بكل ثقة جلس علي النعيمي في قمة أوبِك الأخيرة، وهو وزير النفط السعودي المستمر في منصبه منذ حوالي عقدين رُغم تجاوزه الثمانين من العُمر، لتستمر مسيرته التي بدأت بإدارة شركة أرامكو في رسم سياسات النفط السعودية، والتي تغيّرت كثيرًا على ما يبدو عن دورها القديم، إذ كانت الرياض في السابق تكبح إنتاجها لتحافظ على مستوى الأسعار من الهبوط، في حين هي اليوم تفعل العكس تمامًا: تحافظ على إنتاجها الغزير بينما تشاهد سعر البرميل وهو يهبط، كنتيجة طبيعية لاستمرار الإنتاج مع ركود الطلب، حيث يُعَد الطلب العالمي على النفط حاليًا 92 مليون برميل يوميًا، في حين يقف الإنتاج عند 94 مليون برميل يوميًا.
على الرُغم من ثقته في قرارات السعودية الأخيرة بالاستمرار في ضخ النفط للسوق العالمي بدلًا من تخفيض الإنتاج مع القدرة على تحمّل بعض الخسائر على المدى القصير، يبدو وأن النعيمي قد أصبح مكروهًا من دول أوبِك الأخرى، والتي بدا غضبها واضحًا في القمة الأخيرة، فهبوط الأسعار من 115 دولار للبرميل في صيف 2014 وصولًا إلى 39 دولارًا فقط هذا الشهر هو خبر شديد السوء لاقتصادات معظم دول أوبك الفقيرة مثل فنزويلا وأنغولا والجزائر ونيجيريا وإيران والعراق وإكوادور، والتي لا تملك احتياطيًا نقديًا كبيرًا يتيح لها تحمّل هبوط الأسعار مثل السعودية.
علي النعيمي وزير النفط السعودي
كارهو النعيمي في ازدياد إذن، بيد أنهم لا يملكون الكثير لفعله، أولًا لأن هبوط الأسعار خبر سعيد لمستهلكي النفط في كافة أنحاء العالم، حيث يتوقع أن توفر الأسرة الأمريكية الواحدة 500 دولار جراء هبوط أسعار البنزين، في حين ستُنعِش الأسعار الرخيصة للنفط الأسواق الأوروبية والصينية واليابانية التي تعاني ركودًا مؤخرًا، وثانيًا، وهو الأهم، لأن نصيب إنتاج أعضاء منظمة أوبِك يتضاءل في الحقيقة منذ سنوات بعد صعود الإنتاج الأمريكي من نفط شيل نتيجة اكتشاف الشركات الأمريكية لتقنية التكسير الهيدروليكي واستخراجها لملايين البراميل من النفط يوميًا في السنوات القليلة الماضية، وهو ما يعني أن نفوذ أوبِك في لعبة النفط لم يعد كسابقه.
هي لعبة جديدة تتشكل ملامحها بين النعيمي وشركات النفط الأمريكية التي أصبح صعودها حتميًا، إذ تحاول السعودية إلحاق الضرر بتلك الشركات لوضعها تحت ضغط يُخرجها من السوق أو يجبرها على الأقل على إلغاء بعض مشاريعها ليتباطأ صعودها السريع، حيث يؤدي هبوط الأسعار بالطبع لانخفاض أرباحها وبالتالي تقليص ميزانيات المشاريع المستقبلية لتلك الشركات، وهو ما يعني أن يظل نصيب السعودية من سوق النفط كبيرًا لأطول فترة ممكنة، حتى لو تضررت هي نفسها من هبوط الأسعار، فكما يقول ليوناردوا ماوجيري، خبير شؤون النفط والغاز بجامعة هارفرد ومدير شركة ENI الإيطالية سابقًا، “السعوديون يدركون أنهم سيتأذون، ولكنهم يطمحون إلى إلحاق أذى أكبر بغيرهم.”
الأذى الذي تريد السعودية إلحاقه هو بالشركات الأمريكية الجديدة، ولكنها في الحقيقة ستؤذي أعضاء أوبك في النهاية أكثر من غيرهم، ومنهم للمفارقة دول غريمة للولايات المتحدة، مما يعني بعض الفوائد السياسية لواشنطن رُغم تراجع شركاتها عن الإنتاج في الفترة القادمة، وأبرز هؤلاء هي فنزويلا، التي اعتمدت فيها شعبية نظام تشافيز الاشتراكي سابقًا على ميزانية كبيرة ارتكزت لعوائد النفط، والذي يمثل 96% من صادراتها، مما يفسر المعاناة الشديدة لنظامها الحالي في تسديد ديونه وتقديم الخدمات التي كان يقدمها في الماضي، وانكماش الاقتصاد فيها بنسبة 7%، ناهيك عن توقف إرسال الدعم المادي المعتاد لحلفائها مثل كوبا، وهو ما أشار له البعض باعتباره واحدة من أسباب تقارب نظام كوبا الفقير مع الولايات المتحدة.
روسيا أيضًا ستتضرر كثيرًا، وهو أمر يُسعِد واشنطن والاتحاد الأوروبي كذلك، فالروبل الروسي يهبط بسرعة منذ تطبيق العقوبات الغربية بعد الأزمة الأوكرانية، وهو ما يعني أن هبوط أسعار النفط تزيد الطين بلة في موسكو التي تعتمد في نصف دخلها على عوائد النفط والغاز، والتي يتوقع انكماش اقتصادها هي الأخرى بنسبة 3.4%، بينما ستهبط أرباح عملاق النفط الروسي، شركة غازبروم، بحوالي الثُلث، وهو ما يخلق ضغطًا كبيرًا على نظام بوتين كما يقول نيك باتلر، متخصص شؤون النفط والغاز بجامعة كينغز كوليدج الإنجليزية ومدير شركة BP البريطانية سابقًا، “غازبروم هي بمثابة ماكينة تدرّ المال لدائرة المقربين من بوتين.”
غازبروم
بالإضافة لذلك، تشهد العراق حاليًا حراكًا كبيرًا مناهضًا للحكومة في البصرة والجنوب بشكل عام نتيجة لعدم قدرتها على تقديم خدماتها كما في السابق، وهي مسألة تعود أيضًا لهبوط أسعار النفط الذي تشكل عوائده 90% من ميزانية الحكومة في بغداد، وعلى الرُغم من حالة الاصطفاف الشيعي التي جرت في الفترة الأخيرة لمواجهة داعش، إلا أن شرائح شعبية واسعة في الجنوب الشيعي بدأت في التعبير عن غضبها تجاه الحكومة في الأيام القليلة الماضية، وهي مسألة قد تفيد الأمريكيين نسبيًا والذين جرت خلافات بينهم وبين بغداد مؤخرًا والتي لا تزال أقرب لإيران من واشنطن، كما أنها ستفيد السعودية بالقطع والتي تتسم علاقاتها مع العراق بالتوتر الكبير منذ سنوات.
أما إيران، التي بدأت تقاربًا مع الولايات المتحدة مؤخرًا، وتعاني حاليًا من ضغوط في الميزانية نتيجة انخفاض الأسعار وتحتاج إلى وصولها لمائة دولارللبرميل لسد العجز في الموازنة، فإن وضعها الحالي يفيد السعودية نتيجة تعرض إنفاقها على حلفائها من الشيعة في المنطقة للضغط، وهي مسألة تعرّض النظام في الداخل للكثير من الانتقادات نتيجة حاجة الداخل الإيراني للمليارات التي تنفقها طهران في سوريا ولبنان والعراق، وهو ربما ما يفسر الحديث مؤخرًا عن التوصل لصفقة في الملف السوري، أضف لذلك أنه يفيد الولايات المتحدة في نفس الوقت نظرًا لاستمرار المفاوضات بين الطرفين في ملفات أخرى بخلاف البرنامج النووي، وهو ما يعني أن ضعف موقف إيران سيكون مفيدًا في كل الأحوال للأمريكيين سياسيًا.
تظاهرات ضد الفساد بالأمس في البصرة
ماذا بعد؟
إلى متى تستمر تلك الأزمة؟ في الحقيقة لا يبدو أنها ستتلاشى عما قريب نظرًا لتعلقها بتغيّرات طويلة الأمد في الاقتصاد العالمي، فالواقع أن جزءًا كبيرًا من الأزمة يعتمد على ما يجري في الصين أكثر من شركات النفط الأمريكية، فزيادة الإنتاج لطالما كان موجود في سوق النفط دون أن يؤدي لهذا الهبوط الحاد، والذي وقع بسبب ركود الاقتصاد الصيني وتباطؤ نموه بعد أن كان نموه السريع يرفع من الطلب على النفط بشكل ملحوظ، وبالنظر لكون هذا التباطؤ أمر حتمي لأي اقتصادٍ نامٍ وسيظل مع الصين لعقود بينما تتحول من اقتصاد نمو سريع رخيص إلى اقتصاد متقدم مثل الدول الأوروبية، يبدو وأن نمو الطلب على النفط لن يعود كسابق عهده إلا إذا ظهر مجال نمو سريع رخيص جديد يوازي حجم الصين.
“أوقات سعيدة تلك التي قضاها منتجو النفط في السنوات الماضية دون أن يدركوا أنهم يعتمدون على نمو الاقتصاد الصيني أكثر مما تصوّروا، الهشاشة الكامنة الآن في الاقتصاد الصيني ستؤثر على العالم كله، بما في ذلك صدمة النفط الجارية حاليًا”، هكذا تحدث دانييل يرجين نائب رئيس شركة IHS المتخصصة في تقديم المشورة حول الأسواق، والذي ألّف كتابين عن سوق النفط تحديدًا، وهو ما يعني أن عالم النفط ببساطة يدخل إلى مرحلة جديدة أكثر اعتمادًا على سياسات السعودية منفردة منها على منظمة أوبِك كُكل، فالسعودية التي لا تزال متربعة على عرش إنتاج النفط تستطيع رفع وخفض الأسعار في حين يبدو أن منظومة أوبِك لم تعد ذات فائدة لها.
أزمة البورصة الصينية هذا الأسبوع
بالمثل، سيكتشف منتجو النفط من أعضاء أوبِك أن المنظمة لم تعد تسير دفة اللعبة كما في السابق، وهو ما يعني إما خضوعهم للسياسات السعودية، أو شروعهم في رسم سياساتهم منفردين وربما زيادة إنتاجهم، وهو توجّه سيزيد الطين بلة، أو تبلور تحالف نفط على الأرض بين الدول المناهضة للسياسات السعودية، وفي هذه الحالة فإن تكتّل إيران والعراق وفنزويلا كفيل بإحداث بعض التأثير بالنظر لكون إنتاج تلك الدول الثلاث معًا يقارب الإنتاج الأمريكي أو السعودي، بيد أن تلك المجموعة على المدى القصير ستظل غير قادرة على امتلاك رفاهية خفض الإنتاج لرفع الأسعار، لا سيما أن إيران مشغولة الآن بفتح أسواقها للغرب وتعزيز دخلها القومي.
“أوبِك قد تموت بالفعل، ولكن قوة السعودية ستبقى نظرًا لبقائها على عرش النفط منفردة”، هكذا تحدث روبينسون ويست، مستشار لدى مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، في إشارة واضحة لملامح اللعبة الجديدة، والتي ستنحصر على ما يبدو بين ماكينة الضخ السعودية التي تأبى التخلي عن نصيبها ولو مع هبوط الأسعار من ناحية، وشركات النفط الأمريكية الصاعدة من ناحية أخرى، بالإضافة لسلطان غازبروم الروسي، وأي تحالف نفط قد تشكله كل من إيران والعراق معًا في المستقبل البعيد، لتتشكل لدينا معادلة ثلاثية أو رباعية للعبة النفط، خارج إطار منظومة أوبِك التي ستصبح قريبًا جزءًا من الماضي.