ترجمة وتحرير نون بوست
النمو الاقتصادي السريع في العقد الأخير بتركيا، والذي أطلق عليه الكثيرون اسم المعجزة الاقتصادية التركية، أدى إلى انتشار مراكز التسوق الجذابة التي تعرض البضائع الفاخرة، بناء ناطحات السحاب الرائعة التي تقدم مستويات عالية من الراحة السكنية وتوفر خيارات راقية لتناول الطعام، بالإضافة إلى الزيادة الكبيرة في عدد السيارات الفاخرة التي تجوب شوارع المدن التركية.
ولكن كل هذا لا يعني أي شيء لعبد الرحمن، الذي يعمل كعامل نظافة في مستشفى بإسطنبول مقابل الحصول على الحد الأدنى للأجور، ويواجه مهمة شاقة يوميًا لتأمين أساسيات الحياة لأسرته المكونة من ستة أفراد.
شهد الاقتصاد التركي انطلاقة كبيرة ووصل إلى معدلات نمو عالية قاربت الـ 9.2% في عام 2010، وذلك في أعقاب الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والهيكلية التي تم تنفيذها بالبلاد في وقت مبكر من افتتاحية هذه الألفية، وعلى الرغم من برود العجلة الاقتصادية منذ ذلك الحين لينخفض معدل النمو الحالي ليقارب ال 3% فقط، بيد أن الميزة الأهم التي بزغت إثر هذا التقدم السريع تتمثل بالفجوة بين أولئك الذين استفادوا من النمو الاقتصادي وأولئك الذين تخلفوا عن هذا الركب.
عبد الرحمن يحصل على الحد الأدنى للأجر، حوالي 1000 ليرة تركية (339 دولار أمريكي)، وعليه أن يوفر سبل المعيشة له ولزوجته ولأربعة أطفال، ويقول شارحًا وضعه “يمكنك أن ترى الطمع والطموح يتزايدان يوميًا ما بين الأشخاص الذين يبحثون دائمًا عن المزيد والمزيد، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ سأكون سعيدًا إذا كان بإمكاني شراء رغيف من الخبز وبعض الجبن لإطعام عائلتي في معظم الأمسيات”.
ومع ذلك، فإن عبد الرحمن هو واحد من القلة القليلة المحظوظة، فهو يتمتع بعقد تأمين، ولا يضطر لدفع إيجار المنزل كونه يعيش في شقة يملكها شقيقه؛ فوفقًا للبيانات الصادرة عن إدارة الإيرادات، هناك ما يقدر بنحو خمسة ملايين شخص يعملون بالحد الأدنى للأجور في تركيا، والكثيرون أيضًا يعملون في مجال الاقتصاد غير الرسمي، ويحرمون حتى من الحماية الأساسية الواجب توافرها في أماكن العمل، مثل التأمين، والذي تعد أحد أهم ميزاته تخويل المؤمن له للحصول على معاش تقاعدي في وقت لاحق من حياته.
“من المستحيل أن تتدبر أمورك وأنت تعتاش على الحد الأدنى للأجور” قال عبد الرحمن لصحيفة ميدل إيست آي، وتابع قائلًا “في أيام العطل أعمل عملًا إضافيًا في مجال النقل والعتل، وزوجتي أيضًا تحاول الحصول على فرص للعمل بالتنظيف أو برعاية الأطفال لدعم دخل الأسرة، ولكن حتى مع ذلك لا يكفينا المرتب، إننا نعيش في صراع مستمر”.
ويستطرد عبد الرحمن قائلًا “لا أستطيع تحمل نفقة اصطحاب أطفالي إلى مراكز التسوق للحصول على القليل من الترفيه، وأحيانًا أشعر بالخجل من النظر في عيون أطفالي وزوجتي”.
يوضح عبد الرحمن بأن عائلته لم تكن لتستطع العيش لولا المساعدات العرضية التي يقدمها له أصهاره، مضيفًا بأنه لم يعد مؤهلًا أيضًا للحصول على المساعدات العشوائية التي تقدمها البلدية ومكتب حاكم المنطقة كونه موظف ويتمتع بعقد تأمين.
رغم أن تركيا تتمتع بنظام رعاية صحي يتفوق على بعض البلدان المتقدمة، كما أنها بلد تقدم التعليم المجاني، بيد أن الأسر ذات الدخل المنخفض لا تزال تواجه صعوبات جمة، “رئيسنا يستمر بحثّ السكان على إنجاب المزيد من الأطفال، ولكن توفير المعيشة لهم ليس بالأمر السهل، والدعم المقدم من قِبل الدولة غير كافٍ” قال عبد الرحمن، وأوضح بأن تكاليف نقل أولاده ذهابًا وإيابًا من المدرسة فقط يضع عبئًا مرهقًا على كاهل أسرته، ناهيك عن التكاليف الأخرى المرتبطة بالتعليم مثل احتياجات القرطاسية وغيرها.
“لولا ضمير بعض الناس طيبي القلب الذين يساعدونني من وقت لآخر، لا أعرف ماذا كنت سأفعل، فحاليًا عائلتي لم تتذوق طعم اللحوم الحمراء منذ وقت طويل، وأنا لا أعرف حتى ما هو سعر هذه اللحوم، لأنني لا أجد جدوى من السؤال عن سعرها أساسًا”، يقول عبد الرحمن، ويردف “بين الفينة والأخرى أستطيع شراء الدجاج لعائلتي، لأنه أقل تكلفة من اللحوم الحمراء، ولكن يعتصرني الشعور بأن أطفالي محرمون من مثل هذه الأمور”.
“رغم كل ذلك، أنا لست ناكرًا للجميل” يقول عبد الرحمن، ويتابع “أعرف أن هناك أناس أوضاعهم أسوأ بكثير من وضعي، فهم إما لا يمكنهم إيجاد عمل، أو يعملون بوظائف لا تمنحهم المزايا التي أحصل الآن عليها”.
هذه قصة شائعة في تركيا، وغالبًا ما يكون المجتمع ضمن هذه القصة بديلًا عن مؤسسات الدولة في مساعدة المحتاجين، ومن الأمثلة على ذلك نظام المخابز المحلية، التي توفر الخبز لأولئك الذين لا يستطيعون تحمل ذلك، حيث تسجل المخابز عدد أرغفة الخبز التي يتم تسليمها بدون أي تكلفة للمحتاجين، ويتم بعدها تعويض سعر هذه الأرغفة من خلال دفع المشترين لسعر أرغفة خبز أكثر مما يشترونه في الواقع.
الاستفادة من الطفرة الاقتصادية
إبراهيم سابان، على الجهة الأخرى، حصد فوائد الطفرة الاقتصادية التي انطلقت في العقد الماضي، من خلال توسيع إمبراطوريته التجارية، سابان، 40 عامًا، والمحامي بالممارسة، انخرط أولًا بنشاط عائلته بمجال المجوهرات وتصريف العملات، ومنذ ذلك الحين استطاع التوسع بأعماله ليصل بتنوعها إلى 10 مجالات مختلفة تتراوح بين البناء وتكنولوجيا المعلومات.
“الإصلاحات والشفافية التي أدخلتها الحكومة بعد عام 2002 أعطتني، والكثيرين مثلي، الثقة للشروع في المشاريع التجارية والنجاح في عملنا”، يقول سابان مضيفًا بأن نجاحه ناجم عن المناخ الهادئ للأعمال والسياسة في البلاد.
وعلى الرغم من ميوله السياسية المحابية لحزب العدالة والتنمية المؤسس من قِبل رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، بيد أن شركات سابان لا علاقة لها البتة بالمناقصات الحكومية ومشاريع الخصخصة التي تطرحها الحكومة، ولكنه مع ذلك، يحرص على التأكيد بأن مصداقية الحكومة هي التي دفعته لوضع أمواله في المشاريع التجارية المختلفة.
“الأوساط العلمانية التي كانت تدير البلاد سابقًا لم تكن تستطيع تقبل نجاح الأشخاص المحافظين، وبالتالي كانوا سعداء لعرقلة اقتصاد البلاد، طالما بقيت نخبتهم الصغيرة تحتفظ بالأموال لنفسها” يقول سابان.
الفجوة الواضحة والمتنامية ما بين مختلف شرائح المجتمع غير ناجمة عن سياسات الحكومة المتهورة، وفقًا لسابان، الذي يصر على أن أي فجوة قائمة في البلد لا تتمثل بالفجوة بين الأغنياء والفقراء، بل تتمثل بالفجوة الأيديولوجية، حيث يقول موضحًا “أنا لا أقول بأن كل شيء عظيم، ولكن الوضع أفضل بكثير بالنسبة للجميع الآن، الشركات الأكثر نجاحًا تعني المزيد من فرص العمل والتقدم، الجميع تقريبًا عانى من الفقر والبؤس سابقًا، باستثناء عدد قليل من النخب المقربة من السلطة، ولربما كان هذا الواقع أقل وضوحًا ولكن الأوضاع سابقًا كانت أسوأ بكثير من الوضع الآن”، ويردف سابان موضحًا بأن البلاد لم تكمل عملية التحول الصناعي حتى الآن بسبب حالة الجمود التي كان عليها أن تتحملها منذ عشرينيات القرن الماضي.
سابان الذي يفكر الآن بمستقبل ضمن المجال السياسي، يرى بأن الاتهامات الموجهة للحكومة بأنها تؤيد وتدعم قطاع الأعمال على حساب حقوق العمال، هي اتهامات مجحفة وغير عادلة.
“الحد الأدنى للأجور هو بعد واحد فقط من الموضوع، والحكومة غير قادرة على اتخاذ قرارات أحادية الجانب لتغيير هذا الوضع، فظروف السوق العالمية مهمة في هذا المجال، وأعمالنا تحتاج للحفاظ على قدرتها التنافسية، كل مواطن في هذا البلد لديه حق بالوصول إلى الرعاية الصحية المجانية والتعليم المجاني، وكرجل أعمال، أقف ضد زيادة الحد الأدنى للأجور لأنه سوف يضر بالعمل”.
أول تحرك لسابان باتجاه عالم السياسة كان في الفترة التي تسبق الانتخابات العامة في 7 يونيو، حيث كان يسعى ليصبح نائبًا بالبرلمان، ولكنه لم ينجح، “حالتي المادية ميسورة ورغيدة، لذا لن أدخل معترك السياسة من أجل المال، أريد أن أوفي للمجتمع حقه الآن بعد أن نجحت، فالحكومة مهدت السبل والوسائل للمحافظين، الذين يشكلون غالبية السكان، ليصبحوا أشخاصًا ناجحين، والآن أرغب في أن أكون جزءًا من الوجوه الشابة الجديدة التي ستحمل هذا التقليد وتمضي به إلى الأمام”.
ارتفاع الإنفاق الكمالي
يشير تقرير صدر مؤخرًا عن ديلويت إلى وجود اتجاه تصاعدي في قطاع الإنفاق الكمالي في تركيا على الرغم من الاقتصاد المتعثر وارتفاع نسبة البطالة والتضخم، ويتوقع التقرير بأن سوق السلع الفاخرة والكمالية سيطرد ارتفاعًا ليصل إلى 7 مليار ليرة تركية، 2.4 مليار دولار، بحلول عام 2018 على الرغم من التباطؤ الاقتصادي.
وفقًا لأرهان أصلان أوغلو، أستاذ الاقتصاد في جامعة بيري ريس في إسطنبول، الاستمرار بالإنفاق على البضائع الفاخرة رغم انكماش الاقتصاد لا ينبغي أن يشكل مفاجأة كبرى من الناحية الاقتصادية، لكنه يؤكد أيضًا على الحاجة لإعادة النظر في العوامل الاجتماعية والنفسية التي أسست لهذا الاتجاه الاقتصادي.
“سوف تستمر المجموعات ذات الدخل المرتفع بالإنفاق، فهؤلاء أقل عرضة للتأثر بالانكماش الاقتصادي على المدى القصير، وستواصل الفئات ذات الدخل المتوسط سياستها الإنفاقية أيضًا، فسكان البلدان ذات الدخل المتوسط، مثل تركيا، يتمتعون بشكل عام بميل للإنفاق الاستهلاكي”، يقول أصلان أوغلو.
ويضيف أصلان أوغلو قائلًا “بالطبع نحتاج أيضًا للنظر في قضايا أخرى مثل فكرة أن استهلاك البضائع الفاخرة يساهم في ارتفاع الوضع الاجتماعي، كما يساهم في ارتفاع النزعة التركية الاستهلاكية، وعلينا أن لا ننسى أيضًا بأن الكثير من هذه العلامات التجارية الفاخرة تستهدف السياح الأثرياء في الشرق الأوسط، وقدرتهم العالية على الإنفاق”.
فيما يخص عدم المساواة في توزيع الدخل، يعتقد أصلان أوغلو بأن هذه المشكلة تعم على نطاق عالمي، وتؤثر على البلدان المتقدمة أيضًا، وتركيا ليست استثناءً، حيث يقول “ليس هناك من شك في أن التفاوت في الدخل يمثل مشكلة لتركيا، وكونها دولة ذات دخل متوسط فإن التباين في توزيع الدخل يبدو بشكل أكثر وضوحًا، ولكن في الوقت عينه لا يمكننا إنكار أن الوضع الاقتصادي بالمقارنة مع الـ15 عامًا الماضية قد تحسن قليلًا على أرض الواقع”، ويؤكد بأن هذا التحسن يمكن ملاحظته بشكل جلي من خلال ارتفاع مؤشر مُعَامِل جيني (وهو مقياس لقياس عدالة توزيع الدخل القومي) من 0.43 إلى 0.48 حاليًا.
من وجهة نظر أصلان أوغلو، يوجد عاملان رئيسيان للانخفاض الاقتصادي الذي تعاني منه تركيا، يتمثل الأول بأن تركيا لم تعد تتمتع بمعدلات فائدة مرتفعة مترافقة مع التضخم كما كان عليه الحال سابقًا، وهو الوضع الذي أدى إلى تخصيص الفئات ذات الدخل المرتفع بميزات كبيرة، أما العامل الثاني فيتمثل بحقيقة أنه خلال أول فترتين انتخابيتين قضاهما حزب العدالة والتنمية في السلطة، وفرت الحكومة الدعم للفئات ذات الدخل المنخفض على نطاق واسع، وهو الأمر الذي لم يستمر على ذات النطاق حتى الآن.
“النمو الاقتصادي المطرد يعني أن نصيب الفرد من الدخل ارتفع من 3000 دولار في عام 2002 إلى 10.000دولار حاليًا”، يقول أصلان أوغلو، ويتابع موضحًا “ولكن هذا الدخل انخفض قليلًا حاليًا نتيجة لوقوف تركيا على شفا حفرة الوقوع بفخ الدخل المتوسط، وبجميع الأحوال دعم النمو لا يزال هو أفضل وسيلة لمعالجة عدم المساواة في الدخل”.
يشير أصلان أوغلو بأن أحد العوامل القليلة التي تسهل بشكل بسيط معيشة الفئات ذات الدخل المنخفض في تركيا تتمثل بالثقافة الاجتماعية السائدة، والقائمة على وجود شبكات دعم مجتمعية وأسرية قوية غالبًا ما تهب لنجدة الفقراء.
في النهاية، المؤشرات والاتجاهات الاقتصادية لا تعني الكثير لعبد الرحمن ولملايين الأشخاص من أمثاله، الذين يواجهون يوميًا صعوبات جمة لوضع رغيف من الخبز على الطاولة، “هذا اللهاث المحموم خلف الثروة، يعني، كما هي العادة، بأن الجميع قد نسي الفقراء في البلاد، فنحن طبقة غير مرئية بالنسبة لهم جميعًا”.
المصدر: ميدل إيست آي