ترجمة وتحرير نون بوست
خلال الأسابيع القليلة الماضية، رتّب أنصار الاتفاق النووي مع إيران، ابتداءً من قمة الهرم المتمثلة بالرئيس الأمريكي باراك أوباما ونزولًا إلى المراتب الأدنى، هجومًا قويًا ضد بعض أبرز المعارضين للصفقة، وعلى وجه التحديد، ركز أنصار الصفقة على حقيقة لا جدال فيها، والتي تتمثل بأن العديد من الأفراد والمنظمات التي تمارس الضغوطات بنشاط وتعارض علنًا الصفقة النووية، ساعدت على تحقيق حلم فكرة غزو العراق، أو عملت بجد لإقناع الكونجرس والشعب الأمريكي بالتوافق مع هذه الفكرة؛ لذا فإن منطق المعسكر المؤيد للصفقة هو بسيط للغاية، بالنظر إلى أن المعارضين للصفقة اليوم كانوا مخطئين بشكل كارثي في تأييدهم للحرب على العراق، لا ينبغي لأحد الاستماع لنصائحهم اليوم.
من وجهة نظري، أنا أتفق مع هذه المقولة الأساسية، ولكن المعارضين للصفقة يتمسكون بخط دفاعهم الأوحد ضد مقولة “مخطئون بشأن العراق، مخطئون بشأن إيران”، ويتمثل دفاعهم بقولهم إنه من الممكن لشخص ما أن يكون مخطئًا للغاية حول الحكمة من غزو العراق في عام 2003، ولكنه مع ذلك قد يكون مصيبًا لجهة معارضة الاتفاق النووي مع إيران اليوم، فلا أحد منا معصوم عن الخطأ، ومن المعقول أن يكون بيل كريستول، إليوت أبرامز، جيمس وولسي، فريد هيات، ماكس بوت، وآخرون، مخطئون في عام 2002 ولكنهم على حق هذه المرة.
يمكن أن نفترض أن هذه الحجة معقولة، ولكنها مستبعدة للغاية، ولكن لماذا؟ لأن وجهات نظر المعارضين للاتفاق النووي اليوم ليست مستقلة عن آرائهم التي طرحوها عام 2002، بل على العكس من ذلك، دعمهم السابق لحرب العراق ومعارضتهم الحالية للاتفاق الإيراني ينبعان من وجهة النظر العالمية الأساسية للمحافظين الجدد والتي تؤطر كامل نهجهم المتبع تجاه السياسة الخارجية.
بشكل أكثر تحديدًا ودقة، المشكلة لا تتمثل فقط بالخطأ المحرج الذي ارتكبوه حول العراق، فبعد كل شيء، الكثير من الأشخاص الذين تم تضليلهم في ذلك الوقت للقبول بفكرة غزو العراق، يدعمون الآن الصفقة النووية، وعلى قدم المساواة لا تتمحور المشكلة في عناد المحافظين الجدد وأرضيتهم الأخلاقية المشكوك بها التي خولتهم رفض الاعتراف بخطئهم والتحلل من تحمل المسؤولية عن الحيوات والأموال التي تم إهدارها نتيجة لذلك.
بل إن المشكلة تتمثل بحقيقة أن النظرة العالمية التي يتمتع بها المحافظون الجدد، وهي ذات النظرة التي لا تزال تؤطر تفكير العديد من الجماعات والأفراد الأكثر صخبًا في معارضتهم للصفقة الإيران، هي خاطئة ومضللة في أساسها وجوهرها، بمعنى أن خطأ العراق لم يكن ناجمًا عن مجرد سوء تقدير مؤسف، بل إنه نتيجة لنظرياتهم المريبة والمشكوك فيها حول السياسة العالمية، ونتيجة لفهمهم الأخرق للكيفية التي يعمل بها هذا العالم، ومن الناحية التقنية، عندما يكون برنامجك الإستراتيجي على الكومبيوتر يفيض بالعيوب والاختلالات، لا بد أن تتوقع سيلًا من رسائل الخطأ.
إذن، ما هي العيوب الرئيسية التي تؤدي باستمرار إلى دفع المحافظين الجدد إلى سبل الضلال والخطأ؟
أولًا، المحافظون الجدد يعتقدون بأن توزان القوى السياسية مبدأ غير صالح ليحكم الشؤون الدولية، بل يجب على الدول أن تنصاع بقوة وتركب ضمن “عربة” الدول الأقوى بدلًا من ذلك، وبعبارة أخرى، مبادئ المحافظين الجدد تتصور بأنه من السهل الضغط على الدول الأضعف لضمان انصياعها وعدم تحديها للخصوم الأقوياء، وهذا المنطق الخاطئ يستتبع أن تقوم الدول الأخرى بفعل ما تمليه عليها واشنطن فقط، وهذا الأمر مشروط بمدى القوة والعنف الذي تظهره أمريكا في سياستها العالمية؛ هذا الاعتقاد قادهم إلى الاستنتاج بأن إسقاط صدام سيرسل رسالة قوية ستدفع بالدول الأخرى في الشرق الأوسط إلى تملق أمريكا، وإذا واصلت أمريكا سياسة الضغط وإظهار القوة، فإن القوة العسكرية العظمى لأمريكا ستعمل بسرعة على تحويل المنطقة إلى بحر من الديمقراطيات المؤيدة والمنصاعة للولايات المتحدة.
ما حدث، للأسف، هو أن الدول المختلفة التي كنا نهددها لم تقفز ضمن “عربتنا”، بل بدلًا من ذلك، سوّت هذه الدول أمورها، وتوازنت، ومن ثم اتخذت خطوات لتواجهنا بمقاومة كبيرة ومتنامية، وهذا الأمر ظهر على وجه الخصوص في سورية وإيران، وهما الهدفان المقبلان على قائمة أهداف المحافظين الجدد، حيث تعاونتا مع بعضها البعض، وساعدتا على تعزيز التمرد المناهض للولايات المتحدة في العراق نفسها، وبالطبع أغضب هذا السلوك المحافظين الجدد، وهو أمر ليس بمفاجئ بالنظر إلى أفكارهم التي ينتهجونها، وفي الوقت عينه، حلفاء الولايات المتحدة المخضرمين غضبوا من سياسة وأفعال أمريكا ونأوا بأنفسهم عنا، أو استغلوا السياسة الأمريكية المفرطة وركبوا في عربتنا مجانًا على حساب أمريكا، وباختصار، تبين بأن أفكار المحافظين الجدد حول قدرة الولايات المتحدة على ترهيب وتخويف الآخرين لدفعهم لممارسة الأعمال لحسابها، هي أفكار خاطئة ولا أساس لها من الصحة.
اليوم، بطبيعة الحال، المعارضة للاتفاق الإيراني تعكس اعتقادًا مماثلًا حول قدرة العنف والقوة على تخويل واشنطن لإملاء شروطها مهما كانت، حيث سبق لي وأن كتبت مقالًا يوضح بأن فكرة “الصفقة الأفضل” هي أسطورة غير قابلة للتحقيق، لأن المحافظين الجدد يفترضون بأن الدول تنصاع للقوة ويسهل إرهابها وتخويفها، ويعتقدون بأن رفض الصفقة، تصعيد العقوبات، والتهديد بالحرب سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى تراجع الحكومة الإيرانية وتفكيكها لبرنامجها للتخصيب النووي بأكمله، ولكن الحقيقة هي تمامًا على عكس ذلك، كون التخلف عن عقد هذه الصفقة سوف يشد من عزيمة إيران، وسيقوي من بأس المتشددين ضمن السياسة الإيرانية، وربما سيتحول جل اهتمامهم للحصول على سلاح نووي في يوم من الأيام، كما سيتسبب ذلك بحل شراكة بعض الأعضاء في دول الخمسة زائد واحد مع الولايات المتحدة.
ثانيًا، نظرة المحافظين الجدد تبالغ أيضًا في تقدير فعالية القوة العسكرية بالتوازي مع تحجيمها لشأن الدبلوماسية في مجال العلاقات الدولية، وبطبيعة الحال، القوة العسكرية هي عنصر أساسي من عناصر القوة الوطنية، ولكن المحافظين الجدد يميلون لرؤيتها كأداة سحرية قادرة على إنجاز كل شيء، حتى تلك الأمور التي لم تصمم القوة العسكرية لإنجازها، كخلق ديمقراطيات عملية في دول العالم على سبيل المثال، وفي الواقع، القوة العسكرية هي أداة خام يصعب التنبؤ بما قد ينجم عن استعمالها، وغالبًا ما تنتج عواقبًا غير مقصودة، ولنا أسوة مثلًا في ليبيا، اليمن، الصومال، باكستان، وما إلى ذلك، كما أن الحال كان كذلك تمامًا إبان استخدام القوة العسكرية في العراق، فضلًا عن أن نتائج الصراع العسكري المباشر مع إيران لا يمكن التنبؤ بها على حد سواء.
علاوة على ذلك، يعتقد المحافظون الجدد بأن القوة العسكرية هي أداة مطواعة يمكن تشغيلها وإيقافها كصنبور مياه، فإذا استخدمت الولايات المتحدة القوة الخشنة وسارت الأمور بشكل سيء، يرى المحافظون الجدد أن أمريكا قادرة على سحب قواتها للتو، وإرجاء القتال ليوم آخر، ولكن الأمور ليست بهذه البساطة في العالم السياسي الحقيقي؛ فبمجرد نزول القوات إلى الأرض، سيطالب القادة العسكريون بالمزيد من الفرص لتحقيق انتصار صريح، والسياسيون سيقلقون حيال ضياع هيبة الأمة وفقدانهم لثرواتهم السياسية، والصراعات في أفغانستان، العراق، اليمن، والصومال ينبغي أن تعلمنا بأن الانخراط بالحرب أسهل بكثير من الخروج منها، ولكن يبدو أن معظم المحافظين الجدد ضيعوا الحكمة المستفادة من هذا الدرس.
ثالثًا، المحافظون الجدد يتبنون نظرة مبسطة وغير تاريخية حول الديمقراطية بحد ذاتها، فهم يزعمون بأن هدفهم الرئيسي هو نشر الحرية والديمقراطية، باستثناء الشعب الفلسطيني بالطبع، ولكنهم لا يمتلكون نظرية تشرح كيف ستعم الديمقراطية وتنتشر أو كيف سيتسبب إسقاط حكومة أجنبية من خلال القوة العسكرية بشكل سحري بظهور الديمقراطية في ذاك البلد فجأة، بدلًا من ذلك، يرى معتنقو هذه المبادئ بأن الرغبة بالعيش بحرية وديمقراطية مضمنة داخل الحمض النووي البشري، وكل ما علينا القيام به هو الإطاحة بالأشخاص الأشرار الذين يعتلون دفة الحكم، وبمجرد خلعهم، فإن السكان المحررين للتو سينسون المظالم الماضية، سيشكلون الأحزاب السياسية، سيتبنون ثقافة التسامح، سيصطفون لتنظيم انتخابات ديمقراطية، وسيرتضون بنتائجها عن طيب خاطر، وبالمحصلة سيقدمون رسائل العرفان والامتنان لفضل العم سام.
سيكون من الجميل حقًا لو كان هذا السيناريو البولياني (نسبة إلى رواية بوليانا للكاتبة إلينور بورتر) دقيق وحقيقي على أرض الواقع، ولكن في الحقيقة إن مثل هذه الآراء تشكل خيانة متمثلة بالجهل شبه التام للشروط الأساسية لمعنى للديمقراطية وتاريخ تطورها الفعلي في الغرب بحد ذاته؛ ففي الواقع، خاضت الديمقراطية الليبرالية عملية تطور طويلة، خلافية، غير كاملة، وغالبًا عنيفة، في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وأي شخص مطلع على هذا التاريخ سيدرك مسبقًا بأن وصفة المحافظين الجدد للتغيير الديمقراطي هي وصفة محكومة بالفشل منذ البداية.
رابعًا، على نحو يلائم مجموعة منظري الكراسي الوثيرة الذين يهدفون بشكل أساسي للظفر بالسلطة في أروقة واشنطن، غالبًا ما تمتاز نظرة المحافظين بالجهل المدهش للظروف الفعلية القائمة في الدول التي يرغبون بتحويل سياستها ومجتمعها، فأي من المحافظين الجدد لا يكاد يعرف أي شيء عن واقع العراق قبيل غزو الولايات المتحدة لها، وربما لو تم وضع هذه الظروف القائمة فعليًا على أرض الواقع في العراق بعين الاعتبار، لتمت إعادة النظر بكامل المخطط، واليوم أيضًا، تتميز توصيفات المحافظين الجدد لإيران بتهيئات مخيفة تحمل شبهًا ضعيفًا بالواقع السياسي والاجتماعي المعقد في إيران، وباختصار، بالإضافة إلى نظرياتهم الخاطئة، فإن نظرة المحافظين الجدد تعوّل أيضًا على قراءة غير دقيقة للحقائق على أرض الواقع.
أخيرًا وليس آخرًا، مقاربات المحافظين الجدد تجاه السياسة الخارجية الأمريكية يتم تشويهها بشكل دائم من خلال ارتباطهم القوي بإسرائيل، وهو الارتباط الذي يصفه ماكس بوت، وغيره، بأنه “الركيزة الأساسية” للحركة بأكملها، وعلى الرغم من أن هذا الارتباط ليس خاطئًا بحد ذاته، بيد أنه يعمل على إعاقة قدرة المحافظين الجدد على تقديم المشورة السياسة العقلانية للسياسيين في الولايات المتحدة، وبشكل خاص، يميل المحافظون الجدد للاعتقاد بأن ما يصب في مصلحة إسرائيل يصب في مصلحة الولايات المتحدة، والعكس صحيح، وهذا هو السبب في أنهم لا يرون أي تناقض ما بين ارتباطهم بإسرائيل وولائهم للولايات المتحدة، ولكن على أرض الواقع، لا يوجد دولتين على سطح المعمورة تتمتعان بمصالح متطابقة في جميع الأوقات، وعندما تتعاكس مصالح البلدين، يضطر الأشخاص الذين يرتبطون بقوة بكل منهما لترتيب أولوياتهم حول الدولة التي يرغبون بالانحياز للوقوف في صفها.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، أشار بعض أنصار الاتفاق –بحق-، إلى أن بعض المعارضين للصفقة يعارضونها لأنهم يعتقدون بأنها لا تصب بمصلحة إسرائيل، ولأن حكومة نتنياهو تعارضها بشدة، وبالطبع كما هو متوقع، أودى هذا النقاش لاتهام أنصار الصفقة، بما في ذلك الرئيس أوباما، بمعاداة السامية، وهذه الاتهامات كما تقول، لارا فريدمان، جي جي غولدبرغ، وبيتر بينارت، هي اتهامات سخيفة، بل إنها مثيرة للضحك أيضًا، فمن بين أمور أخرى، يبدو بأن أغلبية اليهود الأمريكيين يؤيدون الصفقة، وذات الموقف يتبناه العديد من الشخصيات البارزة في مؤسسة الأمن القومي الإسرائيلي ذاتها، ومن هنا يمكننا القول بأن جهود نتنياهو كانت تهدف لإقناع اليهود الأمريكيين بأن من واجبهم تقديم الدعم له، بدلًا من تقديم الدعم لرئيسهم، بناء على هذه الحجج لواهية.
إن الترويج لهذا التشويه المألوف للحقائق بدلًا من الانتقاد الجاد، هو في الحقيقة مجرد وسيلة لتغيير الموضوع، وحصر أنصار الصفقة في موقف دفاعي، ولحسن الحظ، التهمة هنا لا يبدو بأنها مخولة للالتصاق بمؤيدي الصفقة، وهي مجرد علامة أخرى على أن المعارضين لا يحوزون حججًا عقلانية أو أدلة دامغة لتبرير معارضتهم.
خلاصة القول: حقيقة كون المحافظين الجدد، أيباك، مؤتمر الرؤساء، والمجموعات الأخرى المنضوية تحت لواء اللوبي الإسرائيلي، مخطئين حول الحرب على العراق بحد ذاتها، لا تعني أنهم بالضرورة مخطئين حول صفقة إيران، ولكن عند دراسة وجهات النظر الأساسية حول سياسة هذه المجموعات العالمية، ونهجهم المستمر حيال سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يصبح من الواضح أن هذا ليس من قبيل الصدفة على الإطلاق؛ فالدعم لحرب العراق ومعارضة الاتفاق النووي ينحدران من ذات الأماكن الخاطئة، وهذا هو السبب الذي يجعل من اتباع نصائح المعارضين اليوم تصرفًا أحمقًا كما كان في عام 2003.
المصدر: فورين بوليسي