا الصيف شهدت وتيرة العنف تصاعدًا حادًا بشكل خاص.
في نهاية يونيو الماضي تم قتل المدعي العام المصري، هشام بركات، في تفجير استهدف سيارته ضمن شوارع العاصمة، وبعد بضعة أيام حدث تفجير آخر أمام القنصلية الإيطالية، ومن ثمّ تم اختطاف الكرواتي توميسلاف سالوبيك على أحد الطرقات السريعة المؤدية للعاصمة.
يشير اقتصاديون بأن الهجمات أدت إلى تراجع البورصة المصرية بنسبة تقارب الـ30% بعد الانتعاش والذروة التي بلغتها في فبراير، كما أن هذه الهجمات والتفجيرات أثارت القلق بين الوافدين من الدول الغربية الذين يعيشون ويعملون في مصر.
“قتل السيد سالوبيك من قِبل الدولة الإسلامية سيغير النظرة إلى المخاطر الأمنية”، قال أنجوس بلير، المحلل المالي الذي يعمل في مصر، وتابع موضحًا “ستعمد الشركات الأجنبية إلى حماية الأمن الشخصي للعاملين الأجانب في مصر بشكل كبير، وربما قد تمنع الموظفين من جلب عائلاتهم إلى مصر، وهذه هي النتيجة المرجحة التي ستنجم عن هذه الأحداث”.
محمد أحمد، وهو مؤيد للحكومة الحالية، يشير إلى أن منزله الواقع في حي باب الخلق المتهالك تضرر بشدة إثر انفجار قنبلة في أوائل عام 2014، وعلى الرغم من أنه يتوقع المزيد من التفجيرات المستقبلة، بيد أنه يقول “الشعب المصري ليس خائفًا”.
ولكن على النقيض من ذلك، تقول ميادة خالد، الطالبة الجامعية التي تبلغ من العمر 20 عامًا والتي تنحدر من ذات منطقة أحمد، حيث تشير بأن العنف خنق وضيّق حياتها، “اعتدنا أن نكون قادرين على الخروج، والبقاء خارج المنزل لوقت متأخر”، تقول خالد، وتضيف “ولكن اليوم أهلي يشعرون بالقلق، ونحن مضطرون للعودة إلى المنزل قبل الساعة التاسعة مساءً”.
أسامة محمود، الذي يعيش بالقرب من القنصلية الإيطالية، يشير إلى أن الانفجار الذي استهدف القنصلية الشهر الماضي أسفر عن إحداث شق متعرج في جدار مطبخ منزله، وتفجير يوم الخميس، الذي حصل على بعد عدة أحياء، هز منزله مرة أخرى موسعًا التشقق الذي حدث إثر التفجير الماضي، ولكن هذه المرة ذُعرت والدته العجوز بشدة، وهربت خارج المنزل وانتظرت في الشارع حتى انبلاج الفجر، “هذا الوضع سوف يستمر”، تحدث محمود باستسلام وخنوع، وأردف قائلًا “في ظل حسني مبارك لم يكن الوضع على هذا النحو”.
المصدر: نيويورك تايمز