كتبت الزميلة نهى خالد مقالا على نون بوست بعنوان “هيومانز أوف نيويورك: شبكة تضامن عالمية؟“، عرضت نهى الأمر من منظور مميز، لكن السؤال هنا: هل هذا هو المنظور الوحيد لرؤية الصفحة -الظاهرة- هيومانز أوف نيويورك؟
تأتي مواقع التواصل الاجتماعي لتكون منبر المصوريين الصحفيين الذين يُقدمون نوعًا غير مألوف من التصوير الصحافي الذي لم تعتاده أعين المصوريين الاحترافيين، وهو علاقة الإنسان بالصورة، ومدى قدرة عدسة الكاميرا على رؤية ما يوجد خلف الكادر، ما يفعله هذا النوع من التصوير هو إيقاف اللحظة؛ لحظة طبيعية لشخص يسير في شوارع المدينة، يقف ليخبر الكاميرا بشيء يكشف جزءًا من حياته الشخصية، فتكون الصورة لها أبعاد يراها المرء ويحسها، فهي ليست مجرد صورة، هي حكاية مُلخصة في جملة ونظرة، من الممكن ألا تكون خاصة بمن يقع داخل الكادر وحده، إنما تلمس الملايين خارج حدود مدينة نيويورك، التي اتخذها براندون ستانون بداية لمشروعه “Humans Of New York”.
بعد أن كانت الكاميرا هي المحرك الأساسي للخبر، أصبح الواقع هو المحرك الأساسي للصورة في عُرف براندون ستانون، فهو يتخذ من الأحداث أو الأشخاص الذين يظهروا فجأة أمامه محركًا أساسيًا وعاملًا فعالًا لتكوين الكادر، واقتباس الجملة من على لسان من يتم تصويرهم.
“براندون ستانون”، هو المصور خلف كاميرا هيومانز أوف نيويورك، الذي صنفته مجلة “Time Magazine” كأحد أكثر الشخصيات، تحت سن الثلاثين، قدرة على تغيير العالم، بدأ مشروع هيومانز أوف نيويورك في عام 2010 لتصوير صور شخصية “portraits” لمواطني مدينة نيويورك، إلا أنه تطور عندما قرر ستانون إضافة مقتطفات من حديث الشخصيات التي يلتقط لها الصور، ليصل عدد المتابعين على صفحته في موقع فيسبوك أكثر من 14 مليون شخص، وأكثر من 3.5 مليون على إنستجرام، حصل ستانون على جائزة الـ”Webby” لأفضل استخدام لفن التصوير في 2013، وكذلك جائزة أفضل موقع إلكتروني ثقافي لنفس العام.
بدأ ستانون رحلته حول العالم العام الماضي في أغسطس، ليصل إلى 12 دولة مختلفة منها الهند، المكسيك، الأردن، إسرائيل، الكونغو، وكينيا، أما عن رحلته في العام الجاري فاختار باكستان وإيران وجهة له.
مع تكاثر الأصوات عن نجاح هيومانز أوف نيويورك في ربط العالم ببعضه من ناحية المجتمع والثقافة، وأن ستانون يبدع في جعل الشعوب المختلفة عن بعضها تتفق في نقطة واحدة؛ ألا وهي أننا في النهاية بشر، وأننا نتشابه في طريقة حياتنا أكثر مما كنا نتخيل، إلا أنه تعالت أصوات الآراء التي تقول إن هيومانز أوف نيويورك ليس مشروعًا إنسانيًا فحسب بل هو “بروباغندا” عالمية.
هيومانز أوف نيويورك: شبكة تضامن أم بروباغندا عالمية؟
إذا أردت أن تتصفح الموقع الخاص بـ”هيومانز أوف نيويورك” أو صفحة الفيسبوك الموجودة بنفس الاسم، ستجد أن الطابع الأساسي الذي تتميز به كل صورة وكل تعليق هو “الإنسانية”، والذي يدعو إليها “ستانون” منذ بداية المشروع، ولكن الجدير بالذكر أيضًا أن الأمر يخرج من نطاق الإنسانية إذا كانت من تعريف المواطن الأمريكي الأبيض فحسب، ليدخل في نطاق العنصرية أو نطاق النظرة الاستعلائية لمن هم أقل من المواطن الأمريكي.
يرى البعض أن ستانون بدأ رحلاته خارج نيويورك، وتحديدًا لأكثر البلاد التي يعتبرها المواطن الأمريكي تهديدًا وخطرًا مثل إيران وباكستان، وذلك في محاولة لربط العالم ببعضه وتصوير اشتراك الثقافات المختلفة في مبادئ الإنسانية، وأن المعاناة الإنسانية التي يعيشها المواطن الإيراني أو الباكستاني لا تختلف كثيرًا عن المعاناة التي يعيشها المواطن الأمريكي، إلا أن تلك المعاناة التي يصوّرها ستانون من الثقافات الغريبة على المواطن الأمريكي، يتم تصويرها فقط لتوائم تفكيره الغربي، فيختار “ستانون” القصص المشابهة للوضع الغربي، كما يختار أحيانًا الشخصيات التي تبدو كالمواطن الأمريكي شكلًا وتفكيرًا، وبالتالي يصبح الوضع مألوفًا للغاية عندما يقرأ الأمريكي وهو جالس في الولايات المتحدة كلامًا على لسان مواطن إيراني ويجده مُشابهًا للغاية لما يحدث في حياته الشخصية.
ما سبق ذكره يدفع المواطن غير الأمريكي للتفكير في مشروع “هيومانز أوف نيويورك” على أنه مشروع يهدف لصهر الثقافات، وتوحيدها لتكون ثقافة واحدة مقبولة في جميع الأماكن ومصدرها الثقافة الأمريكية، فالمقبول في “باكستان” أصبح من المقبول أيضًا في “إيران “، والاثنين يراهم المواطن الأمريكي متوافقين تمامًا مع ثقافته، إذن لا اختلاف، الصور كلها تهدف لنشر نفس المبادئ، الشعوب واحدة ولا اختلاف ولا تميز، مما يدفعنا بالسؤال في هل هذا هو تقييد لحرية الفرد الثقافية وحرية التفكير والمُعتَقد، وأن الدور قد حان للثقافة الأمريكية في الهيمنة، كما فعل اقتصادها في العالم، القوة العظمى في العالم لديها الحق في وضع ما تريد من أفكار ومُعتقدات في رأس من لا يضاهيها قوة وعلمًا، والشعوب الفقيرة والمضطربة سياسيًا هي من أفضل المواقع التي تستطيع الثقافة الأمريكية، وبجدارة، الهيمنة عليها لعدم توافقهما في القوة، هل ما يفعله “ستانون” ضد حرية الشعوب؟ لا يستطيع أحد الجزم بتأكيد هذا السؤال أو نفيه، إذ إن “هيومانز أوف نيويورك” مازال في أولى زياراته للخارج، ولم يمر عليه سوى عام واحد.
بعد أن أصبح لشبكات التواصل الاجتماعي القدرة على التغيير الاجتماعي كما سبق وحدث لها على التغيير السياسي في كثير من البلدان، آمن ستانون أن لمشروعه القدرة على التغيير الاجتماعي في كثير من المجتمعات الغربية والشرقية ومساعدتهم ماليًا؛ لتحقيق أهدافهم التي تدعو لإثراء حقوق الإنسان، وبالفعل حقّق ذلك في كثير من المواقف كان آخرها في باكستان، لامرأة تبذل جهدها للقضاء على العمالة الجبرية ومحاولتها المُستميتة رغم الميزانية التي لا تكفي المشروع، ساعد ستانون بعد نشر قصتها على صفحته بالفيس بوك لجمع التبرعات والمساعدات المالية التي وصلت إلى 2 مليون دولار لمساعدة تلك السيدة، لذا اهتم الكثيرون بكون هيومانز أوف نيويورك مشروعًا عالميًا للتضامن بين الثقافات المختلفة، لتحقيق مبدأ أننا كلنا في النهاية بشر رغم اختلاف المعتقدات والديانات، وأن الجميع يحارب في مكانه من أجل نفس المبادئ الإنسانية.
هيلاري كيلنتون وأوباما من متابعي “Humans Of New York”
مما أثار الشكوك حول كون المشروع ما هو إلا محض بروباغندا عالمية هي الصورة التي التقطها ستانون لطفل مثلي يتحدث فيها عن خوفه من المستقبل وخوفه من عدم تقبُل الناس له، لتأتي “هيلاري كلينتون” وتترك تعليقًا له، قائلة بأن مستقبله سيكون باهرًا وأنه سيكون قادرًا على تحقيق ما لم يتوقع أبدًا تحقيقه في حياته.
“ستانون” يستخدم الأسئلة ذات الإجابة الواحدة لدى حديثه مع المواطنين في الشوارع، مثل ما هي أسوأ لحظة مرت في حياتك؟، أو ما هو حلمك في المستقبل؟ أو من هي أكثر شخصية أثّرت عليك في حياتك؟
عندما تقرأ الاقتباس الذي يضعه “ستانون” أسفل كل صورة، ترى أن الشخص المتحدث ليس غريبًا عنك إطلاقًا، هو يتحدث مثلك، بل يفكر فيما تفكر فيه أنت أيضًا، ربما عانى في حياته من معاناة عشتها أنت كذلك.
اتبع ستانون هذا الأسلوب مع الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” في حديثه معه، عندما سأله من هي أكثر شخصية أثّرت في حياتك، ليجيب أوباما بأنها كانت أمه، عندما تركها والده وهو بعمر السنة لتجاهد وحدها من أجل تربيته وتعليمه، ستشعر تلقائيًا بأن أوباما ما هو إلا محض إنسان طبيعي عاني معاناة شخصية في حياته قبل وصوله للرئاسة، يمكن أن يستبعد عقلك أي جريمة سياسية أو حرب تدخل فيها أوباما عندما تقرأ كلامه الشخصي فتشعر وكأنه أحد الأصدقاء المقربين إليك.
هل تصور كاميرا “Humans Of New York” ما يريده المواطن الأمريكي؟
يضع “ستانون” الشخصيات في كادر ضيق، ويتحدث معهم في حوار يكتب منه جملة أو جملتين تحت كل صورة يقوم بنشرها، أنت لا تعرف كيفية الحوار بينه وبين المواطن، إلا أنه يقوم بتلخيص الحوار كاملًا في جملة توائم الصورة وتلمس مشاعرك مباشرة، يختلف البعض ما إذا كان ما يفعله هو صحافة أم توثيق لحظات تعبر عن وجهة نظره الشخصية، وأن ما ظهر مؤخرًا من صور يتحدث البعض فيها قائلًا “لطالما كنت أحلم بأن توقفني لتظهر صورتي على صفحتك”، أو “لقد كنت أعلم أنك ستوقفني في يوم من الأيام”، لا تدل على شيء إلا بأن الموقع أصبح بروباغندا عالمية يسعد الشخص فيها بكونه مشهورًا بسبب براندون ستانون.
في مقال بعنوان “مشكلتي مع هيومانز أوف نيويورك” على موقع “Gawker” اختلفت الآراء حول أهمية المشروع وهدفه الأصلي.
أنا أكره هذا المشروع، لقد كنت ساخرة في البداية، ولكن بعد أن رأيت تصوير الشخصيات بتلك الصور النمطية لم أعد أقتنع بالمشروع من الأساس، تصوير المهاجرين الكادحين، وهؤلاء مرتدين الأزياء الباهرة، وتصوير الأشخاص الذين يحاربون من أجل التخلص من السمنة المفرطة، والمشردين الذي يحاول تصوير قوتهم الداخلية التي من المفترض أن تثير إعجاب القارئ، لقد صوّر ستانون كل شخص كفكرة نمطية كما يريدها أن تكون.
أعترف أنني أُعجبت في البداية بذلك المشروع، ولكن بعد أن رأيت القيود التقنية والفلسفية التي يضعها المصور على من يتم التقاط الصورة لهم، شعرت أن الأمر أصبح يميل إلى التحايل أو التلاعب بالبشر أكثر منه تصوير لحظة معينة في حياتهم.
ويبقى السؤال، هل Humans of New York مشروع شخصي حالم للتضامن العالمي بالفعل، أم هو محض مشروع للبروباغندا الأمريكية؟