حين تقرر قراءة كتاب يتناول من النظرة الأولى على عنوانه الحديث عن المشكلات النفسية التي تصيب الإنسان، أي إنسان، ستجد في نفسك مترددًا في أن تفتح صفحات الكتاب وتبدأ بالقراءة، ذلك أن مجتمعاتنا العربية لا تستسيغ فكرة مجرد الحديث عن المشكلات النفسية التي تصيب الإنسان فما بالك وأنت تقترب منها بقراءتك للكتاب، والذي بكل تأكيد ستجد فيه عبارات من قبيل التشجيع على زيارة العيادات النفسية، وكيفية التصرف عند الظن بأن المشكلة نفسية، إنك باقترابك هذا تحاول ولو بقدر بسيط أن تكسر قيود المجتمع وقيود فِكر الإنسان نفسه الذي يرفض اعتبار المريض النفسي كأي مريض آخر، بل ويعتبر الحديث عن ذلك من أمور “العيب” و”الفضيحة”.
أمام كتاب “حكايات نفسية” للدكتور عادل صادق، ستجد نفسك أمام كم كبير من القصص التي عايشها الدكتور بنفسه في عيادته النفسية، تلك القصص التي تجد نفسك وأنت تقرأ فيها غارقًا في تفاصيلها وأحداثها، تمضي الوقت بأكمله وأنت تسأل نفسك: “أمعقولة هذه القصص؟ هل فعلاً هناك من البشر من يعانون كذلك؟ كيف نتعامل معهم؟ كيف لا نعيرهم اهتمامًا؟”، ستسأل نفسك: “لماذا نهتم بالمريض العضوي ولا نعطي أي اهتمام للمريض النفسي؟”، إنني وبكل أسف وجدت نفسي بعد قراءتي لهذا الكتاب أجيب نفسي “كم نحن أنانيون، وكم نحن فاقدي الحب لمن حولنا”، ذلك الحب الذي أخبر الدكتور عادل في هذا الكتاب بأنه بداية طريق العلاج، والمناعة ضد أي انتكاسة نفسية.
إن إهمالنا للحديث في هذه المواضيع (أو حرجنا فكلاهما سيء) وإهمال توعية أنفسنا أولاً والآخرين من حولنا ثانيًا بأهمية أن يحافظ الإنسان على روحه ونفسيته، وأن يتعامل مع العلّة النفسية إن لاحظ ذلك كما يتعامل مع العلّة العضوية والتي تحتاج إلى تدخل سريع لإنقاذ حياة الإنسان جعل الكثير منّا يعيش في معاناة صعبة وكبيرة دون أن يلتفت إليه أحد، ودون أن يجد من ينصحه ويأخذ على يديه لتحسين نفسيته، والتي لولا النفسية الحسنة والسويّة لكان الإنسان غير قادر على عمل أو انجاز أي شيء في حياته، إن الكتاب يضع أيدينا على الجرح، وبالتالي علينا أن نقرأه لنستفيد مما فيه، إن هذا الموضوع يتناول خمسة أسباب تجلعنا نقرأ هذا الكتاب وربما غيره من الكتب التي تتناول الحكايات النفسية، هذه الأسباب التي أظنها مهمة جدًا في أن نبقى ذاكرين لها.
أن ننقذ نفسًا من الموت
السبب الأول الذي يدفعنا إلى قراءة هذا الكتاب هو أن نقي أنفسنا من الموت، ولكن أي موت، فلكل أجل كتاب؟ إن الموت الذي أقصده هنا هو موت الروح، أن يفقد الإنسان شغفه، وأن يفقد نظرته للحياة بإيجابية، وأن يفقد قدرته على التحمل، وأن يرى الأمور والأحداث من حوله دون جدوى، إنه اختصارًا: أن يكون الإنسان في هذه الدنيا جسدًا بلا روح، ولا مشاعر، ولا أحاسيس، إن حادثته وجدته شارد الذهن، وإن اصطحبته معك في رحلة جميلة وجدته دائم العبوس، وإن سألته لماذا؟ أجابك: هذه الدنيا مليئة بالآلام فلماذا الفرح!، هي في نظره دنيا باهتة بلا ألوان ولا بهجة، إن قراءتنا لهذا الكتاب يجعلنا نقف أمام أنفسنا بكل صدق ونقول: إن النتيجة الحتمية لمن فقد روحه هي الموت الفعلي ولا مفر له من ذلك، وعليه فإن وجودنا ومساندتنا لهذا الإنسان ضرورة لكي يستعيد روحه وشغفه وحبه للحياة والعطاء.
أن نرحم نفسًا من النصيحة
كيف يكون ذلك؟ فهل يوجد نصيحة لا تكون مفيدة لهذا الإنسان؟ وماذا عن كمية كلمات الدعم النفسي التي يقدمها الآخرون له، هل تنفعه أم تضره؟ إن قراءتنا لهذا الكتاب تفتح أعيننا على خطأ كبير نرتكبه مع من نحب من هؤلاء الأشخاص، وهو الخطأ الذي من شأنه أن يضاعف حالته ولا يخففها، فنحن غالبًا إذا ما قررنا مساعدة هذا الإنسان نبدأ (ونحن نظن بأننا نساعده) بإسداء النصح له من قبيل عليك بفعل كذا، وعليك بتغيير الجو، وعليك وعليك وعليك وعليك، وكل ذلك في غفلة منّا بأن هذا الإنسان قد فقد الشغف في أي شيء، وبالتالي فهو لن يقوم بكل ما ننصحه به من تلقاء نفسه، إننا بذلك نزيد من معاناته بتذكيره بعدم قدرته على التقدم والرقي والتمتع بالحياة، إن هذا الكتاب يقودنا وبكل قوة لأن نتخلى عن غسداء النصيحة ظانيين بأن هذا هو دورنا، لننطلق إلى الوقوف فعلاً بجانب هذا الذي يعاني بمشاركته ومساندته الفعلية في الأنشطة التي تحببه في الحياة.
التعرف على الأمراض النفسية المختلفة
الكتاب بكل وضوح يسرد الحالات النفسية التي عايشها الدكتور في عيادته، وهو في الكتاب يقول بأن الكثير من البشر لا يفرقون بين المريض العقلي والمريض النفسي، بل إنهم يخلطون بين أعراض الاكتئاب مثلاً وبين أعراض الانفصام، ويصبح الكثير منّا يختصر الأمراض النفسية على أنها الاكتئاب، أو هو على الأقل مسببها، صحيح أن الاكتئاب يُعد من أهم وأخطر الأسباب التي تؤدي إلى المرض النفسي، وربما يكون السبب لأن يفكر الإنسان بإنهاء حياته، حيث إن الاكتئاب يجعل على عين الإنسان سحابة سوداء فلا يعد يرى نور الحياة، ولكنه ليس المرض النفسي الوحيد الذي قد يصيب أي واحد منّا.
إن الكتاب يتناول الكثير من الأمراض، بشيء من التفصيل، وبشيء من الحديث عن هذه الأمراض من خلال القصص والحكايات ليسهل فهم المرض وبالتالي يسهل فهم الحل وطريقة العلاج التي يسردها الكاتب مع كل حالة ومع كل مرض، إن الكتاب يبسط الحديث عن الأمراض النفسية كي يستطيع غير المتخصص استيعاب السبب والعلاج وبالتالي يصبح له دور في العلاج ومساعدة غيره ممن يعانون.
تربية الأبناء بشكل جيّد
يوصي الكاتب كثيرًا على ضرورة الحديث مع الأبناء ومشاركتهم أيامهم وطموحاتهم وأفكارهم، ليس فقط الوالدين تجاه ابنائهم، بل للأخوة مع بعضهم البعض داخل المنزل الواحد، حيث يشارك الوالدين والأبناء في الجلسات العائلية للحديث مع بعضهم البعض وترك فرصة للأبناء في الحديث عن يومهم ومشاكلهم وطموحاتهم، إن التركيز على ذلك منذ الصغر يجعل الأسرة في جو مليء بالحب والمشاركة وبالتالي ينتقل ذلك إلى نفسيات الأبناء فيستطيعوا في المستقبل مواجهة تقلبات الحياة والتخفيف من وطأة الأحداث على نفسياتهم.
يوصي الكتاب أيضًا الوالدين والأهالي على اختيار الألفاظ المناسبة التي توجه إلى الأبناء، فالكلمة الطيبة تبعث في نفوس الأبناء الطمأنينة والسكينة والحب، وتجعلهم أكثر قدرة على التعبير عن مشاعرهم ودواخلهم، وإذا أردنا أن نؤسس لجيل قائم على الحوار واحترام الآخر وبث روح مساعدة الآخرين في نفوسهم، فعلى الوالدين والأهالي مراعاة مشاعر أبنائهم وتوفير البيئة الحاضنة النفسية السليمة لهم.
المشاركة والحب هما بداية العلاج
ما أبأس الإنسان الوحيد، وما أبأس الإنسان الأناني، وما أشد حاجتهما إلى العواطف والحب والمشاركة والاهتمام، هم يريدون الاهتمام ويتمنونه، ولكنهم لا يستطيعون تقديمه، هم يريدون الاهتمام والمشاركة ولكنهم لا يطلبونه، كم من إنسان يعاني في داخله ويكاد يتمزق قلبه وتسود روحه وهو يكابر بأن لا يطلب الحب من الآخرين ومن حوله؟ كم من واحد منّا يرى الحياة قاسية وحياته في تدهور متواصل ولكنه لا يتوانى عن التكبر من طلب المساعدة، أو طلب الاهتمام، صحيح أن الاهتمام والمشاركة يقدمه الآخرون، ولكنه أيضًا يُطلب لاستعادة ارواح أنهكها التعب والإحباط واليأس.
إن إهمالنا للمشاركة مع الأصدقاء أو الأبناء أو الأهل يجعلنا نعاملهم كأنهم مخلوقات بلا أحاسيس، وكأن الحياة فقط جانب مادي وننسى بأن أساس العيش في هذه الحياة هو الجانب الروحي، الجانب الذي على الإنسان أن يقدمه لأخيه الإنسان فيفتش عن روحه، ويبحث عن أسباب تعاسته، ويبحث عن احتياجاته سواء المادية أو الروحية ومن بعدها الانطلاق لمشاركته في كل ذلك فينتشله من حياة السواد التي يعيشها.
عند قراءتك لهذا الكتاب، ستجد في نفسك رغبة كبيرة في أن تحتضن كل من عرفت لتعبر لهم عن مدى حبك لهم، ستجد نفسك مصممًا على أن تعيش مع الآخرين تشاركهم اهتماماتهم، وتساعدهم على تحقيق رغباتهم، إنك مع قراءتك لهذا الكتاب ستعي معنى “الحب” الذي يحتاجه كل فرد في هذه الحياة، إنك فعلاً ستعرف هذا المعنى الذي يتمثل بالاهتمام والاحترام والتقدير، إنه معنى أن يكون الإنسان إنسانا، فيستطيع أن يمد يد المساعدة لمن حوله بكل رغبة وسرور، بل بكل قوة وعزيمة لإنقاذ نفس من براثن الإحباط والكآبة والضياع.
إن التعبير عن الحب للآخرين واجب على كل من كان له قلب ينبض، فالدنيا قصيرة ولا تنتظر أحدًا، ومن كان معنا اليوم ربما يغادرنا في الغد، ولا فائدة للندم بعد أن يتركنا من حولنا، إذًا: علينا أن نكسب الوقت ولنهتم بمن حولنا، فهو الطريق الوحيد للمحافظة على نفسيات قادرة على المضي قدمًا في هذه الحياة القاسية.