ينبئ التعامل الأمني مع المتظاهرين اللبنانيين الحانقين على الحكومة في بيروت إذا ما استمر التصعيد من جانب الشارع وقوات الأمن بحدوث فراغ أمني وعسكري في مناطق أخرى من البلاد، خاصة إذا ما قررت الحكومة اللبنانية استدعاء الجيش إلى الشارع لمواجهة الفوضى أو التظاهرات، في ظل تهديد قوى سياسية بعينها بتصعيد المواجهات في الشارع مع تحذيرها لقادة الجيش من الوقوف أمام هذا التصعيد، الأمر الذي قد يغري أطرافًا مثل تنظيم الدولة الإسلامية باقتحام الحدود السورية اللبنانية، هذا ما يقوله بعض المتابعين.
ليس هذا فحسب بل إن حالة السيولة السياسية التي تشهدها البلاد ودفع بعض الأطراف إلى استمرار المواجهة مع الحكومة اللبنانية الحالية في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية في نظر رجل الشارع اللبناني قد يكون حافزًا للدخول في حالة فوضى أمنية تذكر بتلك الأيام التي سبقت اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية للعراق في ظل فشل الحكومة المركزية في بغداد بقيادة المالكي وكذلك الغضب الشعبي السني من حالة الإقصاء والتهميش.
الاحتجاجات مستمرة على أداء الحكومة في ملف الخدمات بعدما فشلت حكومة بيروت الطائفية في اتخاذ قرارات حاسمة لمواجهتها، حتى تحول أمر الاحتجاج من مجرد الاحتجاج على سوء التعامل مع أزمة تراكم النفايات إلى ظهور أصوات مطالبة بإسقاط حكومة تمام سلام، وكذلك بدايات ظهور ألوان الطيف السياسي اللبناني بمطالب خاصة ما يشير إلى انتهازية سياسية للانقضاض على هذه الحكومة بعدما كانت بدايات الاحتجاجات شبابية غير طائفية.
سبعة وعشرون هي عدد اجتماعات البرلمان اللبناني منذ تسلمه مهمة انتخاب رئيس جديد مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان الذي انتقلت مهامه الرئاسية إلى حكومة تمام سلام مؤقتًا، القوى السياسية اللبنانية تتقاذف الاتهامات حول مسؤولية الإخفاق في انتخاب رئيس توافقي منذ مايو الماضي، بالرغم من تحذير ميشال سليمان في خطابه الأخير قبل ترك المهام الرئاسية من مخاطر فراغ هذا المنصب.
يرجع البعض هذا التأخر إلى العامل الإقليمي الذي يتحكم في انتخاب الرئيس عبر القوى السياسية المختلفة في لبنان المرتبطة بأجندات خارجية، بحيث لا يمكن إنكار الدور العربي والإقليمي في هذه المسألة الحساسة، فبينما ترى مجموعة التيار الوطني الحر ضرورة أن يكون الزعيم المسيحي الماروني ميشال عون هو الرئيس، لا يأبه حزب الله بأي من المرشحين واضعًا رؤيته الخاصة التي لا تمانع من بقاء الوضع كما هو عليه دون انتخاب رئيس لأجل غير مسمى، وسط اتهامات غير خافية له بأن ذلك أمر إيراني لتابعها في لبنان.
حزب الله وبعض التيارات السياسية المتحالفة معه لا ترى أزمة في شغور منصب الرئيس في لبنان ويؤكدون أن المادة 62 من الدستور اللبناني تنص على توكيل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء الذي يتكون من ممثلين لمختلف الطوائف الدينية والسياسية في لبنان، وبالتالي من وجهة نظرهم فلا خطر يمكن أن ينتج عن هذا الوضع.
فيما يرى المرشح للانتخابات الرئاسية في لبنان سمير جعجع أن إيران هي الجهة الوحيدة التي تتدخل حاليًا في الشأن اللبناني، مؤكدًا أن تدخلها يتضح من خلال تعطيل جلسات الانتخاب عبر قوى 8 من آذار، وبعيدًا عن تصريحات جعجع فإن حديثه يتأكد من خلال نظرة المتابعين للشأن اللبناني الذين يرون أن العامل الخارجي هو الأقوى والأكثر حسمًا في اختيار الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية.
هذه التوازنات الخارجية ترجح استمرار هذا الفراغ الذي يقود البلاد إلى الفشل السياسي بحسب تعبيرات بعض الكتاب اللبنانيين، كما أن هذا الفراغ هو مجرد ترجمة للعجز السياسي الداخلي في إيجاد أي مخرج لأزمات لبنان المستعصية، فهذه الحالة انتقلت إلى حكومة تمام سلام التي ما زالت تعقد الاجتماعات الوزارية واحدة تلو الأخرى لتناقش القضايا المصيرية التي تعصف بالداخل اللبناني، ولكن حتى الآن هذه الحكومة لا تعرف ما إذا كان ينبغي عليها اعتماد قراراتها بواسطة الأغلبية أم تنتظر وهم التوافق تحت دعاوى تمثيلها لكافة الأطياف اللبنانية.
هذه الحالة أجلتها حملة “طلعت ريحتكم” التي أوضحت شلل المؤسسات الحكومية اللبنانية أمام معضلة تراكم النفايات، مما دفع مؤسسات المجتمع المدني في لبنان لتنظيم هذه الحملة ضد المسؤولين في الحكومة، أما على الصعيد الحكومي فقد هدد تمام سلام بالاستقالة إذا ما استمر الوضع السياسي على هذه الصورة في ظل ضغط شعبي متمثل في تظاهرات محتجة على أداء الحكومة الضعيف في الملفات الخدمية المختلفة.
محللون يرون أن الشعب اللبناني فقد ثقته بهذه الحكومة وغيرها، حيث يعتقد شعبيًا بأن قرارات الحكومة باتت من خارج لبنان وليس من خارج مجلس الوزراء فقط، وهو الأمر الذي أدى إلى حالة الاستسلام للأمرالواقع واتخاذ موقف لامبالي تجاه الفساد الحكومي بسبب فقدان الثقة في كفاءة النخبة السياسية التي تتصارع على الحكم.
أما عن التظاهرات الحالية القائمة في لبنان فقد خرجت في بادئ الأمر احتجاجًا على انتشار القمامة في شوارع العاصمة اللبنانية بيروت في ظل عجز الحكومة عن إيجاد حل سريع وفعال لهذه الأزمة التي أرقت المواطن اللبناني العادي، فجأة تحولت هذه الاحتجاجات على النفايات المتراكمة إلى مطالبات بسقوط الحكومة اللبنانية تحت دعاوى الفساد والفشل.
بدون الخوض في نوايا المتظاهرين ومن وراءهم فإنه سيناريو مأساوي قد يتخيله البعض إذا ما استمرت هذه الاحتجاجات المطالبة بإسقاط الحكومة اللبنانية في ظل حالة من التنازع السياسي لاختيار منصب هو أقرب إلى الشرفي كحالة منصب رئيس الجمهورية، فكيف ستكون الصورة إذا سقطت الحكومة الدستورية، في ظل تصاعد عوامل تدفع باستمرار الاحتجاج في الشارع كالتعامل الأمني العنيف مع هذه التظاهرات السلمية، وهذا الذي أدى إلى طرح تساؤلات من النشطاء اللبنانيين حول الغرض من هذا التعامل العنيف غير المبرر مع تظاهرات “طلعت ريحتكم”.
رواية أخرى تدوالها البعض في لبنان هي أن ثمة عناصر هي التي حاولت اقتحام السياج الأمني أمام مقر السراي الحكومي تمهيدًا لاقتحامه، وهو ما أدى لرد الشرطة بضرب قنابل الغاز والرصاص المطاطي بوجه المتظاهرين، ومن ثم اندلعت اشتباكات بين الطرفين ساهمت فيها مجموعات غير معروفة من المتظاهرين، وقد أكدت هذه الرواية شهادات من القائمين على حملة “طلعت ريحتكم” تقول إن حراكهم سلمي وليست لهم أي علاقة بهذه العناصر التي تشارك في الاشتباكات ضد الشرطة، لكن على أي حال من الأحوال هذا الأمر في وجهة نظر البعض لا يبرر مطلقًا عنف الشرطة المفرط الذي اعترف به رئيس الوزراء تمام سلام.
كما يُعتقد أن هناك ثمة محاولات حثيثة متخذة من بعض القوى السياسية على الأرض لإشعال الموقف بالدعوة إلى النزول إلى الشارع، فقد اتهم البعض ميشال عون بزرع بعض الشعارات التي ستثير الفتنة عن طريق أنصاره الذين دعاهم للنزول إلى الشارع، وتلوين هذه الاحتجاجات الشعبية بلون سياسي، إذ تقول حركات سياسية لبنانية إن تظاهر أنصار الميشال عون ضمن حملة “طلعت ريحتكم” شيء مثير للسخرية لأن تيارهم السياسي جانح في هذا الفشل السياسي والحكومي الذي أدى إلى تدهور الخدمات الحياتية في لبنان.
فيما أشار البعض إلى أن التهويل من الواقع السياسي والحياتي في لبنان هي محاولات لإسقاط الحكومة أو ربما للضغط للحصول على مكاسب معينة في صراع الرئاسة غير المحسوم، حيث إن هذا الواقع المتردي ليس بالجديد منذ سنوات، بالإضافة إلى حالة التردي الذي يشهدها الاقتصاد اللبناني المثقل بالديون –أكثر من مليار دولار- بما في ذلك المساعدات الدولية .
تحركات التيار العوني أو غيره ليست هي الوحيدة التي تعد لعبًا بالنار في لبنان، فمشكلة قيادة الجيش اللبناني تمثل قنبلة موقوتة هي الأخرى تعد أخطر من مسألة التناحر السياسي الحادث لما يمكن أن يترتب عليها من عواقب وخيمة، إذ يهدد تيار عون بالعصيان المدني في حالة استمرار التمديد لقادة الجيش، حيث يرفض ميشال عون قرار وزير الدفاع اللبناني سمير مقبل التمديد لقادة الجيش اللبناني وعلى رأسهم قائد الجيش العماد جان قهوجي وقد حذر عون أيضًا مع اندلاع الاحتجاجات الجيش اللبناني وقائده العماد جان قهوجي من وضع الجيش في مواجهة “التيار الوطني الحر” ومناصريه في التظاهرات الحالية، حيث يتهم عون قهوجي بمحاولة تسييس الجيش.
ويأتي موقف عون بعد التمديد لقهوجي حيث وقع وزير الدفاع سمير مقبل قرار تأجيل تسريح قائد الجيش العماد جان قهوجي ورئيس الأركان اللواء وليد سلمان والأمين العام للمجلس الأعلى الدفاع اللواء محمد خير.
تحذير عون ينظر إليه البعض بنوع من التشاؤم إذا إن التحركات الشعبية حتى الآن لا تستدعي تدخل الجيش في بيروت نهائيًا، لكن مع التعامل الأخير العنيف من الشرطة تجاه المتظاهرين وحالة الحشد والتعبئة التي تمارسها بعض التيارات وفي مقدمتها التيار العوني ضد الحكومة ملوحًا لأنصاره بالاستعداد للنفير، وهو ما قد يشي بوقوع حوادث عنف تستدعي الجيش للسيطرة على الوضع.
إذا ما تم استدعاء الجيش إلى الساحة السياسية فإن ثمة ثغرة قد تمر منها الأزمة السورية إلى لبنان كما يريد البعض، فحزب الله دائمًا ما يهدد ويشير إلى إمكانية انتقال الصراع السوري إلى داخل لبنان عبر الجماعات المتشددة وأنها يجب مواجهتها قبل وقوع ذلك، لتبرير موقفه من المشاركة في الحرب داخل سوريا وهو موقف مرفوض من أغلبية القوى السياسية اللبنانية.
أما مع تدخل الجيش في الصراع السياسي الدائر الذي تقوده حالة من الفشل السياسي من كافة الأطراف في ظل حكومة عاجزة قد تكون هذه هي الظروف الأمثل لغزو لبنان من قِبل داعش مثلما حدث في الموصل إبان حكومة المالكي التي لا تختلف كثيرًا في فشلها السياسي والاقتصادي عن الوضع الآني في لبنان.
فلا نستطيع أن نقول إن الجيش اللبناني هو الذي يمنع داعش من الدخول إلى لبنان لكن وجوده على الحدود مع بعض من التماسك في الجبهة الداخلية يُصعب الأمر تمامًا على فصيل كداعش يعشق الفوضى ويستغل الهبات الشعبية ضد الحكومات ليتمركز في مناطق قاتلة، فالانتفاضة السنية في العراق كانت مناخًا مناسبًا لتقدم داعش على خطوة غزو العراق وقد نجحت.
وفي لبنان حاليًا في ظل حالة الفشل السياسي والاقتصادي والغضب الشعبي لن تتردد داعش في غزو لبنان بطريقتها التدريجية التي تتمثل في إشعال الحرب الطائفية عبر بعض العمليات الانتحارية ومن ثم إشعال فتيل الحرب الداخلية وفي أثناء انشغال كافة الأطراف تدق داعش مسمارها في المنطقة التي تريد، والحالة اللبنانية المتفككة هي الحالة المثلى لتنظيم كداعش الذي يتمدد في فراغ الفوضى الذي تسعى له بعض الفصائل اللبنانية حاليًا بقصد أو بدون قصد.
دون أن يعلم بعض هذه الفصائل أن حالة الفشل السياسي التي يدفعون البلاد إليها قد تجلب إليهم معامل جديد كداعش يشترك في صنع القرار داخل لبنان برضا هذه القوى السياسية أو رغمًا عنها، أما عن الفصيل المسلح الآخر وهو حزب الله فهو المستفيد الأكبر من خوض حرب كهذه بوصفه مدافعًا عن الشعب اللبناني أمام قوى التطرف الذي حذر منها قبل ذلك، وبالتأكيد سيعضد من وجهة نظره في ضرورة الدخول إلى مستنقع الحرب السورية لمنع داعش من التمدد في لبنان.