بداية وقبل التطرق لأي تجربة، نطرح السؤال: ما هي الانتخابات الديمقراطية؟ وماهي شروط نزاهتها؟ وهل هي غاية في حد ذاتها أم آلية ووسيلة؟
يقول الساسة إن الانتخابات هي الوسيلة والعملية التي يختار فيها الناخبون ممثليهم على المستوى المحلي أو الوطني بمؤسسات الدولة أو بالتنظيمات السياسية والنقابية، وعرّف جوزيف شومبيتر الديمقراطية في كتابه: ” Capitalism, Socialism, and Democracy” على أنها مجموعة من الإجراءات والمؤسسات التي يستطيع الأفراد من خلالها المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية عن طريق التنافس في انتخابات حرة”.
ويقول روبرت دال: الانتخابات “ذروة الديمقراطية وليس بدايتها”، فهي لا تسبقها ولا تنتجها، واشترط أن يسبق إجراءها مجموعة من الحريات والحقوق كحرية الحصول على المعلومات من مصادر متعددة وحرية التعبير وحرية التنظيم وتشكيل مؤسسات مستقلة.
واشترط لنزاهتها: “أولاً لا بد من إطار دستوري ديمقراطي يوضح طبيعة النظام والمسؤوليات ومهام كل مؤسسة بخضوع الجميع وعلى رأسهم من يحكم للمساءلة والمحاسبة، ثانيًا نتحدث عن فعالية الاقتراع أي هل يؤدي إلى امتلاك السلطة أم تصبح الانتخابات عملية شكلية مفروغة المضمون، ثالثًا يجب أن تُجرى في ظل حكم القانون والقضاء كسلطة مستقلة، وأن تتسم بالتنافسية وتحترم الحقوق والحريات الرئيسية للمواطنين، رابعًا أنها يجب أن تتم بشكل دوري ومنتظم، وتتسم عملية إدارتها والإشراف عليها وإعلان نتائجها بالحياد السياسي والعدالة والشفافية”.
إذن فخيارات المشاركة من المقاطعة يضبطها ويحسمها نوع الانتخابات التي نحن بصددها، فإما أن تكون نزيهة وشفافة فالمشاركة فيها أداة وخلاص سياسي مُجْدٍ، أو صورية مزيفة مزورة شكلية يجب أن تقاطع لأنها تكرس الحكم “الفردي” وتفقد الصدق والصراحة مع المواطنين ولكونها لا تفرز سلطة ولا تصنع قرارًا، وإن تركت هامشًا بسيطًا فهو صلاحيات محدودة، تورط كل داخل للعبة وتشل حركته وتجهض مشروعه ليجد نفسه “منفذًا” للتعليمات منصاعًا للتوجهات الكبرى المرسومة سلفًا، فتذهب مصداقيته في دواليب “الثعالب الماكرة” أو تنسجم معه إن كان فاسدًا يبتغي المنصب والمكسب.
لكن المشارك بالمغرب مع ذلك يقول لن يعيش حالة “الانتظار”، سيدخل الانتخابات وإن لم تكن ديمقراطية، ولا تتيح لصاحبها صلاحيات كافية لتحمل المسؤولية وتنفيذ الوعود المقطوعة للمواطنين، ولن يترك الكرسي فارغًا، بل سيحاول قطع الطريق على المفسدين، وهو رأي تتقاسمه العديد من الأحزاب الوطنية أو التي صنعتها الإدارة أو تلك التي انبثقت عن حركة إسلامية كالعدالة والتنمية، وهو رأي في إطار المشترك والتدبير السلمي يجب أن نقبل به ونسمع له ونناقشه ونحترمه كما يجب بالمقابل أن تكون نفس المعاملة للمقاطعين، فماذا كانت النتيجة؟
دخل بكل رصيده الجماهيري، ومرت سنوات من التجربة والممارسة، وتوضح أن لا شيء تحقق، وتسجلت حالات الإخفاق ونهب المال العام، وتم التراجع عن شعارات “كبيرة” وكثيرة سرعان ما اضمحلت وخفتت لتختفي، وتراجعت الشعبية وكثر التذمر وتفاقمت المشاكل، وحدثت انقسامات وصراعات، وتآكلت الآلة الحزبية وتصدعت، واضطر الناس إلى تحالفات هجينة ومتناقضة، وأقر الخطاب الرسمي بتاريخ 20 أغسطس 2015 بعزوف الناس، فشكلت المشاركة تسويق وهم لا غير بالنظر إلى الآمال الكبيرة التي كانت معلقة، فكان فساد الذمم هو الشماعة التي يعلق عليها الفشل الرسمي، وتمت شيطنة الأحزاب السياسية، وأصبح الناس يتهمون كل انتماء ويتريبون منه، رغم وجود الفضلاء والصادقين الذين لن تسعفهم النوايا وحدها، وكل هذا استغله أصحاب الشأن للتغطية على أزمة الحكم باعتبارها المعضلة الكبرى، والاكتفاء بالتطبيل لجهة واحدة وحيدة تنسب لها جميع الحسنات.
ما كان يسميه الناس تناوبًا سرعان ما أجهض حين تم تعيين وزير تقنوقراطي، وما أطلق عليه بالتماسيح والعفاريت والفاسدين فيما بعد دستور 2011، تحولوا فجأة إلى حلفاء ووزراء ونزهاء، كل هذا نتيجة طبيعية لمن قبل بالشروط المجحفة كما هي، فقدم التنازل تلو الآخر، ومرت على أيديه أسوأ القرارات والاختيارات، وانخدع بوهم الإصلاح من الداخل، فهل من العقل إغفال تجربة عقود وإعادتها كأسطوانة قديمة تقليدية تشغل لإخراس الصراخ؟
أما المقاطع فيرى أن العملية مادامت لم ترْقَ بعد أن تكون ديمقراطية بالمفهوم الحديث، فهي مضيعة للوقت والجهد والمال، ولا يعدو الأمر إلا أن يكون واجهة لتزيين النظام السياسي ليظهر بوجه حداثي، وأداة من أدوات الإلهاء والاستفادة من الريع، وأن الخروج في 20 فبراير 2011 كان كفيلاً بإحداث تغيير على الدستور “خطاب 9 مارس”، وإن كان طفيفًا لم يرق إلى حجم مطالب الشباب المغربي، فكان الاحتجاج بالشارع كفيلاً في ظرف شهور بتحقيق ما عجز عنه كثيرون خلال 50 سنة من التسيير من داخل المؤسسات، وبذلك يكون قد حقق لب وروح الممارسة السياسية التي لا تنحصر ولا تختصر فقط في دخول الانتخابات، بل بأشكال وتجليات مدنية سلمية حضارية متنوعة تختلف حسب الظرف والزمان والمكان والتقدير، تمكنه أن يؤثر في القرار الرسمي من خارج المؤسسات، ويؤطر المواطنين حسب المساحة التعبيرية المتاحة له، ويصنع قوة تنظيمية تتسع رقعتها والمتعاطفون معها يومًا بعد يوم، ويراكم ويدرس ويكوّن وينضج ويؤسس ويتواصل ويبني، وليس سهلاً أن تبقى وفيًا لمبادئك ممانعًا للإغراء والإقصاء، وكل يوم يبدل الناس جلدهم كما تفعل “الحية”.
وسلاح المقاطعة قد سبق للبرادعي سنة 2010 أي قبل ثورة 25 يناير 2011 بمصر أن قال عنه: “إن مقاطعة الانتخابات ترشحًا وانتخابًا هي المرحلة الأولى لفضح الديمقراطية المزيفة”، معتبرًا أن “المشاركة مخالفة للإرادة الوطنية”، مشددًا على أنها مرحلة مهمة للتعبئة الشعبية تسبق النزول السلمي للشارع تمهيدًا للعصيان المدني”.
إذن فالمقاطعة ليست بدعة جديدة، بل هي وسيلة وطنية صادقة مدنية سلمية فعالة للضغط ولانتزاع الحقوق والحريات المسلوبة ودفع الأنظمة الشمولية والاستبدادية للاستجابة لمطالب الشعوب، بعكس تجربة من شاركوا، استعملوا كوقود وغيار حمل كل السوءات ونسبت له كل الأزمات.