كنت قد أعددت وزملائي في سجن طرة ورقة بحثية نعدد فيها تلك الأسباب والعوامل صاحبة الأثر على نفسية المعتقل وتجعله ما بين متفائلٍ ويائس، منشرحٍ ومنقبض، وكان في مقدمة تلك القائمة والمؤثر الرئيسي بالطبع الحراك الثوري؛ توهجه وخفوته، علوه وانخفاضه، جريانه وركوده وهو أكثر تلك العوامل التي تبعث بمؤشر التفاؤل لدي المعتقل صعودًا وهبوطًا.
فتعودنا على مدار عامين من الأَسْر على مجموعة من الأسئلة يسألها المعتقلين لبعضهم البعض صباحًا ومساءً دون كللٍ أو ملل، إيه اخبار المسيرات إمبارح ..هل كانت قوية”؟ البلد الفلاني موقفها إيه مننا؟ طيب والبلد العلاني موقفها إيه من الانقلاب؟ أسئلة يسعى من خلالها لتصبير نفسه وتسكين روحه علها تكون عونًا له على قضاء الأيام العجاف التي يمضيها بين جنبات سجنه، وبتلك الإجابات أيضًا يتحدد له لون يومه المتقلب بين لوني ملابسنا الأبيض والأزرق ومؤخرًا الأحمر.
وتمضي الأيام هنا بتلك الرتابة التي أحكيها لكم .. لماذا أحكي لكم ولم هذا الملل؟
أحكي لكم لتتخيلوا حجم السعادة والبهجة التي تبثونها في قلوبنا بثورتكم وشغفنا لاستمرارها واتساع دائرتها وانضمام ألوان الطيف السياسي لها وتوحدكم على طريقها الذي لا بديل عنه، كل ذلك يؤجج داخلنا شعور الأمل بخروجنا من هذا المكان وعودتنا إلى أحضان أمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا.
ولكم أن تتخيلوا أيضًا حجم الحسرة والإحباط واليأس الذي ألمّ بنا وكأن حجرًا ضخمًا أُلقي على رؤوسنا فتكسرت تحته أحلامًا وآمالًا بخروجنا نحن المعتقلين بعد سماعنا لتلك الاخبار التي تُتَداول هذه الأيام.
أتحدث عن خروج العزة الذي يشعرنا أنّ ما قضيناه في غياهب السجون لم يضيع هباءً، وأننا كنا بتحملنا وصبرنا جزءًا من ثورة كانت نهاية مطافها النصر المبين، لا خروج ذل وخزي وليد صفقةٍ تضيع معها حقوقنا وحقوق شهدائنا الأبرار الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل أن نعيش أحرارًا في عزةٍ وكرامةٍ.
تلك الأخبار التي تتحدث عن انقسام حاد في عصبِ الثورة (في تنظيم الاخوان المسلمين)؛ انقسام بين فريقين: الأول الحرس القديم الذين ظهروا بشكل مريب في تلك اللحظة بعد غياب واختفاء مريب ليقيضوا المسار الثوري لدى التنظيم والتي شاءت الأقدار وحكمت الظروف ألا يكون عنه أي بديل.
ليس جديدًا على هذا الفريق ذلك الاختيار؛ حيث إنه ورغم تلك الأحداث الجسام التي شهدتها الأمة ولا زالت لم يتسلل مفهوم الثورة كحل أوحد لما نواجهه إلى أذهانهم بل آثروا السلامة والتدرج في الإصلاح (كوضع الندى في موضع السيف) وحجتهم في ذلك وهم الحفاظ على التنظيم، وكأن ديدنهم خفض الرؤوس حينما تعلو الموجة، أما المواجهة فغير واردة في قاموسهم.
وفريق آخر هو الذي ثبت في الميدان رغم التهديدات وأعاد تنظيم الصفوف وترتيبها وحدد خياراته وطريقه وعنوانه “الثورة” وأنه لا عودة للوراء حتى لو كان السبيل إلى ذلك التضحية بدمائهم أنفسَهم ضاربين أروع الأمثلة بالثبات وتقدم الصفوف ولكم في أبطال مدينة أكتوبر(الذين قتلوا بدم بارد) أروع مثال.
هذا الصراع يا أحبه كان نتاجه حالة الركود التي يعيشها الحراك الثوري هذه الأيام كنتاج لما يقوم به أنصار المهادنة من ضغوط وممارسات لإمضاء إرادتهم وذلك بما يمتلكونه من أدوات واتصالات، كل ذلك ونحن نتابع ونشاهد ويمنعنا قيدُنا أن نعلق، فكان لزامًا علينا أن نطلق تلك الصرخة.
لا ادّعي أنني ممثلًا عن المعتقلين، ولكنّي أنقل لكم نبض سجني الذي أقبع فيه وسمته الغضب والحنق وحرقة داخل الصدور ،وإن كنا آسفين أن وصلنا إلى تلك النقطة التي تتطلب من الكل أن يتخذ قراره وينحاز لأحد الفريقين.
نطلق صرخةً لأنصار المهادنة، اتركوها لوجه الله، اتركوا الثورة تحاول محو واقع مرير كنتم مساهمين في رسمه، صرخةً نعلن من خلالها رفضنَا أن نُستخدم نحن المعتقلين كورقةٍ يُزايد بها طرف على آخر أو يستخدمها طرف مسوغًا لاختياره البائس.
وإلى أنصار الثورة، نُقبِّل أياديكم وجباهكم، استمروا في حراككم ولو مُنِع عنكم المدد، نرقبكم وندعوا لكم نعلنها لكم أنّا معكم حتي النهاية، حتى وإن كان رد فعلهم ومحاولةً للتأثير عليكم قتلنا واحدًا واحدًا في السجون، فلا تتراجعوا فهذا بذلُنا لكم.
وإلى جموع الإخوان المسلمين الثوار وشركائهم الأبطال الحقيقين في تلك الملحمة الذين وقفوا بصدور عارية أمام آلة البطش والقتل الغاشمة، نحمِّلكم أمانة حق الدم والمصابين والمعتقلين وحق الأجيال القادمةِ وحق الأمم الأخرى المعرضة لما نتعرض له من انتهاك لإرادة الشعوبِ “إن مرَّ بسلام” فكل ذلك مرهونٌ بخيارِكم.
قد تكون لهجتي حادة بعض الشيء ولكننا في وضع لا يحتمل أي خلاف أو انقسام أو تصرف غير مسؤول.
وختامًا .. أعتذر إن أثقلت عليكم.