كثيرة هي النظريات عن أهمية الشبكات في مقابل المؤسسات، ومميزات العمل الأفقي مقارنة بالجهود الرأسية المعتمدة على التنظيمات، إلا أن الواقع، حتى وقت قريب، ظل يؤكد على أن المؤسسات والتنظيمات الكبرى تستطيع فعل ما لا يسع الشبكات الصغيرة فعله، وهو ربما خطأ يقع على عاتق من أبقى على فكرة الشبكات الأفقية حبيسة الكتب والبحوث، أو ربما حاول تنزيلها على الأرض بالشروع في مهام تصعب منافسة المؤسسات فيها.
في مقال سابق كنا قد تناولنا صفحة هيومانز أوف نيويورك الشهيرة على الفيسبوك، وتحدثنا عن إيجابيات الثورة التي تحدثها في علاقة الصورة بالإنسان، وقد أوجزنا ما يقوم به براندون ستانتون، المصور المسؤول عن الصفحة، باعتباره دمقرطة للصورة The Democratization of the Image، حيث يترك ستانتون زمام الأمور لمسار الحياة اليومية العشوائي ليحدد له من سيقابل، ويقوم بالتقاط صورة له دون أي عملية انتقائية ذات هدف فني كما يجري في السينما أو غيرها من فنون التصوير الاحترافي.
لم يقتصر ذلك المنهج، أو اللامنهج في الحقيقة، على دخول عشرات الآلاف من البشر المجهولين إلى الكادر، بل وحين قُدر لستانتون أن يلتقي شخصًا معروفًا نسبيًا، مثل متسلق الجبال المصري الشهير عُمر سمرة، نقلت لنا كاميرا ستانتون الأفقية تلك قصته كما لم نسمع بها من قبل، وربما لم نكن لنسمع بها أصلًا بالنظر لصورته أحادية البُعد التي ترسخت عبر الإعلانات المصرية وغيرها، والتي لم تنظر له سوى من زاوية نجاحه كمتسلق، وهو السبب الرئيسي لشهرته.
لم يكن يعرف براندون عُمر سمرة بالطبع، فهو معروف بين شباب الطبقة الوسطى في مصر فقط، وبالتالي دخل إلى الكادر دون أي اعتبارات مسبقة، ونقل قصة حياته الرئيسية كما يرى نفسه لا كما تراه وكالات الإعلان، ومعاناته مع آلام الفقد بعد وفاة زوجته وهي تلد ابنتهما الأولى، وكيف أنه، في الحقيقة، لم يعد يشعر بالكثير من الإيجابية تجاه الهوس بالوصول للقِمَم والتسلق كما في السابق، وهو أمر قد يخصم ربما في المستقبل من رصيده كنجم إعلاني، ولكنه على ما يبدو قد حشد له مجموعة محبين أكثر أهمية، ومتجاوزة لبلده الأم.
هنالك الآلاف مثل عُمرة سمرة ممن ظهروا على الصفحة، فمنهم من فقد ابنته مؤخرًا، ومنهم من أطلق العنان للحديث عن علاقة فاشلة، ومن أطلت لتشاركنا معاناتها في تربية أبنائها بميزانية محدودة في واحدة من أغنى مدن العالم، ثم من تحدث عن استمرار العنصرية ومعاناته منها، وأخيرًا المئات من الأطفال ممن دخول للكادر أيضًا دون مواربة، وأطلوا علينا بأحلام طفولية وخيالية وكلمات مقتضبة، مرة أخرى دون تدخل من براندون.
لا أحد يطلق الأحكام هنا، بل الكُل في حالة تضامن إن جاز القول، بدءًا ممن يرى نفسه ومعاناته فيمن ظهر بإحدى الصور، أو من تعاطف معها ليس إلا، وهي حالة تضامن نفسية عابرة للثقافات، بدأت تتحول في حقيقة الأمر نحو أمرٍ أكثر فاعلية وإيجابية، ومتجاوز للآمال والآلام الشخصية: حالة تضامن بالمعنى الحرفي للكلمة.
الكاميرا الأفقية: من نيويورك إلى لاهور
كانت الخطوة التالية والمتوقعة لكاميرا براندون الأفقية هي الخروج من حيز مدينة نيويورك، ومحاولة “توسيع الكادر” إن جاز القول ليشمل شرائح أكثر، فبينما كان براندون يقدم لنا عالم نيويورك من على الأرض بعيدًا عما كانت ترسمه لنا كاميرات السينما على مدار عقود، فإنه قد قرر على ما يبدو أن يفعل الشيء نفسه فيما يخص الصور النمطية عن شعوب بلدين لربما يخشاهما الأمريكيون أكثر من سواهما لأسباب لا تحتاج للتفصيل: باكستان وإيران.
لا ندري إن كان اختيار هذين البلدين المسلمين السني والشيعي واعيًا أم لا، ولكنه قلب تصورات الملايين من متابعيه رأسًا على عقب ممن لم تكن لتسنح لهم الفرصة لزيارة كل المدن التي زارها براندون بأنفسهم، من لاهور وكراتشي حتى تبريز وغيرها في رحلة لم تنتهي بعد، كما يقول سيل الصور القادم من إيران حاليًا، وهو لم يفتح آفاق متابعيه الأمريكيين فقط على ما يبدو، بل وكل من يعيش خارج إيران وباكستان ولا يدري عن سكانهما شيئًا، بما في ذلك البلدان العربية المجاورة، علاوة على أهل تلك البلدان أنفسهم ممن يعيشون في الحضر ويجهلون معاناة الريف.
في شوارع إيران
معاناة الريف الباكستاني مع العمالة الجبرية هي القصة الرئيسية التي جلبها براندون بكاميرته الخاصة من باكستان، لا مع الإرهاب أو الفساد أو هيمنة الجيش أو غيرها، فالملايين هنا تعمل في تصنيع الطوب الأحمر لتسديد ديونها بشروط مُجحِفة خارج إطار القانون، وينتهي بها الأمر في هذا المجال لبقية عمرها في الغالب فيما يعرف بالعمالة الجبرية Bonded Labour، والتي لا تختلف كثيرًا في طابعها وما يخضع له ضحاياها من استبداد أرباب العمل عن العبودية في العصور السالفة.
قصة طويلة ومعقدة بالطبع احتاج معها براندون إلى سبع صور لشرح مأساة أولئك العمال، وهيمنة أصحاب رؤوس المال ذوي النفوذ عليهم، وكيف يدرّون 3٪ من الدخل القومي الباكستاني بصناعتهم تلك والتي تجري تفاصيلها اليومية القبيحة بينما تغض الدولة الطرف عنها نتيجة لقوتهم داخل الدولة، وهُم لا يكتفون بالطبع باستعباد الملايين، بل والاعتداء الصريح على كل من يحاول الوقوف لأجلهم، وأبرزهم سيدة غلام فاطمة.
“قررت سيّدة غلام فاطمة أن تفني حياتها للقضاء على العمالة الجبرية، وتعرضت في سبيل ذلك لإطلاق النار والضرب بل والكهرباء لنشاطها، فهي تقف سدًا منيعًا بين العمال المقهورين وأصحاب المال، وقد أسست جمعية خصيصًا لذلك هي جبهة تحرير العمالة الجبرية، والتي تعمل في ريف باكستان محاولة أن تضمن حصول كل عامل على الدعم القانوني المناسب، بيد أن الجمعية بالطبع تعمل بميزانية ضئيلة جدًا.”
سيدة غلام فاطمة
بهذه الكلمات قدم إلينا براندون الناشطة الباكستانية سيدة التي تحاول الدفاع عن كل هؤلاء العمال، وهي مهمة شبه مستحيلة كما ذكر بالأموال الضئيلة التي تمتلكها جمعيتها، مما دفعه لفتح باب التبرع لها، لتنهال الدولارات من متابعي الصفحة المنتشرين حول العالم، وتصل إلى مليون دولار خلال 12 ساعة فقط، و2 مليون دولار في المُجمَل حتى الآن، وهي أموال دفعت سيدة لتقرر توسيع جهودها في الريف الباكستاني، وأعطتها دفعة للأمام في مهمة كانت لتتوقف في المستقبل القريب نتيجة نفاذ التمويل.
من التواصل إلى التضامن الاجتماعي
لم تكن تلك في الحقيقة أول مرة يبرز هذا الجانب التضامني لهيومانز أوف نيويورك، وإن كانت قصة باكستان قد جذبت الملايين نظرًا لطبيعة الأزمة والمعاناة الشديدة التي يعانيها العمال هناك، ففي يناير الماضي كانت إحدى المدارس المهمّشة في نيويورك، وهي موت هول بريدجيز أكاديمي، التي ينتمي معظم طلابها لشريحة الأمريكيين من أصل أفريقي، على موعد مع كاميرا براندون ولحظة من لحظات التضامن لمساعدة المدرسة.
ميس لوپيز
“ذات يوم انهالت عليّ مجموعة من الرسائل على هاتفي من المدرسين والطلبة، وحين رأيت صورة فيدال ظننت أن أمرًا سيئًا قد حدث، وهو عادة ما يحدث حين تظهر صورة أحدهم بهذا الشكل..” هكذا تحدثت “ميس لوپيز” عن أحد الطلاب بالمدرسة التي تعمل كناظرة فيها، والذي ظهر بعد أن قابلته كاميرا ستانتون في أحد شوارع نيويورك، وتحدث عنها كأبرز شخص يُلهمه في حياته.
لم يكن غريبًا ما اعتقدته لوپيز في البداية بالنظر للحال المتواضعة للمدرسة والحي البسيط الذي توجد فيه، وهو حي براونسفيل الذي يهيمن السود واللاتينيون على سكانه، ويعَد ذائع الصيت نظرًا لمعدلات الجريمة والفقر المرتفعة فيه، وهي مدرسة كانت لوپيز تفكر بالاستقالة منها نظرًا لظروفها الاجتماعية والمادية الصعبة، حتى رفع براندون الصور التي التقطها لها ولطلبة المدرسة وفتح باب التبرع لإنشاء برنامج يتيح للطلاب زيارة هارفرد سنويًا، بل وإنشاء برنامج صيفي، وهي تبرعات وصلت لمليون دولار وحققت أهدافها بالفعل.
هناك حالات كثيرة خارج إطار صفحة هيومانز أوف نيويورك استُخدِمَت فيها شبكات التواصل الاجتماعي لتوسيع نطاق مشاريع خيرية أو اجتماعية معينة، بدءًا من رعاية الأيتام وتزويج الفقراء وإعالة الأرامل وحتى بناء المساجد وشراء معدات للمستشفيات وإيواء أسر اللاجئين، وهي حالات ربما لا تشكل فيها وسائل التواصل الاجتماعي مركز المشروع، على العكس من هيومانز أوف نيويورك، ولكنها تُعَد واحدة من أبرز عوامل قيام المشروع الخيري أو الاجتماعي نتيجة اعتمادها على نشر فكرة التضامن عن طريق الفيسبوك أو تويتر أو غيره.
حين بدأت وسائل التواصل الاجتماعي واتسع نطاق استخدامها في العالم العربي ثم انطلقت بعد ذلك بسنوات ثورات الربيع العربي، انصب تركيز الكثيرين على التبعات السياسية لطبيعة تلك الشبكات الأفقية وأثرها على المجال العام، واتجهت بعض التحليلات الرومانسية لقدرة هذه المواقع على خلق بديل سياسي في وقت قصير، بيد أن وسائل التواصل الاجتماعي، مثلها مثل أي حراك سبقها، ستحتاج للمرور بكافة مراحل التأثير الاجتماعي والبناء من أسفل قبل أن يتسنى لأي من مستخدميها أن يحدثوا أثرًا سياسيًا، تمامًا كما يحدث مع الحركات الاجتماعية على الأرض كالحركات الإسلامية أو الحركات البيئية في الغرب أو حركات الهندوسية المحافظة في الهند.
التحول من التواصل إلى التضامن هو ربما الخطوة الأهم في تاريخ وسائل التواصل الاجتماعي في هذه المرحلة، والتي لا نعلم إلى أي مدى ستتسع، فصفحة هيومانز أوف نيويورك لا تزال في أولى زياراتها للخارج، والكثير من المشاريع التي قامت مستندة لدوائر الفيسبوك لا تزال في طور الميلاد والنمو، ولعل حراك كهذا سيستغرق عقودًا قبل أن يرسخ أي نموذج اجتماعي أو شبكة أوسع يُبنى عليها كل الطموح السياسي الذي بالغ فيه كثيرون، وهو بناء سيُتاح له ربما حينئذ أن يكون ذا أثر أكبر وعُمر أطول، مقارنة بما جرى لتويتات الربيع العربي قصيرة الكلمات والعُمر أيضًا.
أخيرًا، وبينما يعتقد الكثيرون أن ما يقوم به براندون أمرًا مزيفًا أو سخيفًا أو لا ينقل بشكل كافي الحقائق على الأرض، يجدر القول أن الكاميرا لا تتسع لالتقاط الواقع كله، وأن كاميرا براندون هي ربما أوسع ما يمكن أن يصل له كادر، وإذ يرى بعض المصورين المحترفين أن ما يقوم به براندون هو خارج عن إطار التصوير الاحترافي، فإن التصوير كفن احترافي في الحقيقة قد يكون الكادر فيه أضيق من كادر براندون نتيجة احترافيته تلك، فبينما يتسكع براندون في شوارع نيويورك، متبنيًا اللامنهج وهو يطلق العنان لأصابعه على الكاميرا، فإنه في الحقيقة يخلق كاميرا أفقية عفوية دون أية أهداف فنية، ولعل خروجه من الإطار الضيق للتصوير المحترف المعتمد على المنهج والمقتصر على الهدف هو ما سمح له بالذوبان في أهداف اجتماعية أوسع وأكثر أهمية، وفتح له باب السعي في تحقيقها بالفعل.