ترجمة وتحرير نون بوست
رغم الحشد الكبير الذي تجمع في معرض يقام في وسط لندن لحضور افتتاح معرض “غزة عن غزة”، بيد أن غياب الفنانين هيمن على الحدث، ليكون بمثابة تذكرة للجميع بالحصار الذي يعيشه ويقاسيه الكثير من الفلسطينيين.
على عكس الفنانين الذين أبدعوها، وصلت الأعمال الفنية إلى صالة عرض P21، وهي صالة عرض هادئة في العاصمة البريطانية لندن، وتقع على بعد خطوات قليلة من كينجز كروس، حيث تعرض الأعمال التي تظهر ردود فعل وانطباعات الفنانين الفلسطينيين حول تفجيرات غزة حتى نهاية أغسطس الجاري.
وفقًا لأرقام الأمم المتحدة، أسفرت العملية الإسرائيلية التي استمرت 51 يومًا، عن مقتل 1483 مدنيًا فلسطينيًا، ثلثهم تقريبًا من الأطفال، كما تسببت بتشريد أكثر من 500.000 شخص، وخلال سنة واحدة من الحرب، تبين أن أكثر من 300.000 طفل فلسطيني بحاجة للدعم النفسي والاجتماعي للتعامل والتغلب على آثار التجربة المؤلمة التي عايشوها، كما تبين أنه لم يتم إعادة بناء أيًا من الـ18.000 منزل، الذين تم تدميرهم أو تضرروا بشدة جرّاء القصف، مما ترك أكثر من 100.000 شخص مشردين وغير قادرين على العودة إلى بيوتهم.
بشكل حتمي، يتسلل هذا الصراع ليلامس عقولنا وقلوبنا من خلال الأعمال التي تُعرض في لندن، اللوحة المركزية ضمن المعرض هي عبارة عن لوحة تجميعية بعنوان “لو لم أكن هناك” للفنانة مجدل ناتيل، وهي مؤلفة من مجموعة من 400 لوحة صغيرة تمثل الأحلام والآمال الضائعة للأطفال الفلسطينين الذين لقوا حتفهم خلال الهجمات.
من خلال استخدام أسلوب الرسم الطفولي، رسمت ناتيل صورًا بسيطة وطفولية للتعبير عن الرغبات البسيطة التي كتمتها وأخرستها القنابل الإسرائيلية خلال الحرب على غزة.
بعض تفاصيل لوحة الفنانة مجدل ناتيل “لو لم أكن هناك”، تظهر استخدامها لأكياس الأسمنت كقاعدة للرسم، لتذكرنا بالدمار المادي المتلازم مع المعاناة الإنسانية الناجمة عن العدوان الإسرائيلي
يعمل الحجم الضخم للوحة التجميعية على جذب المشاهد لاستخلاص الرسائل الفردية التي يقدمها العمل ككل، ويحفزهم على الدخول في اللعبة، “لو لم أكن هناك لكنت الآن أحلق بطائرتي الورقية”، “لو لم أكن هناك لكنت سأكون الآن في المدرسة”، أو لكنت أخبز الكعك، أو أعزف على الغيتار.
ناتيل ساعدت الأطفال في غزة من خلال جلسات التدخل النفسي التي تم إجراؤها لهم إبان إجلائهم من المناطق المنكوبة خلال حرب الصيف الماضي، وكفنانة تستوحي أعمالها من تجربتها الحياتية، وباعتبارها أم لفتاتين صغيرتين، شعرت بأنها مضطرة للقيام بشيء ما لـ”لفت انتباه المجتمع الدولي تجاه الاعتداءات الإسرائيلية والانتهاكات التي يتعرض لها أهل غزة بما في ذلك الأطفال، وأيضًا لمعاناة الأطفال الفلسطينيين نتيجة لعدم الاستقرار والأزمات السياسية التي يعايشونها”، أوضحت ناتيل، التي تعيش في غزة، عن طريق بريد إلكتروني أرسلته إلينا.
حتى القماش المستعمل لرسم اللوحات يُعبّر عن موقف سياسي، كونه مصنوع من قطع ممزقة من أكياس الأسمنت التي تم توزيعها على الأشخاص الذين فقدوا منازلهم خلال الغارات الجوية، علمًا أن ناتيل وعائلتها اضطروا للخروج من شقتهم الواقعة في الطابق العلوي بعد أن تضررت بشدة من شظايا صاروخ سقط بالقرب من المبنى.
الجمهور يعاين بعناية اللوحة الممتدة على كامل الجدار، من أعلى إلى أسفل، ويستقرأون الرسائل الفردية الواردة في اللوحات الصغيرة
“طفلتي البالغة من العمر ثلاث سنوات، أمل، لا تزال تتذكر التفاصيل الدقيقة والمعقدة للحرب” قالت ناتيل.
بعد ولادتها في المملكة العربية السعودية، انتقلت عائلة ناتيل إلى غزة عندما كان عمرها أربع سنوات، “كانت هذه أول وآخر مرة أعبر فيها من الأردن عبر الضفة الغربية إلى قطاع غزة،” قالت ناتيل لصحيفة ميدل إيست آي، ورغم أنها غادرت غزة ذهابًا وإيابًا لأكثر من مرة، ولكن منذ إغلاق معبر رفح من مصر في عام 2013، لم تكن ناتيل قادرة، مثل معظم المواطنين في غزة، على الحصول على التصريح اللازم لمغادرة الجيب الساحلي الغزاوي.
من خلال مساعدة منظمة غزة عن غزة التي تمول العمل، وبمساعدة من الصحفي الإنجليزي جون سنو، الذي حمل اللوحات معه من غزة إلى لندن، تمكنت ناتيل من عرض عملها في هذا المعرض.
بالنسبة لناتيل، انعدام حرية التنقل هي أحد أصعب جوانب الحصار، خاصة مع “زيادة أعباء الحياة التي تجعلها أشد صعوبة، لا سيّما في ظل انقطاع الكهرباء المتكرر، ناهيك عن الأزمات الأخر،ى بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وعدم الاستقرار المالي والسياسي”، تقول ناتيل.
تحدي انقطاع الكهرباء
الانقطاع الطويل والمستمر للتيار الكهربائي لم يمنع الفنانين في غزة والضفة الغربية من زيادة وجودهم على وسائل الإعلام الاجتماعية ليرووا تجاربهم، أو ليدعموا أعمالهم، أو حتى لجمع الأموال والتبرعات لتطوير أفكار جديدة، وهذا هو تمامًا ما تحاول نداء بدوان تحقيقه؛ فرغم أن مشاركتها في معرض لندن تعد متواضعة، حيث اقتصرت على ثلاث تصاوير صغيرة من أصل 14 لوحة تصوير ذاتي، يشكلون بمجموعهم مشروعها المسمى “100 يوم من العزلة”، بيد أن أعمالها انتشرت على نطاق واسع في وسائل الإعلام الغربية، وجالت في معظم أنحاء الضفة الغربية خلال النصف الأول من العام، كما أطلقت بدوان مبادرة تمويل لجمع الأموال من العامة لشراء الاستوديو والمعدات اللازمة لمواصلة عملها.
بدوان جمعت جميع تصاويرها من هذا المشروع ضمن غرفة نومها، حيث انكفأت هناك لمدة عام كامل للهروب من واقع غزة المتردي، وطريقتها هذه للتعامل مع المشكلة اقتبسها عنها العديد من الفنانين الفلسطينيين، حيث نبعت العزلة من الصراع مع إسرائيل والتعصب الديني داخل المجتمع الإسلامي على حد سواء، وهو الأمر الذي جذب الاهتمام الدولي.
باسل المقوسي، الذي دُعي للمشاركة في المعرض من خلال منظمة مهرجان الفنون الفلسطينية، يعتقد بأن الفنانين الفلسطينيين مقيدون بشكل عام، “إن التقاليد والدين الإسلامي يمنع جميع الفنانين من الانخراط بالفن حتى آخر مراحله” يقول المقوسي في رسالة بريد إلكتروني لميدل إيست آي، ويتابع “خصوصًا عندما يتعلق الأمر برسم النساء العاريات أو التحدث عن الجنس”.
يرى المقوسي مع العديد من زملائه الفنانين الفلسطينيين، بأن الحصار يعيق التبادل الثقافي، كونه “يمنعنا من تسويق أعمالنا أو حضور ورشات العمل خارج غزة أو فلسطين”، على حد تعبير المقوسي، ولكن على الرغم من كافة المصاعب، وبعد تدربه في الأردن وسفره إلى أوروبا، استطاع في عام 2009 تجهيز استوديو للعمل وصالة عرض في غزة، بالتشارك مع اثنين من زملائه.
نقص الإمدادات الفنية التي يفرضها الحصار جعل المقوسي يلجأ إلى الأدوات الرقمية للتعبير عن أفكاره، رغم أنه مازال يرسم عندما يكون ذلك ممكنًا، “نعاني من مشكلة في استيراد المواد مثل الألوان أو القماش، لذلك نستخدم الفن الرقمي والتصوير الفوتوغرافي للتواصل مع العالم من خلال وسائل الاعلام الاجتماعية والإنترنت”، يقول المقوسي، الذي يعتبر بأن تصوير المجازر والاعتداءات هو أحد الالتزامات الملقاة على كاهله كفنان.
أثناء زيارته لأحد الأحياء المدمرة في هجمات الصيف الماضي، فكر المقوسي بالطريقة المثلى لنقل المعاناة التي يراها من حوله إلى العالم الخارجي، وهنا قرر استخدام الأعمال المشهورة لكبار الفنانين مثل مايكل أنجلو، بيكاسو، سيزان، وإدوارد مونش، لتحويلها لصور تظهر مناطق في غزة، وقام بنشرها ضمن حسابه على الفيسبوك، “صُدم الناس بشكل أكبر، وباشروا بتحمل المزيد من المسؤولية تجاه ما يحدث في غزة، لأنهم قادرون على التواصل مع الصورة بشكل أفضل، في حال كانوا يألفونها سابقًا”، يشرح المقوسي.
أطلق المقوسي على الفن التصويري الرقمي الذي قام بعرضه في لندن اسم “العشاء الأخير”، لأنه اختار اللوحة الشهيرة للفنان ليوناردو دافنشي ووضعها على مشارف حي مدمر في غزة، وضمن الصورة لا أحد يظهر منتبهًا إلى مشهد غزة المدمر، سوى رجلين فلسطينيين لا يشاركان في الوجبة.
الفيلم هو تخصص آخر استخدمه الفنانون الفلسطينيون في المعرض، حيث شاهدنا المقاطع التجريبية مثل فيلم “الشراب الأول: مي وملح” للمخرج يوسف نتيل، وفيلم الرسوم المتحركة الوثائقي “المطلوبون الـ18” الذي أخرجه عامر الشوملي وبول كوان، وفاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان ترافيرس سيتي السينمائي لهذا العام، ويصف ممول هذا المهرجان الأمريكي، المخرج الشهير مايكل مور، فيلم المطلوبون الـ18 بأنه “أحد أفضل الأفلام التي رأيتها هذا العام”.
وجهات نظر المراهقين
إلى جانب الفنانين، عرض المراهقون الفلسطينيون المشاركون في البرنامج النفسي المستمر الذي تديره المنظمة الفلسطينية “جمعية الثقافة والفكر الحر”، مجموعة مختارة من رسوماتهم بالأسود والأبيض.
في البداية بدأ المشروع في يناير، ولكنه توقف بسبب هجوم الصيف، وحينها قام داعمو البرنامج من منظمة المعونة المسيحية بتوفير أموال الطوارئ للمباشرة بمشروع الأزمة الذي يهدف إلى “مساعدة الأطفال على استخدام الأدوات لتخطي تجاربهم المؤلمة للغاية، ومن ثم توفير الوسط الملائم لهم ليكونوا قادرين على التعبير عن أنفسهم”، كما توضح حنان الماسو، مديرة برنامج المعونة المسيحية.
بعد وقف إطلاق النار، زار المراهقون الشباب المتضررون من أعمال العنف ملاجئ الأطفال، ورسموا إلهاماتهم التي نجمت عن تلك المحادثات، أو المنحدرة من تجاربهم الخاصة والصور التي شاهدوها على وسائل الإعلام، “هذه هي الصور المترسخة في أذهان الشباب، إنها واقعهم، وإذا كان لدينا فرصة للتغيير، علينا تولي هذه المسؤولية لرفع مستوى الوعي حول العنف والانغلاق الناجم عنه”، تقول الماسو.
يأمل مدير المعرض، يحيى زلوم، أن يستطيع المعرض إظهار الفلسطينيين كـ”مجتمع يستطيع الجمهور الغربي الارتباط والتواصل معه، وبذلك سيبدأ الغرب بفهم الفلسطينيين بشكل أفضل”.
استطاع المعرض استقطاب الجمهور المهتم سياسيًا أو فنيًا، وكان ما لفت روني غراهام في المعرض هو “الكيفية التي يتعامل ويتأقلم بها جيل المراهقة في غزة مع تلك الهجمات، والواقع الذي يرغب هؤلاء بطرحه وتبيانه”.
روني غراهام يقرأ تصريحات الأطفال أمام اللوحات التي التقطوها بعد العدوان الإسرائيلي على غزة الصيف الماضي
إيمان عطا، مسؤولة الإغاثة الفلسطينية، التقطت عدة صور للوحات ناتيل من خلال هاتفها الجوال، “أنا لم أر صورة واحدة لا تضج بالحياة، والسعادة، والفرح، وهذا في الحقيقة ما يريده الأطفال، إنها صور متفائلة للغاية رغم أنها قادمة من زمن الحرب”، تقول عطا.
نسرين رجا، الفنانة الباكستانية، تصف الصور بأنها “مؤثرة للغاية، فعلى الرغم من أنها تتكلم عن أطفال غزة، بيد أن الأعمال التي تصورها يرغب بممارستها كل طفل في العالم، إنها تذكرني بالرسومات الطفولية لأختي الصغيرة”.
المصدر: ميدل إيست آي